عيسىٰ

198 14 3
                                        

مُفترق طرق، تلك المرحلة التي تقف فيها حائراً ،ساق في الشرق وأخرى في الغرب، لا تدري أي وجهة تحمل مصير أحلامك،  عينيك لا تبصر شئ سوى القرار، وهذا يجب اتخاذه بروية وعلى أقل من المهل المدروس حيث لا مجال للندم والقاموس لا يوجد به كلمة تراجع..في موقف رمسيس الشهير بالقاهرة، وبين أصوات الحياة المتداخلة مع أبواق السيارات وهتافات الباعة الجائلين والمُنادين لتحميل حافلات السفر بالركاب كان يسير حاملاً حقيبة ظهر ويجر خلفه أخرى، يبحث عن الأتوبيس المُكيف المُسمى بالـ (سوبر چيت)، المُتجه نحو الإسكندرية والتي حجز به تذكرة كلفته أربعون جنيهاً،  ربما تلك الجنيهات الزهيدة آخر ماتبقى له من راتبه الضعيف لكنه لايستطيع تحمل معاناة السفر بتكلفةٍ أقل، بشرته البيضاء، المُنمشة تتأثر بأشعة الشمس التي بالكاد تظهر لون خصلاته البنية المائلة للإشقرار .. عيسىٰ الإبن الأصغر لعائلة ميسورة الحال، ومن المُفترض أن آخر العنقود سُكر معقود لكن في حالته سُكره مِلحٌ أُجاج وعنقوده مقطوع ومفروط لثلاث حبات، حبة كبرى بهيئة أخ أناني، حاقد، يُضمر له من الكره مايكفي لإحراقه حياً، وحبة وسطى كأخت كثيرها قليل وقليلها نادر، لا تعطيه إلا من طرف اللسان حلاوة ومافي القلب محله القلب حتى وإن بيضوا الكنائس.. ضاقت الحياة به ذرعاً بعد وفاة والده،والنبذ من إخوته ازداد أكثر فهو إن كان مُدلل المغفور له بإذن الله ومُفضله في حياته سيظل إبن الزوجة الثانية، صائدة الرجال التي حطمت حياة والدتهم وسرقت زوجها منها لتتزوجه وتنجبه وتبليهم به ليقاسمهم الميراث، والآن الجميع رحلوا وأصبحوا بين آيادي الرحمٰن وحانت قِسمة الحق .. لم ينتظر الأخ الأكبر مرور أيام الحداد ليقوم بإعلام الوراثة ثم عرض ممتلكات الأب للبيع بِما فيهم الشقة التي يسكن فيها شقيقه الأصغر ووصية أبيه، وفي غضون أسابيع وجد عيسىٰ نفسه بلا مأوى ولا سقف يحتمي تحته.. أُلقي في غيابات الشوارع مع إرثه المُستحق، ونفض الأخوة أيديهم عنه كمن ينفض ذرات الغُبار .. أحزنه القريب ولم يترك المهمة للغريب،خانهم الدم وطردوه من مكانه، أفزعوه في نومه ولم يعد يجد منزله الآمن،منهم إلى الله.. لا سامحهم ولا عفا عنهم دُنيا وآخرة . .عيسىٰ نفسه عزيزة ولو انطبقت السماء فوق الأرض لن يقبل عطف أو إحسان من أحد حتى نظرة الشفقة تؤلمه، لديه مبدأ أن من يمتلك ذراعاً وكتفين قادراً على امتلاك زمام أمره مهما شقته العقبات شقاً .. وبعد طول تفكير اتخذ قراراً مصيرياً وهو سرقة صِواع الذكريات ووضعه في رَحل الغربة ليترك القاهرة بأوجاعها وينتقل للعيش في الأسكندرية حيث عمله الجديد الذي قُبِل به مؤخراً، وقف أمام الحافلة الضخمة يطالعها وكأنها صندوق كبير سيبتلعه ثم سأل رجل يقف بجانبه (هو ده الأتوبيس اللي رايح إسكندرية؟) .. نظر إليه الرجل مبتسماً من لدغته في حرف الراء والتي طالما كانت علامته اللطيفة، المميزة قائلاً (آه هو) .. شكره عيسىٰ بطريقة مهذبة وصعد درجات السُلم المؤدية للمقاعد المُتراصة جنباً إلى جنب بشكل ثنائي بعد أن وضع حقائبه في مكان خاص بها، جلس في مقعده بجوار النافذة مستنداً برأسه على زجاجها البارد وسماعات الأذن تؤنسه بكلمات يودع بها العاصمة، مسقط رأسه، القاهرة التي لم تقهر أحد غيره وحزن العالم يتجمع داخل قلبه وكأنه يتشارك الهم مع أحدهم

رسائل رَوَاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن