حدث أبو هريرة قال... - محمود المسعدي

20 2 0
                                    

إن لم تفك الكتب التي نقرأها رموزا في أرواحنا ولم تفتح بوابات وثقوب في أفكارنا فإنها لا تساوي شيئا

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

إن لم تفك الكتب التي نقرأها رموزا في أرواحنا ولم تفتح بوابات وثقوب في أفكارنا فإنها لا تساوي شيئا.

"حدًث أبو هريرة قال..." كتاب لا تخرج منه كما دخلت إليه.  وفي تاريخي الشخصي المعاصر فإن هذا الكتاب لهو رصاصتي الثانية  التي أثقلت الوجود بمجازه اللامحدود في كياني وفتحت داخله بوابات حسية وفكرية جديدة شاسعة.

بعد تجربة القراءة الشاقة، أقول، أن القراءة الأولى لهذا الكتاب لا يمكن أن تتخطى مشهد البعث الأول، وإنها لبعث أول للروح منهك مضني بكل ما يلبسه من حيرة وغموض وسؤال. فإذ بك وأنت تنهي الكتاب لأول مرة أبا هريرة في مكته وبيته، مغلولا مكبلا، وإذ بك تشاهد من الأبواب الفارغة صحراء  ممتدة ترقص في سمائها ريحانة تارة وظلمة طورا ثم تحرق النار كل شيء ويظهر من رمادها بشر يمزقون أجسادهم وينهشون لحم بعضهم. تمر الساعات بعد القراءة وأنت تفكر في كل المشاهد والأحداث والرموز المعقدة حتى يستقر بك الحال مهموما مريضا، وإذ بكل أفكارك تتعفن ثم تطفو وإذ بك تتقيؤ قلبك ويخيل لك أن روحك تقاسي ويلات مخاض وهمي فتصرخ بكل ما في الولادة العسيرة من ألم وعويل.

وحين يهدأ شيء من الروع، أخالك أيها القارئ كما رأيتني نركض بين مقدمة توفيق البكار ودراسات الآخرين في حديث أبي هريرة للمسعدي، يخيل لنا أننا بهذا سوف نروي الضمأ الشديد الذي صار فينا فلا تزيدنا الشروح إلا عطشا وحيرة، كأنها البنزين الذي يصب على النار  ونبقى لا نفهم سر دخانها.

ثم يحين موعد القراءة الحقيقية للكتاب، وهي اللحظة التي تتحول فيها أيها القارئ أنت نفسك لأبي هريرة وقد استوت نفسك حتى صرت جاهزا لخوض المغامرة الوجودية والحسية الحقيقية، فها أنت على راحلتك مستعدا كل الاستعداد هذه المرة كي تجوب الصحاري والبحار، كي تحط عند مجالس الخمر والنار والنساء وكي تصلي عند الدير قريبا من السماء، وها إنك تعيد القراءة في الحديث الواحد كأنك تعصره من قطرات الندى وتعيد النظر فيه وفي قراءات الآخرين له خائفا من أن يفوتك شيء يحبس النفس في ظلالتها أكثر ويحكم على التجربة العظيمة بأن لا يتم فيها المعنى.

وها إنك الآن فقط قد بدأت ترى في اللغة التي كانت معقدة كالألغاز لغة سهلة سلسة، وقد صارت الطلامس فجأة نبأ مفهوما وإيقاعا لذيذا كأنه مفاتيح خلقت لتفك في الروح أبوابا لم تدري بها يوما. وها إن الأزمنة تأخذ وزنها معك فتتبين لك البداية من النهاية، والحياة من الفناء، و إذ بالأماكن تكتسب رائحة مختلفة وألوانا وإذا بالأسماء تصير لها وجوه دقيقة، وها إنك تسمع غناء ريحانة وترى في ظلالها لذة وإذا بحضورها يثقل الجسد ويمنح الأطراف وزنا فيرفرف في حسنها قلبك، وإذا بظلمة تصعد بك إلى عليائها فتخال أنك معها ستشرب من رحيق السماء وتسمو وتستحيل سحابة بين السحب فلا يطعمك سموها إلا الرمل وإذا بك تهوي معها إلى الطين وتتمرغ فوقه كخنزير.

وتهب في الأرض  سيدا على قوم وقائدا، تحيي وتقتل، تشرع وتدعو،  ثم تهدم وتنفر، حتى إذا ما اشتد بك البؤس ولم تعثر على نفسك فيم بنيت ودعيت ترتد إليك وتهب في الأرض وحيدا موحشا كما بدأت. وإذ بك تلقي بنفسك في البحر تسمح له بأن يتقاذفك وتتقاذفه حتى تفرغ من مده وجزره فترتد  منه إلى مستقر أخير، وها أنت بين هذا وذاك حتى تغمرك القناعة  فتتوحد مع الوجود الأعظم وتقنع بنفسك خط دم على صخر.

تنتهي بك الرحلة هناك، فتجد نفسك تجلس وقد أطل الفجر بوجهه الخجول يحيي وجهك فتهمهم في سرك، رحم الله أبا هريرة، لقد كان إنسانا وصرت اليوم به إنسانا شقيا حيا، فإنه لم ينصهر بالحياة إلا ليصير خط دم على حجر منسي في دواخلي.

إنني أشفق على الذين لن يقرؤوا هذا الكتاب، وعلى الذين قرؤوه قرأ العطشان يروي نفسه من زبد البحر، وعلى كل الذين لم يجدوا في أنفسهم أبا هريرة وقد استقل عن نفسه فعزم أن يخطو في الوجود بوجه جديد.

يجعلك هذا الكتاب إنسانا جديدا، يصفف صفحات حياته على رف ثم يقرأها بطريقة مغايرة فيضحك من آلامها القديمة وأفراحها الساذجة، ثم يشعل نارا من العدم فيحرق بها المكتبة متحررا من نفسه وظنونه وأفكاره ومعتقداته وقد حملت نفسه عمقا جديدا وأدرك أن في أغواره كنوزا كثيرة منعه منها هيامه الدائم على السطح يقتل الأيام فتقتله.

وإذا بالحياة الآن خط من الأزل إلى الأبد لا نعرف مأتاه ومستقره، وإذ بهذا الإنسان يفهم أنه لا يعلم ما يريد وليس لحياته من هدف أو معنى صريح ثابت، إنما هي ما شبه له وما بقي يستند إليه حين يحدث نفسه فيزيل به مؤقتا بعض الشقاء،ثم يستدرك فإذا بكل هذا وهم قد صنعه وإذ به غير ما كان يعتقد.

أبو هريرة يوقظك على حقيقة أنك رحالة في وجودك تحاول أن تعثر على المعنى فيخيل لك مرارا أنه هنا وتستمر تخلق له شبائه تغرق فيها حتى تمرضك ويعمك القدر فتهرب منها إلى غيرها باحثا عنك، وليس للحياة من تطور وتقدم لو لم يكن الإنسان شقيا لا يكتفي بما لديه فيهرع كي يولد من العدم بنيانا حديثا يشغف به حتى يصير بدوره غير مستحدث فيهرب منه إلى غيره، هكذا مرارا وتكرارا وإلى ما لا نهاية حتى يستحيل مطلقا وعدما فلا يبقى منه إلا الأثر، الأثر الذي ينام عليه غروب اليوم وينطلق منه فجر جديد بذات الجوع والشقاء والحيرة والأمل.

رحم الله أبا هريرة، ورحم الله المسعدي فقد  كان عظيما.

14/02/2023

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Mar 03, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

أرض الورقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن