الفصل التاسع (الاخير)

996 35 3
                                    

الفصل التاسع والأخير


"تأخر كثيراً؟"، صدرت هذه الكلمات عن رجل يقف خلف كاسيوس وهو يصرخ باللغة الفرنسية، "تنقلين له هذا الخبر بينما تقفون في منتصف رواق المستشفى؟!"
إستدار كاسيوس حول نفسه ورأى والده!
لا بدّ أن والده تجاوز قوانين السرعة القانونية للقيادة في طريقه إلى هنا، وتأمله وهو يقف خلفه بشراسة.
تصلّبت الممرضة، "مسيو؟"
كان الغضب الأسود يملأ عينيّ بوريس، "هل توفيت زوجة إبني الحامل بـحفيدي؟"
"أخفض صوتكَ.. هذا ليس مقبو.."
"لقد تم إحضارهما إلى هنا. إما أن تدعي إبني يرى زوجته، أو إستدعي لنا طبيباً ليشرح الوضع.. الآن!"
تجهّمت ملامح الممرضة، ثم عادت إلى مقعدها خلف شاشة الكمبيوتر وتفحّصت السجلاّت.
إنتظر كاسيوس، وحبس أنفاسه وكلّه أمل أن يكون كل ما تفوّهت به للتو كذباً... أن تخبره أن لاني بخير.. وأن بينيتو لم يخبره بالحقيقة..
لكن خيّم الحزن على عينيّ المرأة حين رأت شيئاً ما على شاشة الكمبيوتر أمامها جعلها تومأ بإقتضاب، "إنه تماماً كما توقعت"
نظرت إليهما، وتردّدت بالكلام، وعضّت شفتيها، "لو سمحتما يا سادة، إذهبا إلى غرفة الإنتظار، وسأنادي طبيباً ليشرح.."
إذا إضطر كاسيوس للإنتظار لدقيقة أخرى لمعرفة ما إذا كانت لاني وطفله أحياء أم أموات، شعر أنه سينهار. وبالكاد يقف على قدميه الآن رغم أنه يشعر وكأنه يمشي على خيط رفيع.
ولمفاجأته، ربّت والده على كتفه ليمنحه القوة.
"لن نتحرك من هنا قبل أن نعرف مكانها"، قال بوريس بحزم.
حدّقت الممرضة حولها بيأس تبحث عن شخصاً آخراً غيرها ليحاورهما.
ثم تنهدت، "زوجتكَ في غرفة العمليات"، هتفت بتردد، "لهذا السبب أخبرتكَ أنه قد تأخر الوقت. إنهم يجرون عملية ولادة قيصرية في محاولة لإنقاذ الطفل.."
محاولة؟ فقط محاولة؟!!!
"إذاً هي.."
"هذا كل ما بوسعي إخباركَ به.. الآن إذهب.."
ثم أشارت بحزم ناحية غرفة كبيرة تقع بالقرب منها مليئة بكراسي بيضاء بلاستيكية وتلفزيون يعرض نشرة الأخبار مباشرةً من باريس.
"سأرسل لكما الطبيب ليتحدّث معكما"
ها هو ينتظر في غرفة الإنتظار في مستشفى الأميرة فلورستين.. ينتظر أن يسمع آخر الأخبار.. إن كانت زوجته وطفله سيعيشان أم سيموتان.. وكانت تلك أصعب لحظات حياته.. تحرقه كالجحيم..
وبينما كان يجلس بإرهاق على كرسي بلاستيكي غير مريح، تسارعت الأسئلة في رأسه.
كم مدى الضرر التي تعرضت له لاني وهي حامل بإبنه؟ هل سيموتان؟ هل ماتت زوجته بالفعل؟
إنهم يجرون عملية ولادة قيصرية في محاولة لإنقاذ الطفل..
فقط محاولة..
إنحنى للأمام في كرسيه، فإستند كاسيوس بكوعيه على ركبتيه في حزن وخوف، وغطى وجهه بكفيه.
"إنها تحبكَ من كل قلبها. ستقاوم لأجل أن تبقى معكَ"
"لماذا قد تفعل؟"، ومزّق الألم قلب كاسيوس، "لقد أخبرتها أنني لا أريد أن أراها مجدداً. كنت غاضباً منها بشدة لأنها ذهبت إليكَ. إعتبرت الموضوع برمّته بمثابة خيانة. أخبرتها أنني سأطلقها وسأبعدهما عني على الفور"
نظر إلى بوريس ببؤس، "لقد سمعتني"
سمع والده يأخذ نفساً مرتجفاً، "لقد كنتَ غاضباً، وهي تعلم أنكَ لم تقصد ما قلته"
"هل تعلم أنني كنت صريحاً بما قلته"، وملأ البؤس كيانه بالكامل.. مزيج من الذنب.. العار.. والحزن..
لقد هدّدها بأن يتخلى عنها هي والطفل ليبدأ ببناء عائلة جديدة.
أوه، يا إلهي!
سرّح شعره الأسود إلى الخلف. في هذه اللحظة بالذات، هو مستعد لدفع كل أمواله فقط ليعرف إذا كانا بخير. وأيضاً، هو مستعد للتخلي عن حياته كلها فقط ليستطيع أن يحتضنها بين ذراعيه ويخبرها أنه يحبها!
هو..
إنه يحبها..!!
إفترقت شفتيّ كاسيوس بصمت. وشعر بقلبه ينبض بقوة.
إنه يحبها.. وفقط الآن.. حين بات موشكاً على خسارتها.. أدركَ ذلك.. أنه يحبها..
إشتدت قبضة والده على كتفه، "جميعنا نرتكب الأخطاء.. ونندم.. لكنها ستسامح.. ويمكنكَ أن تقضي بقية حياتكَ وأنتَ تعوّض لها عن فعلتكَ.."
إذا بقيت على قيد الحياة..
كانت هذه هي الفكرة المميتة التي تتعلق حبائل المستقبل بها.
إذا بقيت على قيد الحياة.. إذا عاش الطفل..
لقد رماهما كاسيوس خارج حياته بكل قسوة!
لأنها لم تطع أوامره.. وقد أعتقد أنه لا يملك خياراً آخراً سوى..
وكأن التمسك بكبرياءه.. ووعوده المجحفة.. ستصنع منه رجلاً حقيقياً!!
لكن محبة زوجته.. وتقديم العاطفة لطفله.. هي المميزات التي تصنع منه رجلاً حقيقياً..
لكن الإدراك هذا ربما أتى متأخراً!
علاقته مع لاني بدأت بحادث سيارة.
والآن، يبدو أن حادث سيارة آخر سينهي كل شيء. لقد أعتقد أنه يملك الوقت إلى ما لا نهاية ليقرر ما يريد فعله. لكن لم يتخيل أن تأتي النهاية بهذا الوقت القليل.
ثم إستعاد ذكرى كلمات قالها والده له..
كانت المرأة الوحيدة التي أحببتها قط. لقد نويتُ دائماً أن أعود إليها. وأعتقدت أننا نملك الكثير من الوقت..
نظر كاسيوس إلى والده، وأدرك أنه حكم عليه بقسوة.
لقد قضى تقريباً نصف عمره وهو يخطط لتدميره بإصرار، لكن عوضاً عن محاسبة بوريس عن جرائمه، ربما كان يجدر به أن يقيّم جرائمه الخاصة.
"شكراً لكَ"، قال كاسيوس بحدّة، "لوجودكَ هنا"
"أوه، يا ولدي"، إختنق والده بالكلمات، "لا يوجد أي مكان آخر على وجه الأرض أريد أن أتواجد به سوى هنا"
"مسيو بلاك؟"
أتى الطبيب، فوقفا الرجلين بسرعة، وشعر كاسيوس أن الأرض تهتز تحت قدميه.
التشخيص الذي سيسمعه من الطبيب سيحدد موته أو حياته، لأن عائلته هي كل حياته الآن.
"زوجتكَ.."، إبتسم الطبيب فجأة، "تخطّت مرحلة الخطر. أصبحت حالتها مستقرة الآن، لكن ما زالت تحت مفعول التخدير. لقد كسرت العديد من العظام والضلوع. ولم تستطع التنفس جيداً، وخسرت الكثير من الدماء. لقد كان الحادث مجرد إصطدام بسيط ثم هرب فوريّ. لو أتت الضربة ناحية جهة اليمين أكثر، أو تأخر المسعفون في الوصول، لكنّا خسرنا الإثنين"
إمتلأت عينا كاسيوس بدموع السعادة، وشعر بقلبه ينبض في حنجرته.
مسح عينيه بقوة، وقال بصوت أجش، "وإبني؟ هل هو بخير؟"
إتسعت إبتسامة الرجل، "هل تودّ أن تراه؟"
***
رمشت لاني بعينيها، وإستيقظت وهي تشعر وكأنها في حلم.
كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل عبر النوافذ الكبيرة لتملأ الغرفة بالضوء. تمطّت لاني في سريرها المريح وهي تنظر إلى المكان من حولها.
ومثل المعجزة، هناك على الكرسي بجانبها، رأت كاسيوس!
كان وجهه الوسيم يبدو شاحباً، وكأنه لم ينل سوى القليل من الراحة تلك الليلة.
"كاسيوس"، همست من بين شفتيها الجافتين.
فتح عينيه، ثم إنحنى للأمام وأمسك بكفيها بنعومة.
بالرغم من الدوائر السوداء أسفل عينيه، ولحيته الخفيفة التي غطت ذقنه، إلا أن وجهه الوسيم أضاء بسعادة خالصة لم ترها من قبل.
"أنتِ مستيقظة"، همس، وأبعد خصلة من شعرها عن وجهها، "شكراً للرب"
ثم ضحك بتعب، "لقد كانت ليلة صعبة".
للحظة، تساءلت ماذا يقصد؟ لقد شعرت بالسعادة لرؤيته بكل بساطة!!
ببطء، بدأت تدرك أنها ترقد في غرفة مستشفى، ترتدي لباس المستشفى الباهت، والأسلاك معلقة في ذراعيها. وسمعت صوت صفارات الآلات بجانبها. ولاحظت أنها لا تستطيع تحريك أجزاءاً معينة من جسدها، بينما الأجزاء الأخرى مغطاة بضمادات. وشعرت بالدوار يجتاح رأسها.
"ماذا حدث؟"، قالت بهدوء.
تفحّصتها عيناه السوداوتين، "ألا تذكرين؟"
بدأت لاني تهزّ رأسها، لكن آلمتها تلك الحركة كثيراً، وشعرت بأن الغرفة تدور بها.
"لا زال جسدكِ متأثراً بالمسكنات"
لعقت لاني شفتيها، "أنا.."
فجأة، داهمتها ذكرى عابرة فوضوية لشاحنة صغيرة تنحرف عن الطريق وتتجه مباشرةً إلى السيارة... لترتطم بسيارة أخرى وتطير كالقذيفة ناحيتها حيث تجلس داخل سيارة الليموزين.. وقد كان حزام الأمان معقوداً حولها بقوة...
فجأة سمعت صوت مكابح السيارة.. وصوت أبواق السيارات من حولها.. وتذكرت أن هاتفها وقع منها.. وأحاطت بطنها بذراعيها بحماية.. ثم أغمضت عينيها بقوة لتسمع بعدها صوت إحتكاك الحديد بالحديد.. وغابت عن الوعي حين أتتها الضربة..
أما فيما تلا ذلك، فكانت ذكرياتها مشوشة..
تذكرت أنها صرخت بإسم والدتها وكاسيوس.. وتسولت لهما أن يساعدوها..
وأنها سمعت صوت محرّك هليكوبتر قريباً منها..
وأصوات متداخلة للمسعفين وهم يصرخون باللغة الفرنسية بينما كانوا يرفعونها إلى الحمّالة لنقلها إلى الهليكوبتر قبل أن يصبح الألم في جسدها غير محتملاً..
وآخر ما تذكرته.. أنها وضعت يديها حول بطنها..
همست بضعف، "أرجوكم، أنقذوا طفلي.."
شهقت، ووضعت يديها على بطنها الآن، ثم نظرت إلى كاسيوس بخوف.
"أين طفلي؟"، صرخت.
"هشش.. كل شيء بخير.."، وقف على قدميه، وإتجه ناحية السرير الصغير الموضوع في زاوية الغرفة ليرفع جسداً صغيراً مدثراً بإحكام، "ها هو.. هنا"
عاد إلى السرير، ووضع كومة الأغطية في حجرها برقة، على جهة صدرها التي لم تنكسر فيها العظام. وأبقى يده على الجانب الآخر من الطفل، ليساعدها على حمل وزنه، فيحميهما الإثنين.
نظرت لاني بسعادة خالصة ناحية إبنها الصغير المولود حديثاً ومدثّراً بغطاء سميك بينما ينعم بنوم هادىء، ويرتدي قبعة صغيرة لكي يبقى رأسه دافئاً.
إمتلأت عيناها بالدموع وهي تحدق بوجهه الصغير الغالي على قلبها، "هل هو بخير؟"
"ستة باوندات وأربعة أونصات.. تقريباً حوالي ثلاثة كليوغرامات"، هتف كاسيوس بفخر. ورقّت نظرات عينيه السوداء بينما كان يداعب وجنة إبنه النائم، "بالنسبة لطفل وُلِدَ قبل أوانه، إنه مقاتل"
"وُلِدَ قبل أوانه؟"، ثم نظرت إليه بخوف، "لقد أتى مبكراً!"
"إنه بخير"، قال بهدوء ليخفف من روعها، "لقد نمت رئتاه بما فيه الكفاية كي لا يحتاج لأي عناية طبية إضافية. لقد كان الطبيب مصدوماً، لكنني لم أكن كذلك. فهو يملك روح والدته"
نظر إليها، ولمعت عيناه بشكّ حين حدّق بجسدها المصاب المكوّم في سرير المستشفى، "أعرف أنه حتى هذا الوضع لن يقلل من عزيمتكِ لوقت طويل. نحن محظوظين"
أخفض رأسه وقبل قمة رأس لاني برقة، وهمس، "أنا محظوظ.. لأنني حصلت على فرصة أخرى.."
رفعت لاني رأسها لتنظر إليه وقلبها ينبض في حنجرتها دلالة خوف، "إذاً.. هل سامحتني؟ بعد ما فعلته؟"
"وماذا فعلتِ؟!"، كرر كاسيوس من بعدها. للحظة، مزّق الخوف قلبها.
ثم، أبقى كفه الأيسر يحتضن الطفل، وجلس على ركبتيه على الأرض أمامها حيث تتمدد على سرير المستشفى على مرأى من عينيها المصدومتين. ووجهه كان يكتنفه الألم الخالص وصراع نفسيّ لا يهدأ.
"لقد كنتِ محقة بخصوص كل شيء، لاني.."، قال بصوت منخفض، "كل شيء.. وأنا عاملتكِ بطريقة سيئة جداً بينما كنت تحاولين إنقاذ روحي الخاسرة.."
مدّ يده ليقبض على كفها، ثم قبل ظاهر كفها، وضغط جبينه على يدها، وكأنه يتلو دعاءاً، "سامحيني، لقد كدتُ أن أرميكِ خارجاً أنتِ والطفل لصالح كبريائي الغبي.."، ثم سحب نفساً مرتجفاً، وإنخفض صوته كثيراً حتى بات يقارب الهمس، "حين قلت أنني سأحصل على زوجة جديدة.. وطفل جديد.."
"لقد كنتَ غاضباً"، هتفت بصوت منخفض، "لقد خنتكَ"
"أنتِ، تخونينني؟! أبداً. لقد أنقذتيني، وكنتِ محقة بخصوص والدي.. لقد أمضيتُ وقتاً طويلاً وأنا أتحدث إليه الليلة الماضية.. أثناء إنتظارنا في الخارج.."
"هو هنا؟"
"لم يرغب بتركي أعاني لوحدي"، قال كاسيوس، "خلال كل تلك السنوات التي مضت، كره نفسه لأنه كذب على والدتي. لقد كان دائم التفكير ويكتنفه الندم بينما يفكر بما حصل لي"
"هل سامحته؟"
"إعتقدت ذات مرة أن هذا أمراً مستحيلاً"، ثم نظر إليها ولمعت عيناه بالدموع، "لكن الآن.. كيف بمقدوري ألا أفعل؟ لقد إرتكب خطأ جسيماً لا يُغتفر. لكنني فعلت أيضاً.. عاملتكِ بقسوة.. هل يمكنكِ مسامحتي يوماً ما؟ هل تستطيعين؟"
"أوه، يا حبي"، همست، وضغطت بضعف على يده، "أجل"
وقف على قدميه، ثم إنحنى ناحيتها على السرير وهو يسند طفلهما بيده، ويحتضن وجهها باليد الأخرى، "أحبكِ، لاني. لم أعرف معنى هذه الكلمات من قبل. لكن الآن، فهمت. أنا أحبكِ"
نبض قلبها بقوة وهي تسمعه يردّد هذه الكلمات التي خافت دائماً أنه لن يقولها.
إستقام بوقفته، ليظهر أمامها بقامته الطويلة وملامح وجهه تنضح بالفخر والقوة.
"وسأقطع لكِ وعداً.. وعداً لن أكسره مطلقاً.. حين أعتقدتُ أنني سأخسركِ، أردتُ أن أموت. وأنا أعلم أنني سأضحي بنفسي بسعادة لو كان ذلك لأجلكِ أنتِ وطفلنا. لكن بما أنني أعلم أنكِ لا زلت حيّة الآن.."
وضع يده على كتفها بينما إرتخت يده الأخرى على رأس إبنه النائم، وهمس بنعومة، "لبقية حياتي، سأعيش لأجلكِ"
"أحبكَ"، همست والدموع تغطي عينيها، ثم أدارت وجهها ناحيته.. وقبّلها..
***
نهاية الفصل التاسع

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Nov 04, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

انتقامه الخاسر...... جينى لوكاس...... ترجمة ديلو..... حيث تعيش القصص. اكتشف الآن