الفصل الرابع

739 19 0
                                    

الفصل الرابع

في الصباح التالي، تنهّدت لاني بـ رضا حين كانت تغسل شعرها بالشامبو. تمطّت قليلاً، وهي تتمدد تحت رذاذ الماء الساخن في الحمام.
شعرت وكأنها بالكاد نامت، لكن جسدها يضجّ بالسعادة...كل عضلة.. كل مفصل.. خاصة الأماكن السرية التي اكتشفها كاسيوس ليلة البارحة.. لقد إستيقظت وهي تشعّ بالسعادة بعد قضاء الليلة في سريره، تنام بين أحضانه.
لكنها استيقظت فقط حين بدأ يتحرّك بقربها لأن هاتفه بدأ يهتزّ بمكالمة عمل آتية من مكان بعيد.
شعرت أنها تحتاج لحمام لتستعيد وعيها، لذا حين تلقّى المكالمة، توجّهت إلى الحمام بتعثّر.
الآن، وهي تقف في الحمام الضخم المصنوع من الرخام الأبيض في جناح كاسيوس، كان من الصعب ألا تستعيد ذكرياتها السعيدة معه.
وبينما كانت تزيل آثاره عنها وقبلاته التي بعثرها على جسدها، إستعادت بذاكرتها كل شيء حصل بينهما الليلة الماضية.
ما الذي كانت تفكر به؟!
"أوه، لا"، همست لاني، ثم أغلقت عينيها وأسندت رأسها على بلاط الحمام البارد.
لطالما كانت فتاة جيدة تتبع القوانين. وهي تعلم مساوىء الحمل المتهوّر.. وكيف لا تفعل؟!
لقد كانا والديها، عشاق في المدرسة الثانوية، لكنهما إفترقا قبل أن تكتشف والدتها أنها حاملاً بها. وأتمّ والدها واجبه وتزوّجها، فقط ليكتشفا عدم إمكانيتهما على العيش سوياً دون إفتعال شجارات حادّة.
وعلى الفور، عثر والدها على عمل في التنقيب عن البترول يستدعي غيابه لشهور طويلة عن المنزل ليعمل في "خليج المكسيك"، وكان راتبه جيداً كما أنه يوفر له فرصة الإبتعاد عن زوجته.
كان الزواج قد تعثّر بالفعل حين بلغت لاني العاشرة من عمرها، حين تعرّض والدها لحادث كارثي في عمله، جعله يخسر بصره وقدرته على المشي.
وحين عاد جسده المحطّم إلى نيو اورلينز، كانت تلك بمثابة القشة الأخيرة لوالدتها.
أعلنت روندا هنري أنها قد نالت كفايتها من التضحية بنفسها لأجل الآخرين، فهجرت زوجها وطفلتها وتركتهما على عتبة باب منزل والدة زوجها، وهربت برفقة عشيقها الذي يعمل كموسيقي نحو الغرب بحثاً عن الشهرة والثروة في كاليفورنيا.
لكن اختفى الحب سريعاً، ولم تحقق الشهرة والثروة على الإطلاق.
في البداية، بحثت والدتها عن المهرب في الكحول، وبدأ الأمر يصبح أسوأ، حتى ماتت بعد بضعة سنوات لاحقة بسبب جرعة زائدة لوحدها على شاطىء مهجور بالقرب من "سانتا مونيكا بيير".
لقد بدأت الكارثة حين حملت روندا دون قصد، ولو لم تحمل، لكانت والدتها حيّة الآن، ولكان والدها قويّ ومعافى.
فقط لو لم تولد لاني!
والآن إتخذت نفس المخاطرة!
غبية.. غبية جداً.. دفنت وجهها بين كفيها.. كيف إستطاعت فعلها؟ خاصة وهي تعلم أنها ستطرد من عملها اليوم؟
أغلقت صنبور الماء بسرعة، ثم خرجت من حوض الإستحمام، ولفّت جسدها بمنشفة قطنية.
مسحت بخار الماء المتجمّع على المرايا، ورفعت ذقنها بينما تطالع إنعكاس عينيها الداكنتين المتعبتين، وشعرها الذي بدا داكناً وهو يعانق كتفيها.
أياً ما كان كاسيوس قد قاله الليلة الماضية تحت تأثير سحر اللحظة، فإن الحكايات الخرافية لا تتحقق، والأمير لا يتزوج الخادمة، كما لا يتزوج الثري من مساعدة خاصة تمتلك مظهراً عادياً.
يجب عليها أن تعود للمنزل وتبحث عن حل للمشكلة.
المنزل..!!
صعدت غصة إلى حلق لاني حين فكّرت بوالدها وجدّتها. لقد مرت سنتين منذ أن رأتهما. لقد كانت بعيدة عنهما لوقت طويل تجمع المال لتعيلهما. لكن بدون وظيفتها هنا في موناكو، كيف سيعيشون جميعاً؟
سحبت نفساً عميقاً، وبدأت تسرّح شعرها المبلل.
يجب عليها أن تكون قوية، هذا كل شيء.
ربما ستكون محظوظة.. ربما يمكنها أن تتحدث مع ميمي وتقنعها بمنحها السماح..
مدّت يدها تلتقط رداء الحمام الأبيض ذو الحجم الكبير المعلّق خلف الباب.
رداء كاسيوس؟
إرتدته ليبتلعها بعمق، وتنسدل أطرافه على الأرض، فبدت كطفلة صغيرة ترتدي ملابس الكبار. وأكمام الرداء توازي ضعف طول يديها، فلفتها حول بعضها بشكل دائري لتصبح ملائمة ليديها، وشدّت الحزام على خصرها قدر إستطاعتها قبل أن تندفع إلى المطبخ.
"صباح الخير"، نظر إليها كاسيوس بتقدير. "تعجبينني في هذا الرداء"
تلوّنتا وجنتيها. "شكراً، هل هذه قهوة؟"
منحها إبتسامة واسعة مفاجئة، "صنعتها بنفسي"
"حقاً"، سألت وهي تفكر كيف أن الكونتيسة لن تتمكن حتى من إحضار الماء من الحنفية.
"لوحدكَ؟"
"إنها صباحية رأس السنة، وهو يوم عطلة لمدبرة منزلي. كما أنني لست غير مؤهلاً بالكامل. أنا أستطيع تحضير القهوة، البيض، والخبز المحمّص"
"واو"
"دون سخرية، أرجوكِ. ليس قبل أن تتذوقي هذا"، وسكب لها كوباً من القهوة، "مع كريمة أو سكر؟"
"الإثنين، من فضلكَ"
أضاف مكعبين من السكر وكمية كبيرة من الكريمة ثم راقبها ترتشفها.
"جيدة؟"
إسترخى جسدها بأكمله وتنهّدت، وقالت بصدق، "أفضل قهوة تناولتها قط"
"إعتقدت هذا أيضاً"، قال بتعجرف. "والآن إجلسي"
وبعد لحظة، أحضر صحنين وضع فيهما خبزاً محمصاً مغطى بالزبدة، وبيض مخفوق. دفع صحناً بإتجاهها، ووضع صحنه مقابلاً لها على طاولة الطعام.
قضمت قليلاً من الطعام، وشعرت بالدهشة.
"هذا لذيذ"
"بالطبع هو كذلك. أنا بارع في كل شيء"
"متواضع أيضاً"
تناول قطعة من الخبز المحمّص، "أنتِ بارعة أيضاً"
إلتقت عينيهما من فوق الطاولة، "لم أقابل إمرأة مثلكِ في حياتي"
وهذا يذكّرها.. قضمت شفتها بحزن، "الليلة الماضية... لم نأخذ حذرنا"
"أجل"، وافقها، وهو يتناول القليل من البيض المخفوق. ولم يبدُ متأسفاً على الإطلاق.
"هل كنتُ غائبة عن الوعي؟ هل كنتَ كذلك؟"، وضعت شوكتها على الطاولة، "كيف نخاطر بحملي من شخص بالكاد اعرفه.."
"إذا شعرتِ أنكِ ترغبين بمعرفتي أكثر قليلاً..."، وسقطت نظرته على رداءها ليمنحها إبتسامة ماكرة، "يمكننا العودة إلى الغرفة"
شعرت بخدّيها يحترقان من الخجل، ثم نظرت إلى الأسفل لترى فتحة رداءها الكبيرة قد إتسعت، فجذبت الرداء أكثر إلى جسدها بحماية، "كيف يمكنكَ أن تسخر من الوضع؟"
تغيّرت تعابيره، "أسخر؟"
"لا أستطيع التصديق أنني خاطرت بالحمل بينما أنا سأتوقف عن العمل!"، أعادت شعرها إلى الخلف، وهي تحبس دموعها بينما تفرغ غضبها، "كيف كنت غبية بهذا الشكل!"
نظر إليها بتشكك، "هل أنتِ حقاً قلقة بخصوص فقدانكِ عملكِ؟ لا تخبريني أنكِ ستفتقدين ميمي؟"
"لا.. لكن"
"لا يوجد لديكِ شيء لتقلقي بخصوصه"، كانت نبرة صوته باردة بشكل يثير الغضب بينما نهض عن الطاولة.
"سأذهب معكِ إلى ميمي"
"ستفعل؟"، وظهر الأمل في عينيها. "ستتحدّث إليها؟ تحاول إقناعها بالإحتفاظ بي؟"
"لا. من الأفضل إنهاء هذا بسرعة"
من الأفضل إنهاء هذا بسرعة. تلاشى أملها سريعاً، وشعرت بالعجز داخلياً.
هل ستكتشف الآن أنه قد تلاعب بها كـ ليلة حب عابرة بالنسبة له وأخذ عذريتها كـ تذكار لحظي؟
هل كل كلامه عن الزواج والأطفال كان كذبة أم نزوة نسيها سريعاً؟
كاسيوس بكونه الشخص الذي هو عليه.. ولاني بكونها..-من تكون- كيف سينجح الأمر بينهما؟
أخفت جرحها العميق وندمها، ثم نظرت إلى الرداء الأبيض الذي ترتديه، "ماذا سأرتدي؟ هذا؟"، ثم رفعت يدها وتدلّى الكم الطويل متجاوزاً حدود أصابعها، وهي تشير إلى الفستان الذهبي الذي ما زال متكوماً على الأرض من الليلة السابقة، "أو هذا؟"
إبتسم بسرعة بخبث، "أنتِ إختاري"
تنهّدت، ثم تذمّرت وهي تقرر، "رداء الحمام، أعتقد"
أنهت قهوتها وطعامها، وقالت بتجهّم، "شكراً على الفطور"
"هذا من دواعي سروري"
وحين نهضت تستعد للمغادرة، تبعها. فالتفتت نحوه، يائسة لأن تنهي اللحظات الغريبة بينهما، "أنتَ لستَ بحاجة لمرافقتي إلى الأسفل. لا توجد حاجة حقيقية صدقني"
"أوه، لكنكِ مخطئة"، هزّ كتفيه، "بكل الأحوال، أنا بحاجة لأن أتكلم مع ميمي"
والآن بعد أن حقق هدفه معها، هل يخطط لوضع خطط رومانسية برفقة من ستصبح بعد قليل رئيستها السابقة؟
إزداد تجهّم لاني، "كما تريد"
سيطر الصمت بينهما حين دخلا إلى المصعد، وضغط الزر حيث يقبع جناح ميمي. لم تستطع ألا تقارن غرابة هذا الصباح المريب بالموقف المثير الذي مرّ بينهما ليلاً،ً بلهفتهما على بعضهما حين عانقها في المصعد.
حدّقت به بطرف عينها، وحتى الآن تشعر بالغضب من نفسها دون أن تفهم السبب، ورغم كونها عقلانية وهادئة طيلة حياتها، إلا أنها لم تستطع مقاومته.
لقد جعلها كاسيوس تشعر بجمالها.. بكونها مرغوبة.. وإنغمست في سحر اللحظة النادرة..
لكن الآن، إنتهت هذه اللحظة، وما أن تطرد من عملها وتحزم حقائبها، حتى تعود لنيو أورلينز.
وقريباً، هذه الليلة -أروع ليلة في حياتها- لن تكون أكثر من مجرد ذكرى سعيدة بعيدة.
إلا لو إكتشفت حملها.
توقف المصعد مصدراً صوتاً خفيفاً وفُتِحَت الأبواب.
"من بعدكِ"، قال كاسيوس وهو يمسك الباب.
مشت عبر الرواق نحو جناح الكونتيسة، ثم سمعت هاتفه يرن وتباطأت خطواته خلفها. لكنها ظلّت تمشي.
هل يعقل أنها حامل الآن؟
ماذا إن كانت؟
تقوّست شفتيها إلى الأعلى لفكرة أن تحظى بطفل خاصّتها لتحبه وتحمله بين ذراعيها.. طفل يحمل عينيّ كاسيوس الداكنتين..
لا. لا يجب أن تفكر بهذه الطريقة. بل يجب أن تفكر أنه من غير المحتمل أن تحمل، وهذا شيء جيد.
ستكون كارثة لو حدث الحمل الآن، فالطفل هو مسؤولية جدية، وهي لا تملك شيئاً لتقدمه له. فهي تفتقر إلى المال، والوظيفة، والزوج، حتى أنها لا تتمتع بعلاقة حقيقية مع والد الطفل.
كل ما تعرفه عن كاسيوس بلاك أنه بليونير وسيم بشكل خطر، وقد حوّلها في ليلة سحرية من خادمة الى أميرة بثوب ذهبي خارجة من قصص الخيال.
تذكرت المشاعر التي زرعها بداخل قلبها الليلة الماضية، حين لم تندم حتى على خسارة فرصتها بالحصول على عشرة ملايين دولار، لأنه وبطريقة ما ساعدها بتغيير حياتها.
حين أغراها.. أثبت لها أنها مرغوبة وليست باردة المشاعر كما كانت تعتقد..
لسنوات، كانت تشعر أنها غير مرئية ولا تستحق الحب، والآن ستنتزع من رأسها فكرة أنها مجرّد فتاة عذراء باردة.
لكن هل ستصبح أماً عزباء قريباً؟
لا زالت لاني تستطيع سماع صوته الأجش: تعبت من حياة العزوبية. أريد عائلة. أريد زوجة.
لكن أياً كان نوع الشيء الذي أغرقها به الليلة الماضية، فهو قد عاد لأسلوب المنطق هذا الصباح.
من الأفضل إنهاء هذا سريعاً.
حين يأخذ كاسيوس عروساً لنفسه، ستكون إمرأة جميلة وراقية ومهندمة من نفس طبقته الراقية.. إمرأة مثل ميمي دي بليسيس.
فتحت باب الجناح، وسحبت نفساً عميقاً لتمنح الدعم لنفسها، ثم خطت للداخل.
نهضت رئيستها عن طاولة الطعام بإبتسامة هادئة، وتمتمت، "هل حظيتِ بوقت ممتع الليلة الماضية؟"
هل كان هذا سؤال خدعة؟ هل توجد فرصة لأجلها كي لا تطردها ميمي من العمل؟
"أجل؟"
نظرت لاني في جميع أنحاء الجناح، بتصميمه الأنثوي وأثاث الملك لويس الثالث عشر يملأ المكان والجدران البيضاء والأرضية المماثلة. ورأت حقائبها وصندوق كبير وُضِعَت به أشياءها يفترشون الأرض. وعندها علمت أنها ليست محظوظة في هذا المكان الآن.
بيأس، هتفت، "سيدتي، أرجوكِ سامحيني. أنا مدينة لكِ بإعتذار.."
"تأخر الوقت على هذا"، إقتربت منها الكونتيسة ولوّحت بورقة نقدية من فئة الخمسين يورو قبل أن تضعها بيد لاني، "خذي"
"ما هذا؟"، قالت بحيرة.
"راتبكِ الأخير"
"لكن غداً من المفترض أن أخذ راتبي الأخير، عن أسبوعين كاملين. كما أن هناك راتب يغطي ثمانية أسابيع من الإجازة المدفوعة التي لطالما قمتِ بتأجيلها ومنعتني من الحصول عليها.."
"هذا سيء من أجلكِ، لكن هذا كل ما ستنالينه"
"هذا غير قانوني!"
"من سيحاربني؟ أنتِ؟"، كانت تعابير ميمي قاسية.
"هل تعتقدين أنكِ مساوية لي الآن، فقط لأن كاسيوس بلاك أخذكِ إلى سريره؟ أنتِ لا شيء، لاني. لا أحد. قمامة شارع"، وأرجعت شعرها الاشقر الى الخلف بإشمئزاز.
"والآن بعد أن إستخدمكِ، سيرميكِ كالقذارة.."
"آه، ميمي. سعيد لرؤيتكِ هذا الصباح"
شهقت ميمي برقة حين سمعت صوت كاسيوس الأجش، "أوه! لم أتوقع.."
"سنة جديدة سعيدة!"، وضع هاتفه في جيبه، ومنحها إبتسامة، "أتيت لأساعد لاني بالحصول على أشياءها، لكن أيضاً لأكلمكِ"
"أنا؟"، قالت ميمي.
أصبحت عيناه دافئتين. "لدينا بضعة أشياء يجب مناقشتها"
شعرت لاني بطعنة غيرة أصابتها في مقتل، دون وجود سبب يدفعها لذلك.
"سيدي؟"
ظهر رجل ضخم فجأة عند الباب خلف كاسيوس.
"آه! بينيتو"، ونظر كاسيوس نحو لاني، "هل هذه هي حقائبكِ؟"
أومأت له.
"هل هذا كل شيء؟"
"بالطبع كل شي!"، هتفت ميمي باعتراض، "هل تعتقد أنني سأحتفظ بقذارتها عندي؟"
منحها إبتسامة حادّة، ثم إستدار نحو الرجل، "من فضلكَ، خذ حقائب الآنسة هنري إلى شقتي في الأعلى"
"على الفور، سيدي"
"شكراً لكَ"، ونظر مباشرة إلى لاني، "هل يمكنكِ تولي أمر الصندوق؟"
"بالطبع أستطيع.. لكن لا أفهم ضرورة.."
"سأراكِ في الأعلى لاحقاً"، قال مقاطعاً كلامها.
تجهّمت ملامحها، ولم تفهم لِمَ طلب من حارسه الشخصي أخذ حقائبها إلى شقته في الأعلى، لكن من الواضح أنه صرفها من شقة ميمي ببرود.
لا بد أن كاسيوس لا يستطيع الإنتظار كي يصبح لوحده مع ميمي، ربما ليهمس اشياءاً جميلةً في أذنها، ويتفقان على مكان موعدهما لهذه الليلة، بينما لاني تقف كالمتشرّدة –كما لمحّت لها ميمي- بغباء أمامهما وهي ترتدي رداء الحمام الواسع!
"بالطبع"، قالت لاني ببرود، "لاحقاً"
بينما حمل بينيتو حقائبها، شدّت حزام الرداء على خصرها، وحملت الصندوق الذي كان يحتوي على كتبها القديمة بالإضافة إلى نبتة صغيرة وغطاء صوفي من صنع جدّتها.
إستدارت تاركةً جناح ميمي بأكبر قدر إستطاعت الحصول عليه من الكبرياء دون النظر للخلف. وما إن أصبحت في الرواق حتى إستدارت لتتكلم مع الحارس الشخصي أو أياً كانت وظيفته بالنسبة لكاسيوس، "سأخذ هذه الحقائب، لا يوجد داعٍ لتأخذهم إلى الأعلى. أنا سأتوجه إلى المطار الآن"
هزّ الرجل رأسه، "آسف، آنستي. لقد قال السيد بلاك أن أخذ حقائبكِ وأرافقكِ إلى الأعلى، لذا إلى الأعلى ستذهبين"
وأصرّ على مرافقتها في المصعد صعوداً إلى الجناح، برفقة كامل حقائبها. وما أن وصلت، حتى دخلت بسرعة إلى غرفة النوم وهي تنفث غضباً.
"لن أنتظره!"، صرخت بإهتياج رداً على الرجل، لكنه كان قد غادر بالفعل.
حسناً، ستغير ثيابها وترحل.
بحثت بين حقائبها عن قميص أبيض وبنطال واسع مريح، ثم توقفت وهي تتذكر أنها لم تعد تعمل لدى أحد. ليس بعد الآن.
