زندالي - أمين الغزي

108 19 1
                                    


زندالي للكاتب التونسي أمين الغزي الفائزة بجائزة الاتحاد الأوروبي كأول رواية عربية تتوج بالجائزة.


اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.


بداية بما يعنيه لفظ «زندالي» فإنها التسمية التي تطلق على نشيد السجون التونسية، تلك الترانيم والأغنيات والأناشيد العميقة المليئة بالشجن التي يؤلفها ويغنيها المساجين في الزنازن التونسية.

تدور أحداث الرواية في تونس ليلة 14 جانفي بعد أن هرب بن علي لوجهته المجهولة. وكما ذكرت بالضبط الدكتورة رجاء بن سلامة في مراجعة هذه الرواية متناولة هذا العنوان المميز ومدى تعلقه بالأحداث المكتوبة «زندالي، عنوان الرواية، يحيل إلى أغاني السجون بتونس ويبسط ظلاله على الرواية التي تتعدد فيها مشاهد الرقص والشرب. كما  أنه يطرح جدلية القيد والتحرر وتعقد مسألة التحرر: هل نتحرر بالخروج من السجن؟ أم أننا نبني سجنا آخر إذا تحررنا؟»

 تصور الرواية الواقع تماما كما حدث، لدولة كانت تعايش حدثا تاريخيا عظيما بطريقة مخمورة دون أن يفهم أي شخص ما حدث ولا لماذا حدث ولا إلى أين سيؤدي الأمر ولكن الجميع يتشارك شعور الثمالة والعظمة رغم أن لا أحد كان يعني أن يقع ما وقع للتو أو يتوقعه، إذ في تلك الليلة ودون سابق إنذار، فر رئيس الجمهورية التونسية تاركا وراءه شعبا غاضبا ولم يصدق هذا الشعب أن الدكتاتور قد ترك الكرسي والبلد وولى نحو نهاية لا مثيل لها في تاريخ هذا البلد.

الرواية دون بطل تماما كما كانت الثورة التونسية، ثورة بلا بطل ولا قيادات قادتها الفورة الجماعية دون هدف دقيق ولكن النتيجة المباغتة صنعت في خضمها أبطالا، أبطال الدهشة أكثر من أبطال المقاومة، أبطال انتفضوا ليقاتلوا في لحظة اندثار العدو نفسها، أبطال أدركوا أن عليهم بعد أن حدث ما حدث أن يحموا هذا البلد من كل احتمالات الخوف المستقبلية، يدا بيد، تحركهم في هذا النشوة والدهشة والحماسة.

 أكثر ما أحببته، تناول الكاتب شخصيات مختلفة تماما، بين عامة الشعب والبوليس، بين النزيه والعشوائي والمجرم، في مشاهد تتقاطع تارة وتتفرق أخرى مشرحا تلك الليلة تشريحا دقيقا من مختلف الزوايا ووجهات النظر عبر 16 عشرة شخصية مختلفة لكل منها خلفية ويمثل كل منها جزء من هذا الشعب الذي رقص رقصته الجماعية على موسيقى الثورة المجيدة دون أدنى وعي ودون أدنى خطة أو مسار، خلالها ترى البوليس الذي يتصدى للمواطنين دون أدنى قناعة بما يفعل، إنه العدو في نظر الشعب ولكنه لا يهتم فعليا بما يريده النظام، إنه يعمل لكي يحصل على لقمة عيش ويطبق الأوامر دون انتماء حقيقي للنظام وممارساته وربما دون أدنى موقف، على الكفة الأخرى، تجد الشرطي الذي ينتهز الفرص ويتهور في التصدي وربما دافعه الجلي ليس أي انتماء بقدر ما هو تفريغ للنفس من الضغوطات الحياتية المؤرقة لهذا الفرد، ودفاع فطري عن النفس والمكانة بعد أن سقط النظام القائم وصار كل المحيطين به أعداء. عائلات البوليس التي لا تدعم الثورة لأنها تشعرهم بالخوف والخطر ووقوفهم وجها لوجه أمام شعب غاضب دون ذنب حقيقي ودون حماية.  تجد نموذجا للداعم السابق للنظام المستبد الذي انتقل إلى صف الشعب ما إن تغيرت القوى، هدفه الأساسي العثور على مجال آمن للعيش تحت ظل أي شيء دون انتماء دقيق لمبدأ واحد. القيادي الذي ولد بعد الثورة تحديدا محاولا الركوب فوق تيارها ليقود القطيع نحو ما يخاله المستقبل الأفضل لهذا البلد، المواطن البسيط الذي يريد أن يفتخر الآن بأنه وفي خضم كل هذا هو مناضل وثوري ومؤثر في التاريخ وغيرها من الشخصيات التي ستعكس شتى الأبعاد النفسية والفكرية للشعب الذي خرج ليحتفل وليثور وينصهر مع الموكب الثوري في رقصة عشوائية مطلقة.

 الرواية تونسية باحتراف، تلتمس داخلها قلب هذا الشعب وملامح هذا الوطن وثقافاته المتنوعة وسذاجته اليومية وعشوائيته الدائمة وركضه المسعور خلف التيار أيا يكن رافعا راية البطولة لبطولات لا يعرف عنها شيئا.

أمين الغزي ليلة هروب بن علي لون الحادثة بأغنية «كلمتي حرّة» من كتابته والتي غنتها آمال المثلوثي لتكون رمزا للحرية والمقاومة والثورة ونشيدها الوطني الأقدس واليوم في زندالي يطلق نغما جديدا للحدث ذاته بطريقة مختلفة وكأن هذا الكاتب لم يخلق إلا ليشهد تلك الليلة التي ستخط سلسلة ناجاحاته الساحقة ل11 سنة متالية.

الرواية جيدة للقراءة، ممتعة أحيانا، لغتها تقترب كثيرا في عديد المرات من اللهجة التونسية، إن لم تكن المفردات نفسها عامية فإن طريقة التفكير وبناء الجمل الفصيحة قد تم بناء على ترجمة حرفية من العامية التونسية للفصحى. عمل خفيف للقراءة وبناء فكرة عن تاريخ انطلاق الربيع العربي في الوطن العربي، لم أحبذ في عديد من المرات إضافة مقاطع محاكاة لبعض الأصوات "اششششبب" مثلا إيحاء بغوص الشخصية في شرب الخمر ولكنه رأي لا يخرج عن نطاق التفضيلات الشخصية إذ نسبة لتكوين العمل يمكن العثور على دلالات فنية لهذا الشكل من الصياغة. 

مستوى العمل مقبول بالنسبة لي على صعيد الأسلوب والحوارات والبناء وحتى المستوى اللغوي، أما على مستوى الأفكار وبناء الشخصيات والأحداث والتداول بينها بتوازن وضمن تركيبة روائية متشضية فإن العمل لا يخلو من الإبداع والابتكار، إذ لا أعتبر أن يكون سهلا كتابة عمل متكامل في حيز زماني لا يتجاوز الليلة بهذه الدقة في السرد وتصوير الأحداث والوقائع والأهم هذا التشريح النفسي الدقيق لمختلف شرائح الشخصيات المشاركة في هذا الموكب الكبير.

يستحق هذا العمل أن يُقرأ وأعتبره مكسبا جميلا يضاف إلى رصيد الأعمال العربية المعاصرة والمبدعة. وأتوقع أن يتذكر التاريخ المستقبلي هذا العمل طويلا لما يحمله من تصوير تاريخي دقيق لأحداث حساسة قلبت شكل الحياة في تونس.


أرض الورقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن