أرض الورق

بذلة الغوص والفراشة

إن جسدت هذه الرواية شيئا، فإنها تجسد الإرادة البشرية في أقوى وأشرس تجلياتها.

ينقل لنا هذا العمل يوميات الكاتب الفرنسي جون دومينيك بوبي بعد تعرضه لجلطة تسببت بدخوله في غيبوبة عقبتها إصابته ب"متلازمة المنحبس" وهي حالة مرضية يفقد خلالها المريض قدرته الكاملة على الحركة أو الكلام، الخطأ الوحيد أن جون دومينيك بقي قادرا على تحريك عينه اليسرى ومن خلال رمشها قام بكتابة هذا العمل بالتعاون مع مساعدته كلود، التي اعتمدت ترتيب حروف اللغة الفرنسية حسب الأحرف الأكثر استعمالا وتلاوتها على الكاتب حتى اذا ما بلغ الحرف المقصود رمش بعينه اليسرى.

لعل هذه اليوميات هي صرخة الكاتب الأخيرة لينقل إلينا تجربته المرضية بالتفصيل بعد أن صارت روحه الحرة كفراشة مزركشة أسيرة في جسده، أو ما صرنا نسميه بدلة الغوص. الصرخة الأخيرة قبل أن يغادر الحياة بعد ثلاثة أيام بالضبط من نشر هذا الكتاب بسبب إصابته بذات الرئة.

تسمح لنا اليوميات باكتشاف تفاصيل الحياة بمشفى بارك أين قضى البطل آخر أيامه، مشاركين وإياه أحداث يومه كرجل مشلول كليا ولا قدرة له على الكلام، نتوغل داخل أكثر أفكاره جنونا في نسق عشوائي وسريع وصادق، يملأه الفن المنوع والمشاعر الخافقة وقد طغى على الجو العام حس فكاهي خفيف رغم شراسة المأساة، ضرب من الكوميديا السوداء أو ربما أسلوب مقاومة وبقاء طوره الكاتب كي يستطيع مواصلة الحياة محبوسا وسط قطعة من الخردة.

تتجول بنا الأحداث أيضا داخل ذكريات سابقة لجون، ذكريات تعج بالسعادة والحياة والصخب والطرافة وتغلفها الحسرة والحزن أحيانا. مراوحة يين الماضي والحاضر تعكس نفسية الكاتب وصراعه الشديد بين الأمل في العودة لما كانت تسير نحوه الأمور في السابق وبين محاولاته لتقبل الواقع المرير الجديد والاقتناع به وبناء حياة جديدة مختلفة في خضمه. صراع محتدم بين آمال وأحلام مختلفة للمستقبل ومحاولات يائسة في الاستمرار وتطويع الظروف بما يليق بالمعطيات الجديدة دون الوقوع في حلقة اليأس المفرغة. ترافق هذا بالتوازي قراءة جديدة للماضي وتفاصيله وانطباعات البطل حيالها بعد التفكر فيها عبر زاوية جديدة  وتحليل مختلف.

عمل أكبر من النقد، قطعة أدبية إنسانية تستحق القراءة والتأمل العميق لكثرة ما فيها من الصدق، تقدم درسا وجوديا عظيم الوقع، ومع نهاية آخر سطر ندرك   أن جون دومينيك قد انتصر في جعل الظرف القاسي يخضع له وفي رسم حضور قوي له رغم العجز، وجود سوف يدوم عمرا طويلا. هكذا نصدق نحن الباقون هنا أن الفراشة قادرة دائما بطريقة أو بأخرى على اختراق بذلة الغوص والتحليق بعيدا جدا.