عوضاً عن ذلك، إختارت كنزة ذات ألوان ساطعة كانت قد إشترتها من بائع متجوّل رُسِمَت عليها صورة حفلة موسيقية لموسيقى الروك في باريس سنة 1976. وإرتدت بنطالاً من الجينز الأحمر ضيق كالقفاز، وأخيراً وضعت قبعة بنفسجية اللون على رأسهاأسها، وعقدت شعرها في تسريحة ذيل الحصان، لتنسدل الجديلة على ظهرها، ثم بحثت في حقيبتها عن أحمر شفاه ذو لون أحمر صاعق.
إنتهت.
نظرت إلى هيئتها في مرآة غرفة النوم، وأرسلت قبلة لنفسها في الهواء بـ رضا.
لقد إكتفت من إعتبارها مجرد خادمة.
الآن ستصبح إمرأة بمبادىء.
كتفكير آخر، ربما مبادئها ليست عظيمة لهذه الدرجة، لكنها على الأقل إمرأة تملك طموحاً.
لتواجه الأمر، لطالما علمت أن عملها لدى ميمي المدللة ليس عملاً يدوم طيلة الحياة. والآن حان الوقت لتكتشف ما الذي تريد فعله حقاً في حياتها، عوضاً عن إضاعة عمرها هباءاً في البدايات.
توجد هناك طرق أخرى لجني الأموال، يمكنها أن تذهب إلى جامعة محليّة وتتدرب على مهنة مفيدة، كالتمريض أو التعليم.
لقد بلغت الخامسة والعشرين من العمر، ولم تعد طفلة.
يمكنها، ويجب عليها، وستبدأ بالتصرف على هذا النحو كناضجة.
ستجد طريقة للحصول على مهنة محترمة لا تجعلها مكتئبة وذليلة، بل ستتيح لها فرصة أن تكون قريبة من عائلتها ومنزلها. لن يكون الأمر سهلاً، وعلى الأرجح ستضطر للعمل بدوام كامل بينما تتابع الصفوف الليلية في الجامعة، لكن التضحية تستحق ما ستفعله.
إنها تشتاق لعائلتها، ولمنزلها.
والآن، هي مستعدة للقتال مقابل تذوق طبق جدتها الشهير (جامبالايا) وإلى جانبه طبق من الأرز الأبيض.... الدجاج المقلي والكرنب الأخضر... قطع الجبنة المقلية... صدف البحر مع الأرز... أو سندويش اللحم بالصلصة. ولعقت شفتيها وهي تتخيل السلطة بزيت الزيتون، والفطور المثالي المؤلف من قهوة الهندباء السوداء، والفطائر الساخنة بالزبدة تعلوها طبقة خفيفة من بودرة السكر الأبيض في "مقهى دي موند".
لقد حان الوقت لمواجهة العالم الحقيقي، عالم العمل والفواتير، وأيضاً عالم قهوة الهندباء والدجاج المقلي، فكّرت بأمل.
ببساطة.. العالم الحقيقي بسعادته وقسوته، لكنها ستتذكر على الدوام حفلة ليلة رأس السنة حين تحوّلت إلى سندريللا.
وقعت عيناها على الفستان الذهبي المبهر المكوّم على الأرض. اقتربت ببطء، تمسكه وتضعه برفق على ظهر الكرسي، وتتبعت أصابعها أشعة الذهب المنتشرة على القماش الشفاف اللامع.
لن تنسى هذه الليلة أبداً.. أو الرجل.. مطلقاً..
للعشر سنوات القادمة، حين تكون غارقة في العمل في وظيفتين لتأمين الأموال اللازمة لتعليمها، وسهرها طيلة الليل لأجل الدراسة وهي تتناول المعكرونة والفاصولياء، ستتذكر أنها ذهبت ذات ليلة ‘لى حفلة في "مونت كارلو" تماماً مثل ملكة موناكو السابقة "غريس كيلي".
وضعت غطاء جدّتها في إحدى الحقائب، ورمت الصندوق في القمامة، ثم نظرت بندم إلى "نبتة الجيرانيوم" الصغيرة ذات الزهور الحمراء التي يتحتم عليها تركها خلفها.
