الفصل الأول

1.8K 38 5
                                    


الفصل الأول




"يجب أن أطردكِ من العمل الآن، لاني"، حدّقت بها رئيستها.
"أي شخص سيكون سعيداً بالحصول على عملكِ، وجميعهم سيكونون أقل غباءاً منكِ!"
"أنا آسفة!"، تجمّعت الدموع في عينيّ لاني ماي هنري وهي ترى القهوة الحارّة التي سكبتها للتو على معطف ربّة عملها المصنوع من الفرو الابيض الباهظ الثمن، والذي كان معلقاً على ظهر كرسيّها.
إنحنت للأمام وحاولت بيأس أن تنظّف بقعة القهوة بطرف قميصها القطني ذو اللون الباهت.
"لم يكن هذا..."
"لم يكن ماذا؟"، قالت لها ربّة عملها-الكونتيسة الأميركية ذات الجمال البارد التي تزوّجت وتطلّقت لأربع مرات- وهي تضيّق عينيها المتبرّجتين بإتقان. "ما الذي تحاولين قوله؟"
لم يكن هذا خطأي.
سحبت لاني نفساً عميقاً. تعلم أنه لا توجد فائدة من إخبار الكونتيسة أن صديقتها قد جعلتها تتعثر عن قصد حين أحضرت لهما القهوة. ولن يكون الأمر مهماً، لأنها قد رأت المشهد بكامله وضحكت بقوة مع صديقتها وهي تراقب لاني تتعثّر ثم تطلق صيحة صاخبة، لتسقط بطريقة خطرة على السجادة الثمينة التي تغطي أرضية هذا المكان المترف الواقع في "إمارة موناكو".
بالنسبة لرئيستها كان الأمر برمّته مزحة، حتى رأت القهوة تلطّخ معطف الفرو الطويل خاصّتها.
"حسناً؟، طالبت ميمي دو بليسيس، كونتيسة فورسيل. "أنا أنتظر"
أسقطت لاني نظراتها على الارض. "أنا آسفة سيدتي الكونتيسة"
إستدارت رئيستها لتنظر إلى صديقتها التي كانت ترتدي ثياباً من ماركة "دولس اند جابانا" من رأسها حتى أخمص قدميها بينما تجلس على الجهة المقابلة من الأريكة البيضاء الجلدية وهي تدخّن بشراهة. "إنها غبية، أليس كذلك؟"
"غبية جداً"، قالت صديقتها موافقةً، وهي تنفث غمامة رمادية.
"من الصعب العثور على مساعدة جيّدة هذه الايام"
قضمت لاني شفّتها بقوة وهي تحدّق في السجادة البيضاء. لقد تم تعيينها منذ سنتين لتنظّم خزانة ملابس ميمي دي بليسيس، ولتدير أعمالها الخيرية ولقاءاتها الإجتماعية. وسريعاً، اكتشفت لاني السر خلف كون أجر الوظيفة عالياً جداً. لقد كانت تعمل طيلة النهار والليل، وأحياناً تُجبر على العمل لمدة عشرين ساعة كلّ يوم، وأن تتحمّل تذمرّ الكونتيسة من كل شيء.
كلّ يوم طيلة آخر سنتين من عمرها، كانت لاني تحلم بترك العمل والعودة الى نيو أورلينز، لكنها لم تستطع لأن عائلتها بحاجة ماسة إلى المال، وهي تحب عملها.
"خذي معطف الفرو وإخرجي من هنا. لا أستطيع تحمّل رؤية وجهك الصغير المثير للشفقة لـ لحظة واحدة بعد. خذي المعطف إلى المصبغة وويلٌ لكِ إذا لم تعيديه قبل حفلة رأس السنة هذه الليلة"
صرفتها من الغرفة، ثم أعادت تركيز إنتباهها على صديقتها، وهي تتابع محادثتهما الأوليّة. "أعتقد أن كاسيوس بلاك سيقوم بخطوته أخيراً"
"هل تعتقدين هذا؟"، سألتها صديقتها.
إبتسمت الكونتيسة، مثل قطّة فارسية متعجرفة ترى أمامها طبقٌ مصنوعٌ من الذهب الخاص ممتلئاً بالكريمة الدسمة.
"لقد بذّر بالفعل الملايين من اليورو وهو يعطي قروض لرئيسي دون ذكر المصدر أو الإسم. لكن بالطريقة التي تسير فيها الأمور، فإن شركة رئيسي ستفلس خلال هذا العام. وقد أخبرت كاسيوس أخيراً أنه إذا كان يخططّ لـ كسب إهتمامي، فعليه التوقف عن رمي الأموال وإستنزافها وأن يدعوني برفقته في موعد بالخارج"
"ماذا قال؟"
"لم ينكر الأمر"
"إذاً سيأخذكِ إلى الحفلة هذا المساء"
"ليس حقاً.."، هزّت كتفيها.
"لكنني سئمت من إنتظاره ليأخذ الخطوة الأخيرة. من الواضح أنه واقع بالحب معي بجنون. وأنا على إستعداد للزواج مرة اخرى"
"زواج؟"
"لِمَ لا؟"
ضغطت صديقتها على شفتيها، "عزيزتي. أجل. كاسيوس بلاك ثريّ وجذاب كثيراً ومرغوب كـ الخطيئة، لكن مَنْ يكون؟ من أين أتى؟ من هم عائلته؟ لا أحد يعرف"
"ومن يهتم!"
ميمي دي بليسيس، التي تتفاخر دائماً بكونها تستطيع تتّبع تاريخ عائلتها ليس فقط منذ هجرة سفينة مايفلوير الشهيرة من إنكلترا إلى أميركا عام 1620، بل منذ عهد الملك تشارلز العظيم في القرن السابع ميلاديّ، هزّت كتفيها ولم تهتم الآن.
"لقد سئمت من الأرستقراطيين الذين لا يملكون حتى دولاراً واحداً بإسمهم. زوجي الأخير، الكونت، إستنزفني حتى الموت. بالتأكيد، حصلت على لقبه ولكن بعد الطلاق إحتجت للعثور على وظيفة. تخيلي.. أنا! ووظيفة!"
إقشعرّ جسدها لهذه الإهانة، ثم أضاء وجهها. "لكن ما أن أصبح زوجة كاسيوس بلاك، لن أعود مضطرة للقلق بخصوص العمل مجدداً. إنه يقع في المرتبة العاشرة من قائمة أغنى أغنياء العالم!"
نفثت صديقتها غمامة رمادية أخرى بنعومة. "بل التاسع. إستثماراته في مجال العقارات قد أصبحت تسير بقوة وسرعة مثل الصاروخ"
"بل أفضل. أعلم أنه سيحاول تقبيلي عند منتصف الليل. لا أستطيع الإنتظار. كما أنه قادر على إمتاع زوجته..."
ضاقت ملامحها الحادّة حين رأت لاني لا تزال لم تتحرك، وتقف بترددّ إلى جوار الأريكة، تحمل المعطف الثقيل بين ذراعيها. "حسناً؟ لماذا ما زلتِ هنا؟"
"آسفة، سيدتي. لكنني بحاجة إلى بطاقة إئتمانكِ"
"ولِمَ يجب عليّ أن أعطيكِ بطاقتي؟ يا لها من مزحة. إدفعي بنفسكِ، وأحضري لنا المزيد من القهوة. وأسرعي، أيتها الغبيّة!"
حملت المعطف الثقيل، وهبطت بالمصعد إلى الدور السفليّ، وخرجت بتثاقل من مدخل "فندق دي كاريلون" المترف نحو أفخم شارع في موناكو الممتلىء بمتاجر المصممين الثمينة، ويطلّ على "كازينو دي مونتي كارلو" الشهير و يجاور البحر المتوسط.
حين خرجت من الفندق السكنيّ الحديث، إبتسم الحارس بوجهها. "كيف الحال، لاني؟"
"كيف حالكَ، جاك؟"، ردّت وهي تفتعل إبتسامة، لكن الغيوم الرمادية كانت تثقل قلبها.
لقد توقف المطر للتوّ، والشارع كان مبللاً، وكذلك كانت السيارات الرياضية الثمينة التي تتسارع في الطريق، إلى جانب السيّاح ذوي المظاهر البالية وهم واقفون سوياً في مجموعات على الرصيف.
في آواخر ديسمبر، تصبح الأمسيات الشتوية قصيرة، ويطول الليل، لكن هذا يزيد من بهجة ليلة رأس السنة. إنه وقت ممتع بالنسبة للجميع، خاصة بالنسبة لمالكي اليخوت الأثرياء، فيزورون موناكو ويستمتعون بالحفلات الحصرية، ومتاجر الأزياء والمطاعم الراقية.
هدأت أعصاب لاني لأن المطر قد توقّف، وبغضّ النظر عن قلقها من أن يتبللّ المعطف، ركضت بسرعة كبيرة خارج الفندق دون أن ترتدي معطفها الخاص، وإقتصرت ثيابها على قميص أبيض، وبنطال فضفاض، وحذاء منخفض مفتوح من الخلف، بينما شعرها الأسود معقود في جديلة. فكانت تبدو تماماً مثل خادمة.
لكن حتى بدون المطر، كان الهواء رطباً وبارداً، والشمس خافتة.
ولأنها كانت ترتعش، إحتضنت معطف الفرو بقوّة بين يديها، لتحميه من التلطّخ إذا ما مرت سيارة، ولتبقي نفسها دافئة.
لم تكن تحب معاطف الفرو الخاصّة برئيستها كثيراً، لأنهم يذكرونها بالحيوانات الأليفة التي كانت تحب أن تربيها في منزل جدتها الواقع خارج نيو اورلينز.
كلاب الصيد اللطيفة والقطط الناعمة.
لقد أعانوها على تجاوز الألم أثناء مراهقتها، والتفكير بهم كان يدفعها للتفكير بخصوص كل شيء آخر تفتقده في منزلها ووطنها.
شعرت بغصة في حلقها... لقد مرّ عامين منذ أن رأت عائلتها لآخر مرة.
لا تفكري بالأمر.
سحبت نفساً عميقاً.
كان الفرو بين ذراعيها منفوشاً، ولاني كانت صغيرة الجسد، لذا نقلت المعطف ليستقرّ على كتفها لكي تتمكن من النظر إلى هاتفها الذكيّ.
لكن ما أن استكشفت مكان أقرب مصبغة لتنظيف الفرو، حتى تدافعت وتزاحمت قربها مجموعة كبيرة من السيّاح، وهو يتبعون العلم الذي يحمله مرشدهم السياحي أمامهم.
تعثرت لاني للأمام بعيداً عن الرصيف ووقعت على الشارع.
أدارت وجهها وهي تشهق في حركة بطيئة، لترى سيارة رياضية حمراء تقترب منها!
سمعت صوت إحتكاك قوي للدواليب بالشارع، وشعرت بالألم والندم لكونها ستموت بعمر الخامسة والعشرين، ولوحدها بعيداً عن الوطن والأشخاص الذين تحبهم، بينما تحمل معطف رئيستها القذر بين يديها وتنتظر أن تدهسها سيارة غريبة.
تمّنت فقط لو كان بإمكانها أن تخبر جدّتها ووالدها لمرة واحدة أخيرة أنها تحبهما.
أغلقت عينيها وحبست أنفاسها حين شعرت بجسدها يتلقّى الضربة.
إصطدمت بها السيارة، لتطير على سقفها، ثم سقطت بقوة على شيء ناعم.
هرب الهواء من رئتيها، وبينما كانت تصارع لإلتقاط أنفاسها تحوّل كل شيء أمامها إلى الظلام.
"اللعنة، بِـ ماذا كنتِ تفكرين!"
كان هذا صوت رجل. لكن من الممكن أنها قد ماتت الآن ايضاً.
فتحت لاني عينيها بصعوبة لترى رجلاً يظللها بقامته بينما يطالع وجهها. لكن وجهه وجسده كانا مختبئين خلف الظلام، لكنه طويل القامة وعريض الكتفين.
وكما يبدو... غاضب!
تجمّع الحشد حولهما بينما إنحنى الرجل على ركبته بجانبها.
"لماذا ركضتِ في الشارع بهذه الطريقة؟" كان الرجل أسود الشعر والعينين...
وسيم!
"كان من الممكن أن أقتلكِ!"
فجأة، تعرّفت لاني عليه!
بدأت تسعل ، وهي تجاهد للجلوس حين إجتاحتها موجة من الدوار أشعرتها بالمرض.
"كوني حذرة، تباً لكِ!"
"كاسيوس... بلاك"، قالت بصوت أجش.
"هل أعرفكِ؟"، سأل باقتضاب.
لماذا قد يفعل؟ إنها لا احد.
"لا..."
"هل أنتِ مصابة؟"
"لا"، همست، ثم أدركت أنها حقاً ليست مصابة.
نظرت إلى الأسفل، فرأت أن الفرو قد خفّف من تأثير الضربة على جسدها مثل مخدة ناعمة.
بتشكّك، لمست مقدّمة السيّارة الرياضية التي كانت تضغط على كتفها. لابدّ انه توقف على بعد مقدار ضئيل عن جسدها.
"أنتِ في صدمة"، دون أن يطلب الإذن، مرّر يديه عليها.
لا بد أنه يبحث عن عظام مكسورة، لكن لمساته لها... التمسيد على ذراعيها... رجليها وكتفيها...أرسلت الحرارة تهبّ في جسد لاني.
إحترقت وجنتيها، ثم أبعدته عنها.
"أنا بخير"
كان ينظر إليها بارتياب.
سحبت أنفاساً مرتجفة، وحاولت أن تبتسم. "حقاً"
بين كل الاثرياء في موناكو-ويوجد الكثير منهم- لقد إلتقت بالصدفة بالرجل الوحيد الذي تريده ربّة عملها. هذا الرجل الغامض الخطير.
إذا اكتشفت الكونتيسة أن لاني سببت له المشاكل، بالإضافة إلى كل شيء آخر...
حاولت لاني أن تقف.
"إنتظري"، صاح بها.
"تنفسي جيداً. هذا خطير"
"لماذا؟"
نظرت مجدداً إلى طرف السيارة الذي يحتضن الدولاب. "هل أذيتَ سيارتكَ اللامبورغيني؟"
"مضحك"، كان صوته جافاً بينما ينظر إليها بضيق. "ما الذي فكرتِ به حين قفزتِ أمامي؟"
"لقد تعثرت"
"يجب أن تكوني أكثر حذراً"
"شكراً"، دلّكت كوعها بأطراف أصابعها وأجفلت.
في المناسبتين الوحيدتين حين رأت هذا الرجل من قبل، كان يرافق الكونتيسة لتناول الغداء، فتخيّلت لاني أن كاسيوس بلاك لا بدّ أن يكون أميركي الأصل نشأ في أوروبا، أو أوروبي الأصل نشأ في أميركا. لكن هناك لكنة خفيفة في صوته لا تلائم نظرياتها عنه. بالواقع، كانت لكنة تميّزها جيداً، لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً.
دلّكت جبهتها، لا بدّ أن الضربة كانت أقوى مما توقعت. "سأحاول الإلتزام بنصيحتكَ في المستقبل"
وقف على قدميه، ونظر إلى الحشد الذي شكّل نصف دائرة حولهما في الشارع.
"هل يوجد طبيب؟"، لم يتحرّك أحد، حتى حين رددّ الطلب بثلاث لغات مختلفة على التوالي.
سحب هاتفه من معطفه، "سأتصل بالإسعاف"
عضّت شفتها. "هذا جيد، لكنني أخاف أنني لا أملك الوقت لهذا"
بدا أنه يشكّ بكلامها. "أنتِ لا تملكين الوقت لإسعافكِ؟"
نظرت إلى جسدها نظرة سريعة بحثاً عن بقع دم أو قدم مكسورة لم تنتبه لها. لكن أسوأ ما قد حدث كان إنسحاب الهواء من رئتيها لدى الإصطدام وظهور ورم صغير على جبهتها. لمسته، ثم هتفت "أنا ذاهبة في عمل مستعجل لصالح رئيستي"
أجفلت قليلاً، ثم أجبرت نفسها على الوقوف، ومدّ يده ليساعدها. حين تلامست أيديهما، شعرت بالكهرباء تجتاح جسدها، لتجعلها تهتزّ بقوة.
نظرت إليه، كان أطول منها بحوالي ثلاثين سنتيمتراً، وسيم وقوي ولامع في بذلته الداكنة. ويمكنها أن تتخيل هيئتها الفوضويّة أمامه.
ما فعله معها هو فقط ما يفرضه النبل.
أسقطت يده من يدها.
"حسناً، شكراً على إيقاف سيارتكَ"، تمتمت. "من الأفضل أن أذهب..."
"من يكون رب عملكِ؟"
"ميمي دي بليسيس، الكونتيسة دي فورسيل"
"ميمي؟"، بشكل مفاجىء، إقترب الرجل منها، يتفحّص وجهها، ثم ضربه الإدراك.
"إنتظري، لقد عرفتكِ الآن. أنتِ الفأرة الصغيرة التي تظل تركض في شقة ميمي، تجلب أحذيتها، وتبحث عن هاتفها"
تورّدت وجنتي لاني. "أنا مساعدتها"
"ما هو العمل الذي أرسلتكِ لأجله، هل هو مهم لدرجة أنكِ كدتِ أن تموتي لأجله؟"
"لكنني لم أمتْ"
"يا لكِ من محظوظة"
"محظوظة"، تنفّست بقوة وهي تميل رأسها للخلف. شعرت أن أفكارها تحوّلت إلى صفحة بيضاء حين نظرت إليه.
عن قرب، هو يبدو أكثر وسامةً، ووجهه يتمتّع بملامح خاصّة وحادّة، مع وجود ندبة مثيرة للإهتمام تحدّد عظام وجنته. وأنفه المعقوف كان غير مستوٍ عند القمة، وكأنه تعرّض للكسر أثناء شبابه ولم يتم معالجته بطريقة صحيحة.
إن هذا الرجل لم يولد ثرياً، هذا الشيء مؤكد عنه. لكنه أيضاً لا يشبه الفتيان الأثرياء الذين إعتادت ميمي على إستخدامهم مثل المحارم الورقية منذ طلاقها. إن هذا الرجل محارب، ويبدو مثل قطّاع الطرق أيضاً. ولسبب ما، حين نظر اليها، جعلها تشعر بالدوار، وكأن العالم تبدد وإستقرّ أسفل حذاءها.
تعمّقت نظراته. "إذاً، ما هو العمل؟ أيتها الفأرة الصغيرة"، قال مكرراً كلامه، "العمل المهم جداً الذي كدتِ أن تموتي لأجله؟"
"معطفها..."، وهذا ذكّرها، فنظرت إلى المعطف، وبدأت تبكي بخوف.
كان الفرو الابيض الثمين مغطّى بالوحل ومكوّماً في بركة من القذارة في الشارع، وقد تقطّع إلى عدّة أجزاء حين إصطدم أحد الدواليب به.
سحبت لاني نفساً عميقاً.
"أنا مطرودة بالتأكيد"، همست. وقد إشتد الدوار في رأسها حين انحنت لتلتقطه. "طلبت أن أنظّفه قبل حفلة الليلة، والآن ها هو قد تدمرّ"
"هذا ليس خطأكِ"
"لكنه كذلكَ"، قالت ببؤس شديد.
"في البداية سكبت القهوة عليه. ثم لم انتبه إلى أين كنت امشي، كنتُ مشغولةً بالنظر إلى هاتفي للبحث عن أقرب مصبغة... هاتفي!!"
نظرت حولها بجنون، ورأته محطماً أسفل الدولاب الخلفيّ لسيارته.
توجّهت نحوه، وإلتقطت أجزاءه المكسورة بين يديها. تجمّعت الدموع في عينيها، وهي تتفحّص شاشته المكسورة التي تحوّلت إلى قطع من معدن لا تعرفه.
لا يجب أن تبكي! لا يمكنها!
فقط حين فكرت أن الأمور لا يمكن أن تصبح أسوأ، إنفجرت الغيوم الرمادية فوقهم وبدأت تهطل أمطاراً.
كان هذا أكبر من احتمالها. شعرت بقطرات المطر الباردة تتهاوى على شعرها المشعثّ، وجسدها المشتعل المليء بالكدمات.
كانت هذه آخر قشة، وبعكس رغبتها، بدأت تضحك.
نظر إليها كاسيوس بلاك وكأنها مجنونة. "ما المضحك؟"
"أنا بالتأكيد سأخسر وظيفتي لأجل هذا"، شهقت غير قادرةً على التنفس بفعل الضحك.
"وهل أنتِ سعيدة بخصوص هذا؟"
"لا"، قالت وهي تمسح عينيها. "بدون وظيفتي، لن تكون عائلتي قادرة على دفع إيجار المنزل للشهر القادم، ولن يتمكن والدي من الحصول على أدويته. هذا ليس مضحكاً البتة"
تحوّلت نظرات كاسيوس إلى العطف. "أنا آسف"
"أنا أيضاً"، ردّت عليه وهي تفكر بمدى غرابة الوضع بأن تحظى بمثل هذه المحادثة مع تاسع أغنى رجل في العالم. أو هل كان العاشر؟
أطلقت إحدى السيارات بوقها بالقرب منهما، فقفزت. وإستدار الاثنان لينظرا. والحشد حولهما بدأ يتفكك حين تأكدوا أنها لن تنزف وتموت على الشارع. لكن هذه السيارة لا زالت تسدّ الطريق.
وسائقي السيارات الثمينة المماثلة لها إصطفوا خلفها وقد بدأوا يتململون.
إشتدّ فك كاسيوس حين رمقهم بنظرة وقحة، ثم إستدار نحوها. "إذا كنتِ غير مصابة ولا تريدين رؤية طبيب.."، راقبها بحذر،"إذاً أعتقد أنه يمكنني أن أذهب"
"وداعاً"، قالت لاني وهي لا زالت تنعي هاتفها المكسور. "شكراً على عدم قتلي"
إبتعدت عنه، وأسقطت القطع المعدنية المكسورة لهاتفها في حاوية النفايات، ثم وضعت المعطف المدمّر على كتفها، ومشت لوحدها على الرصيف تحت المطر المنهمر.
يجب ان تعود إلى فندق دي كاريلون وتسأل جاك إذا كان يعرف مصبغة تستطيع فعل المعجزات.
أوه، من تخدع؟ المعجزات؟ هي بحاجة للعودة في الزمن.
شعرت بأحدهم يسحبها من ذراعها. رفعت رأسها بدهشة، ورأت كاسيوس مع إبتسامته المذهلة. وقال من بين أسنانه البيضاء الناصعة، "حسناً، كم تريدين؟"
"كم اريد من ماذا؟"
"فقط إصعدي إلى السيارة"
"لست بحاجة إلى توصيلة، أنا فقط سأعود إلى فندق دي كاريلون"
"لفعل ماذا؟"
"لأعطي رئيستي معطفها الفرو وأتركها تصرخ عليّ ثم تطردني"
"يبدو ممتعاً!"
رفع حاجبه الأسود، ثم واجهها. "إسمعي، من الواضح أنكِ رميتِ نفسكِ أمام سيارتي لسبب وجيه. لكن لا اعلم لماذا لا تفعلين المطلوب وتطلبي مني المال على الفور. لكن أياً كانت لعبتكِ..."
"لا توجد لعبة!"
"يمكنني حل مشكلتكِ. بخصوص المعطف"
حبست لاني أنفاسها. "هل تعلم كيفية إصلاحه؟ في الوقت المناسب لأجل الحفلة الليلة؟"
"نعم"
"سأكون ممتنة كثيراً!"
كان صوته قاطعاً، "إصعدي"
بحلول هذا الوقت، لم تكن السيارات خلفه تطلق أبواقها فحسب، لكن السائقين كانوا يطلقون إقتراحات وقحة.
فتح كاسيوس مقعد الراكب، وصعدت إلى السيارة، ولا تزال معلّقةً بمعطف الفرو المدمّر، القذر، والممزق.
جلس فيمقعد السائق بجانبها، ودون أن يكلّف نفسه بالإجابة على اعتراضات السائقين العنيفين خلفه، قاد سيارته مع زمجرة خفيفة صدرت عن المحرّك القوي.
حدّقت به بينما كان يقود. "إلى أين سنذهب؟"
"ليس بعيداً"
"جدّتي ستصرخ بوجهي إذا علمت أنني صعدت إلى السيارة مع غريب"، قالت بخفة. لكن جزء منها كان يتساءل إذا كان يجب عليها رفض عرضه، فحقيقة أنه يقود سيارة ثمينة لا يعني أنها يمكنها الثقة به، بالواقع تبعاً لخبرتها المحدودة، هذا يعني العكس تماماً.
"نحن لسنا غرباء، إنكِ تعرفين إسمي"
"سيد بلاك.."
"ناديني كاسيوس"، ورمقها بطرف عينه بنظرة سوداوية/ "بالرغم أنني لا أعتقد أن ميمي قدّمتنا إلى بعضنا"
"حسناً، كاسيوس"، تحرّكت حروف الإسم بلذة على لسانها.
لعقت شفتيها. "أنا لاني. لاني ماي هنري"
"أميركية؟"
"من نيو أورلينز"
نظرته المفاجئة كانت حادّة ومتفحّصة وجعلتها سعيدة. هي لم تكن معتادة على أن يلاحظها الرجال، وخاصة الرجال أمثاله. شعرت أن إنتباه كاسيوس بلاك مركّز عليها بالكامل حتى أخمص قدميها.
لقد قالت ربّة عملها أن هذا الرجل غامض، وأن مياه باردة تجري في شرايينه بدل الدم. إذاً لماذا يزعج نفسه بمساعدتها؟
لكنها تحتاج لـ مساعدته بيأس الآن، ولن تطرح الأسئلة.
"شكراً لمساعدتي. إنكِ لطيف"
"أنا لستُ لطيفاً"، قال بصوت هامس، ونظر إليها. "لكن لا تقلقي، لن تخسري عملكِ"
شعرت بقلبها يصعد إلى حنجرتها. لا تستطيع تذكر آخر مرة ساعدها أحدهم. بشكل عام، هي كانت المسؤولة عن كل شيء وعن الجميع.
"شكراً لكَ"، كررت كلماتها وصوتها يتصدّع قليلاً بينما تنظر عبر النافذة وترمش مراراً وتكراراً.
كانت موناكو امارة صغيرة، تبلغ مساحتها كيلومترين مربعين فقط، وتطلّ على البحر المتوسط من جهة، بينما تحطيها فرنسا من بقية الجهات. لكن بما أن الامارة لا تفرض ضرائب على رواتب العمل، فإن الاثرياء من جميع أنحاء العالم توافدوا إليها بكثرة بغية الحصول على الجنسية، لذا يقولون أن ثلث السكان هم من أصحاب الملايين.
وموناكو مشهورة لأجل الكازينو الكبير الذي يعود تاريخه للقرن التاسع عشر، ولأجل سكانها الراقيين، وسباق السيارات الذي يُقام مرة واحدة في العام في طرقاتها الواسعة.
"لا أعلم كيف يمكن أن يصبح هذا جيداً مرة أخرى"، قالت بحزن، وهي تنظر إلى المعطف المقطّع بين يديها.
نظرت إليه، "ربما يمكنكِ العودة معي إلى جناحها وشرح ما حدث؟ إذا دعمتَ كلامي، لن تطردني الكونتيسة حينها"
كان صوته هادئاً بينما يركز على الطريق، "ميمي وأنا زملاء عمل، لا شيء أكثر. ما الذي يجعلك متأكدة أنني أملك تأثيراً عليها؟"
"ألستَ واقعاً بالحب معها؟" تفوهت لاني دون تفكير.
"الحب!"، اشتدّت قبضته على مقود السيارة، فإنحرفت السيارة قليلاً على الطريق، ثم نظر إليها، "لماذا فكرتِ بهذا الشكل؟"
أدركت لاني أنها إستنتجت ذلك حين كانت تتنصّت على كلام ميمي، وشعرت بالحرارة تنتشر في وجنتيها. لا تريد أن تكون طائشة لتنشر إشاعات عن رئيستها. شعرت بالحرج، فهزّت كتفيها، ونظرت إلى الخارج نحو المطر المنهمر.
"معظم الرجال يقعون بحبها. أنا فقط توقعت..."
"إعتقادكِ خاطىء"، أوقف السيارة برعونة على الطريق وركنها. "بالواقع، لقد إتهموني أنني لا أملك قلباً"
"هذا ليس صحيحاً"، إبتسمت له بخجل. "لا بدّ أن تملك قلباً. إذاً لماذا تساعدني؟"
نظر إليها نظرة سوداوية غامضة. ودون أن يجيب على سؤالها، أطفأ المحرّك وخرج من السيارة.
نبض قلب لاني بقوة حين راقبته يستدير بنعومة حول السيارة. كان طويلاً جداً، أطول منها بحوالي ثلاثين سنتيمتراً، وأثقل منها بحوالي مائة باوند... مائة باوند من العضلات الصافية القاسية.
لكن برغم كونه كتلة عضلات، كان يتحرّك برشاقة كبيرة كالقطط مرتدياً بذلته الداكنة.
فتح باب السيارة من جهتها، ومدّ لها يده. حدّقت بها بتردد تتساءل إذا يمكنها أن تتجرأ وتضع يدها في يده بعد الشعور الكهربائي الذي تسبّب به سابقاً.
"فرو؟"، قال بقلة صبر.
أوه. إحمرّت وجنتيها وأعطته المعطف. رمى المعطف بخفة على كتفه، وكان يبدو صغيراً مقارنةً به. ثم مدّ يده مجدداً، "أنتِ"
للحظة ترددت لاني، لقد خافت أن تبدو كغبية، والفرصة لذلك بدت عالية.
حين تكون عصبية، تعمد إلى التفوه بأشياء تافهة، وكاسيوس بلاك يسبب لها العصبية الشديدة.
وضعت يدها في يده بخجل، وساعدها لتخرج من السيارة. قوة وحرارة يده الكبيرة التي تمسك يدها سببت لها مشاعر غريبة. أسقطت يده بسرعة ونظرت إلى المبنى الحديث المزخرف بجمالية أمامها بتقطيبة. "هذا لا يبدو مثل مصبغة"
"ليس كذلك، إتبعيني"
تبعته عبر أبواب متجر الأزياء المترف. أعطى المعطف إلى أول بائعة رآها تقف في الداخل. "خذي، تخلصي من هذا"
"بالتأكيد، سيدي"، قالت بهدوء.
"تتخلص منه؟ما الذي تفعله؟"، هتفت لاني ببكاء. "لا يمكننا رميه بعيداً!"
لكنه كان ينظر إلى البائعة الحسناء التي ترتدي ثياباً راقيةً. "إحضري لنا معطفاً جديداً يشبه هذا"
"ماذا؟"، سألت لاني.
"حسناً، سيدي"، رددت الفتاة بهدوء، وفكّرت لاني أن ردّ الموظفة المثالي سيكون هو نفسه مع أي طلب يأتيها من زبون ثري، سواء أكان طلب للتخلص من محرمة ورقية أو للتخلص من جثة ميتة.
"لدينا واحد مشابه من نفس خط الأزياء. ويبلغ ثمنه خمسمائة ألف يورو"
ترنّحت لاني في مكانها، لكن كاسيوس لم يرمش حتى. "سنأخذه ونرحل"
بعد عشر دقائق، كان يقود سيارته عائداً بها إلى فندق دي كاريلون برفقة معطف الفرو الجديد المغلّف بطريقة راقية في صندوق السيارة والذي كان وبطريقة محيّرة يقع في مقدمة السيارة لا الخلفية كما المعتاد.
إن الاثرياء يفعلون الأشياء بطريقة مختلفة عنهم، فكرت لاني.
لكن هناك أشياء يقومون بها بالطريقة نفسها.
"هناك سبب واحد فقط يفسّر سبب تبذيرك كل تلك الأموال على المعطف"، أخبرته لاني بينما كان يقود.
"إعترف. أنتَ واقع بحب الكونتيسة بطريقة يائسة"
رمقها كاسيوس بطرف عينه. "لم أفعلها لأجلها"، ثم منحها إبتسامة واسعة مفاجئة، "فعلتها لأجلكِ"
"أنا؟"
"أنتِ تعلمين من أنا والأشياء التي أملكها، ولم تحاولي أن تستغلّي حقيقة أنني صدمتكِ بسيارتي، كان من المفترض أن تدّعي إصابتكِ بمنطقة خطرة كالعمود الفقري مثلاً، وتهدديني بالقضاء والمحاكم. هذا ما إعتقدته بعد أن قذفتِ بنفسكِ أمام سيارتي"
"لم أقذف نفسي أمامكَ"، إعترضت.
بدا لها أن عينيه الداكنتين تتجولان على جسدها الصغير ومنحنياتها، وحين خجلت منه، إلتقت عيناه بعينيها ببرود. "يمكنكِ أن تحصلي على فريق من المحامين، لتطالبي بالملايين"
ملايين؟ هذه الفكرة لم تخطر على بال لاني حتى. إنّ مثل هذه الثروة ستغيّر حياتها بالكامل، والأهم... حياة عائلتها.
لكن..
"هذا لن يكون صحيحاً"، قالت ببطء. "أقصد أنه لم يكن خطأكِ أنني وقعت على الشارع. ولقد فعلتَ ما بوسعكَ كي لا تصدمني، فأنقذتني بردة فعلكَ السريعة"
"أذاً، لو منحتكِ مليون يورو الآن لتوقّعي إتفاقاً قانونياً تحررينني به من أية تهمة، هل ستوقّعين؟"
"لا"، قالت بحزن وهي تلعن أخلاقها الحسنة.
إرتفع فمه القاسي بسخرية، "فهمت..."
"سأوقعه مجاناً"
بدا مصدوماً. "ماذا؟"
"ربّتني جدتي على أن أقول الحقيقة دائماً ولا أستغل أي وضع. وفقط لأنكَ ثري هذا لا يجعلني سارقة"
ضحك كاسيوس بخفوت بينما كان ينعطف إلى الشمال. "تبدو جدتكِ إمرأة مثيرة للاهتمام"
"أنها كذلك"، إبتسمت، "إمرأة جنوبية حقيقية"
حدّق بها كاسيوس لبرهة، ولمعت عيناه الداكنتان تحت الشفق الرمادي الباهت.
أوقف سيارته على مدخل فندق دي كاريلون، لكن ما إن اطفأ محرك سيّارته حتى لمحت شيئاً في وجهه جعل قلبها يتلوى.
دون أن تفكر، لمست كتفه بخجل. وندمت سريعاً ما إن شعرت بالعضلات القاسية أسفل سترته السوداء.
أسقطت يدها بسرعة، لكن لم تستطع منع نفسها من قول، "لماذا تبدو هكذا؟"
إلتقت عيناه الداكنتان بها. "مثل ماذا؟"
تساءلت إذا شعر بذات الطاقة التي شعرت بها حين تلامسا.
لا! بالطبع لا! هذا يبدو تافهاً.
هو مهتم فقط بربّة عملها، والتي كانت جميلة، أرستقراطية، مبهرة... كلّ ما لا تملكه لاني.
سحبت نفساً عميقاً، "إنكَ تبدو حزيناً"
حدّق بها كاسيوس للحظة طويلة، ثم منحها إبتسامة قاسية متوترة، "الأثرياء لا يحزنون. نحن نحصل على العدل دائماً"
إستدار بعيداً، "تعالي. سأنقذكِ من ميمي"
فجأة، فُتِحَ باب السيرة من جهتها، وجاك الحارس كان يبدو مندهشاً كثيراً لرؤيتها تعود للمبنى في سيارة رياضية. فقال، "آنسة لاني؟"
"أوه، مرحباً"، هتفت بضحكة غريبة، وملامح مذنبة. ". سيد بلاك كان لطيفاً بما فيه الكفاية ليعرض أن يوصلني تحت المطر".
بدا جاك مصدوماً أكثر حين رأى كاسيوس، الذي أعطاه مفاتيح السيارة وما بدا مثل إكراميّة كبيرة جداً، وتمتم، "شكراً"، قبل أن يأخذ معطف الفرو الجديد الملفوف بحذر من مقدمة السيارة، ثم تقدّم برفقة لاني إلى مدخل الفندق المترف.
"أخبريني"، قال كاسيوس بطبيعية بينما كانا يمشيان، "ما رأيكِ عن ميمي؟ هل هي ربّة عمل جيدة؟"
عضت لاني شفتها تصارع لإخراج الكلمات، "أنا ممتنة على الوظيفة"، قالت اخيراً بصدق تام.
"إنها تدفع راتب سخي، وأنا أدعم عائلة كاملة في الوطن. شكراً لمساعدتي للـحفاظ على وظيفتي"
لكنها شعرت أنها أقل سعادة لهذه الفكرة منذ اللحظة التي دخلت بها جناح الكونتيسة.
"لاني! أيتها الفتاة الكسولة! لماذا تأخرتِ؟ لِمَ تجيبي على هاتفكِ حتى"، قالت رئيستها وهي تتهمها منذ أول لحظة لوصولها.
"لقد تأخرتِ طويلاً فكنتُ مضطرة للحصول على قهوتي بنفسي. إضطررت لأن أهاتف خدمة الغرف بنفسي. بنفسي!!"
"أنا آسفة"، همست لاني. "تعرضت لحادث، وهاتفي قد..."
"لماذا أُزعج نفسي بالدفع لكِ.. أيتها الفاشلة.."
ثم رأت ميمي كاسيوس يدخل الجناح خلف لاني، وفتحت فمها بصدمة.
وصديقتها أرامينتا، التي كانت تستريح على الكنبة بجانب النافذة، وهي تدخّن وتقلّب صفحات مجلة أزياء باريسية بإهمال، كانت مصدومة كثيراً لدرجة أن سيجارتها سقطت من فمها.
كلتا المرأتين وقفتا فوراً، وهما تبعدان شعرهما عن وجهيهما، وتميلان أوراكهما بإغراء.
"كاسيوس!"، هتفت ميمي، وهي تبتسم كأن الزبدة لا تذوب في فمها. "لم أدركِ أنكِ ستأتي للزيارة"
"لم آتِ، لكن تعثرتُ بمساعدتكِ على الطريق"
وغمز لاني التي إحمرّ وجهها.
"ما الذي تقصده؟"، نقلت الكونتيسة أنظارها بينهما تحاول أن تفهم نوع المزحة الخاصة بينهما.
كان كاسيوس يبدو منزعجاً، "إصطدمت بها بسيارتي"، قال بصراحة.
صرخت الكونتيسة بـ لاني، "أيتها الغبية، لماذا إصطدمتِ بسيارة سيد بلاك؟"
سعل كاسيوس، "كان خطأي بالكامل"، ثم وضع الكيس القماشي الأسود الكبير الذي يحمل معطف الفرو الثمين بين يديها."خذي، هذا لإستبدال معطفكِ الذي تدمر بفعل الحادث"
فتحت ميمي الكيس، وشهقت، "فرو جديد! أنا أسحب كلامي لاني"، قالت بحلاوة، "يمكنكِ ترك سيد بلاك يصدمكِ بسيارته في أي وقت يريده"
ولم تعتقد لاني أن رئيستها تمزح على الإطلاق.
تقوّست شفتي ميمي الحمراوتين في إبتسامة مغوية بينما كانت تقترب من كاسيوس. "تشتري لي معطف فرو جديد قبل حتى أن نخرج في موعدنا الأول؟ أنتِ حقاً تعرف كيف ترضي المرأة"
"هل تعتقدين هذا؟"، قال كاسيوس وهو ينظر إلى لاني بطرف عينه، "لقد مرّ وقت طويل منذ شعرت بالرغبة لمرافقة أي شخص"
نبض قلب لاني بغرابة. لا يمكن أنه يتحدث عنها، أليس كذلك؟
لا، بالطبع لا!!
إنه يريد رئيستها فقط، بشعرها الأشقر، وجسدها الرشيق الساحر، وذوقها الرفيع، وليس لاني الغبية البسيطة والساذجة والعادية والخرقاء... كثيراً!
"فقط إنتظر حتى تراني في الحفلة هذه الليلة"، هتفت ميمي.
"ستشعر بالرغبة لتجربة بضعة أشياء أخرى لتجذب اهتمامي... ربما مثل.."، ثم وقفت على أطراف أصابع قدميها ورفعت نفسها لتهمس بشيء ما في اذنه.
كانت ملامحه مبهمة بينما إبتعد عنها.
"يالها من فكرة... حماسية.."، قال وهو ينظر إلى النسوة الثلاث. "إذاً هل سأراكِ الليلة؟، وتوقفت نظراته على لاني. "جميعكنّ؟"
"بالطبع ستذهب لاني"، قالت الكونتيسة. "أنا أحتاجها لتحمل حقيبة يدي وأحمر شفاهي ودبابيس في حال تمزّق فستاني... إنه ضيق وصغير وموصول ببعضه بشرائط صغيرة"، ضحكت.
"ستموتين"
إستدار كاسيوس نحو لاني بطريقة خطرة. "هل أنتِ أيضاً تخططين لإرتداء مثل هذا الفستان؟"
إحمرّت لاني بتوتر. "أنا... هذا..."
"لاني؟"، ضحكت رئيستها. "سترتدي زياً موحّداً، كبقية الخدم. هذا هو الصحيح والمناسب. أليس كذلك، أرامينتا؟"
"الصحيح والمناسب"، وافقت صديقتها، وهي تشعل سيجارة جديدة.
"يجب أن تذهب كاسيوس"، قالت ميمي وهي تلوّح بيدها في الهواء. "دعنا نستعد للحفلة، هناك الكثير من العمل لأجل لاني..."
حوّل كاسيوس قوة نظراته الداكنة عليها، "كنت أتساءل إذا كان بإستطاعتكِ فعل خدمة صغيرة لأجلي"
"أي شيء"، هتفت.
نظر كاسيوس مجدداً إلى لاني. "رفضت لاني الذهاب إلى المستشفى، لكن يجب أن ترتاح على الأقل. لقد ضربت رأسها، وأنا قلق بخصوصها. بدت كأنها... مشتتة"
"لاني دوماً مشتتة"، ردت ميمي بإنزعاج، وفي هذه الحالة وافقتها لاني بينها وبين نفسها، برغم أن حادث السيارة لم يكن سبب تجّمد دماغها أو حساسية جسدها.
السبب هو كاسيوس، لم يؤثر بها أي رجل بهذه الطريقة، أو ينظر إليها بنفس الطريقة.
"إسدي لي معروفاً. وإمنحيها الساعة القادمة أو الساعتين القادمتين لتستعيد نشاطها"
"لكنني أحتاجها لأجل..."، لكن تحت ستار قوة نظراته، تنهّدت رئيستها بإستسلام. "حسناً، كما تريد"
"شكراً لكِ"، ثم نظر إليهنّ جميعهن لكن توقف قليلاً عند لاني. ثم أحنى رأسه. "سيداتي"
إبتسمت له الكونتيسة وأرامينتا بينما إستدار وغادر عبر الباب، ثم إختفت ابتسامة ميمي.
"حسناً لاني، لا أعرف ما الذي فعلتيه لتحصلي على إنتباهه.. أو شفقته.. لكنكِ أحرجتِ نفسكِ حقاً وأنتِ تدفعين نفسك للأمام! مبتذلة!"
"مبتذلة"، قالت أرامينتا موافقةً
"الآن اذهبي وجهّزي فستاني"
بغياب وجود كاسيوس المكهرب بجانبها، وجسده القوي يظلّل رأسها وجسدها بينما يتفحّصها بنظراته الداكنة الحسيّة، فجأة أدركت لاني أنها بالفعل تعاني من ألم فظيع في رأسها.
"لكنكِ قلتِ أنه يمكنني أن أرتاح قليلاً.."
"يمكنكِ أن ترتاحي بينما تقومين بتجهيز فستاني"
"وفستاني أيضاً؟"
"إعتبريه هدية"، ومنحتها الكونتيسة إبتسامة متشددة.
"تظاهري أنكِ في منتجع صحي.. ومتعي نفسكِ"
وبغرابة، حين وقفت لاني أمام الفساتين الصغيرة المترفة-التي بدت مصنوعة فقط من الشرائط الحريرية المتراخية-وبدأت تزيل تجاعيد القماش بالمكواة، إستمتعت بعملها.
ظلت تتخيل نظرات كاسيوس السوداء تلتقي بنظراتها... نبرة صوته الرنّانة... لمسة يده بينما كان يساعدها للخروج من السيارة.
توقفت لاني ثم هزّت رأسها، "أنتِ سخيفة!"، أخبرت نفسها بصوت عالٍ. "بحلول منتصف الليل، سيقبّلها هي.. وليس أنا!"
سمعت جرس الجناح يرنّ، فوضعت المكواة جانباً، وأسرعت لتفتح الباب.
رأت شاباً يحمل علبة كبيرة، "خدمة التوصيل"
"شكراً"، ومنحته بقشيشاً من محفظتها الخاصة، فـ ربّة عملها تصبح بخيلة جداً حين يتعلق الأمر بالبقشيش، ثم أخذت لاني العلبة البيضاء الكبيرة المرفقة بظرف، "سيدتي الكونتيسة، لديكِ.."
ونظرت لاني إلى الاسم المكتوب على الظرف، وتجمّدت في صدمة تقريباً.
آنسة لاني هنري.
"ما هذا؟"، فجأة وجدت رئيستها تقف بالقرب منها. "توصيلة لأجلي؟"
"بالحقيقة.."، تنفّست لاني، "إنه لأجلي"
"ماذا؟"، وأخذت منها الكونتيسة الظرف، "من قد يرسل لكِ هدية؟"، ثم مزّقت الظرف لتفتحه، وقرأت الرسالة لتبتعد بإعتراض بعدها.
حدّقت بـ لاني والصدمة ظاهرة بوضوح على وجهها الصغير الجميل، "ماذا فعلتِ؟"
"ماذا تقصدين؟"
رمت الرسالة بوجه لاني التي أحنت رأسها لتنظر إليها.
أنا متأكد أنكِ ستبدين جميلة بالزي الموحّد، لكن إلبسي هذا عوضاً عنه.
وكوني هناك قبل منتصف الليل.
كاسيوس.
شعرت بشعاع شمس حارق يسطع في قلبها، مزيج بين السعادة والإنتصار. "أرسل لي هدية؟"
"إفتحيها"، أمرتها ميمي.
تمنت لاني لو لم تكن ميمي وأرامينتا موجودتين في هذه اللحظة كي تستطيع فتح الهدية لوحدها وتتمتع بها دون نظراتها العنيفة. لكنها وضعت العلبة البيضاء الكبيرة على الطاولة، ورفعت الغطاء.
شهقت لاني وأرامينتا وميمي في وقت واحد.
بداخل العلبةـ كان يقبع فستان سهرة لامع ذهبي اللون، يلمع بإشراق تحت ضوء الجناح الباهت. وكان بلا حمالات للأكتاف، مع فتحة صدر على شكل قلب، وتنورة واسعة فيها عدة طبقات من القماش الشفاف المزيّن بإتقان.
ثم سحبت لاني قفّازاً طويلاً من العلبة، وشعرت بالرغبة بالبكاء فجأة. هذه الهدية تليق بأميرة. لم يمنحها أي أحد هدية مشابهة طيلة حياتها.
أخرجت الفستان بكامله من العلبة، ووضعته على جسدها. بالكاد ميّزت إنعكاس صورتها بالمرآة المذهّبة.. عينيها البنيتيّن الضاحكتين.. الطريقة التي ناسب بها الفستان الذهبي بشرتها الكريمية وشعرها الداكن.
"ماذا فعلتِ، هل رميت بنفسكِ أمام سيارته عن قصد؟"
حدّقت بها رئيستها بقوة، "أيتها المحتالة الطمّاعة الصغيرة، تغرينه ببضعة ألاعيب وتمثّلين عليه دور الفتاة المسكينة الفقيرة ؟ لقد إخترعت بنفسي هذه التمثيلية! تعتقدين أنني سأدعكِ تسرقينه مني وأنا اقف متفرجةً؟"
حدّقت بـ ميمي بصدمة. "لا..."
لكن نظرت إليها ميمي باحتقار، من حذاءها المفتوح البائس وبنطالها الباهت صعوداً حتى قميصها الأبيض العادي. وتقوّست شفتيها بقرف، "ما الذي قد يراه أي رجل بكِ؟!"
"أنا متأكدة أنه يحاول أن يكون لطيفاً معي"، حاولت التلطيف من الجو.
"بل يحاول جعلكِ تغارين ميمي"، قالت أرامينتا.
"ربما"، ثم نظرت مجدداً نحو لاني. "لا بأس. إرتدي الفستان. وإذهبي إلى حفلة رأس السنة الليلة. وإذا طلب منكِ رقصة.."، ضاقت عيناها، "أريدكِ أن تقبلي"
هي؟ ترقص مع كاسيوس بلاك؟ في هذا الفستان؟
رغماً عنها، إبتسمت لاني بحالمية للفكرة، وكادت أن تعانق نفسها من السعادة.
"ثم.."، نظرت ميمي إليها من عليائها وشفتيها الحمراوتين تبتسمان بمكر، "ستخبرينه أنكِ تعبتِ من إهتمامه وتريدينه أن يتركك وشأنكِ. وستقومين بإهانته بقسوة حتى يصدقكِ"
واندثرت أحلام لاني الوردية بطعم الحلوى بغمضة عين. "لا!"
"إذا لم تفعلي، سأطردكِ من وظيفتكِ". قالت الكونتيسة وهي تدفع شعرها الأشقر الطويل، وتضع يدها على وركها فوق قماش بنطالها الأبيض الضيق.
"وليس هذا فقط، بل سأتاكد بنفسي من أن لا يوظفكِ أي أحد آخر على الإطلاق... إذاً ما هو قراركِ؟"
نظرت إلى وجه لاني البائس، فاتسعت ابتسامتها، وأضافت بنعومة، "إعتقدت هذا أيضاً"
&&&&&&&
نهاية الفصل الأول

انتقامه الخاسر...... جينى لوكاس...... ترجمة ديلو..... حيث تعيش القصص. اكتشف الآن