بدأت تبحث في حقيبها الصغيرة الرثّة عن هاتفها لتطلب توصيلة إلى المطار، ثم توقفت حين أدركت أنها لا تملك هاتف، فهاتفها تدمّر تحت إطارات سيارة كاسيوس.
لكن كان ليكون الوضع أسوأ، فبعد قضائها ليلة كاملة بين أحضانه، أدركت كم من السهل أن تستسلم له، وبعد عدة ليالٍ مشابهةٍ، من الممكن أن يكسر قلبها ببساطة.
هاتف؟ يمكنها إستبدال هذا.
أغلقت الحقائب، ووقفت وهي تلقي نظرة أخيرة على الجناح الفخم بأثاثه الحديث الباهظ الثمن، والنوافذ الكبيرة الممتدة من السقف حتى الأرضية والمناظر الخلاّبة التي يطل عليها الجناح خاصة والشمس تشعّ بقوة الآن فوق البحر الأزرق المشرق.
سحبت نفساً عميقاً، ثم عقدت يديها على صدرها، وإستدارت مبتعدةً عن المشهد أمامها.
جرّت الحقيبتين خلفها تحاول الوصول إلى الباب، ثم توقفت حين فُتِحَ الباب ودخل كاسيوس.
نظر إلى الحقائب، وتجهّم وجهه، "ما الذي تعتقدين أنكِ تفعلينخ؟"، زمجر بوجهها.
"ماذا يبدو لكَ؟"، بادلته النظرة بجرأة، "أنا أرحل"
"ترحلين؟"، ضحك بإستمتاع، ثم أقفل الباب خلفه.
"لاني، لقد بدأنا للتو"
بلعت ريقها، وكرهت إستسلام قلبها النابض له، وفجأة بدا الجناح الواسع صغيراً بالنسبة له بوجوده معها يضيّق الحصار عليها. ولم تعد ترَ سواه أمامها.
"إعتقدت أنكَ ستريد البقاء وحدكَ مع ميمي..."
"لقاءنا لم يكن خصوصياً"، ولمعت عيناه، "فقط لقاء عمل"
رمشت بعينيها، "أنتَ تمنح قرضاً آخراً لرئيسها؟ لقد قابلت بوريس كورنتيسوف بالمناسبة. وهو رجل لطيف يعتني جيداً بموظفيه، ألهذا السبب تستمر بمنحه القروض؟"، قالت بفضول.
"فقط لتساعده؟"
"شيئاً من هذا القبيل"، كانت عيناه قاسيتان وغامضتان حين إقترب منها وهو يلوّح أمامها بحزمة نقود.
"تفضلي"
أوه، يا إلهي!
هل هو يدفع لها لأجل الليلة التي قضتها في سريره؟
قالت ببرود، "ما هذا؟"
"المال الذي تدين به ميمي لكِ.. راتب أسبوعين.. بالإضافة إلى رواتب الإجازات المدفوعة طيلة العامين السابقين"
"كيف حصلت عليهم منها؟"
تقوّست أطراف شفتيه الحسيّتين، "لقد طلبت منها بطريقة مهذّبة"
يبدو أنه حقاً يتمتع بقدرات سحرية. مدّت يدها لتقبض على حفنة الأموال، ثم توقف بتشكك، "ماذا تريد مني بالمقابل؟"
"هل تعتقدين أنني أحاول شراءكِ؟"، بدا مندهشاً، "لا أستطيع شراء شيءاً أملكه بالفعل!"
"ما الذي تتحدث عنه؟ أنتَ لا تملكني"
"لقد عقدنا إتفاقاً الليلة الماضية"، قال ممرراً يده على طول كتفها من فوق كنزتها، "أو هل نسيتِ؟"
لقد تذكرت فجأة كلماته لها.. حين نطقها بصوت أجش في الظلام..
إذا ربحت رهاني، سوف تسلّمين كل شيء. ستدعينني أمتلككِ بجانبي.. وأمنحكِ طفلي.. ستكونين لي .. للأبد!
"لكن تلك كانت نكتة سخيفة"، إعترضت، "تلاعب على الكلام.. أنتَ لا تتوقعني حقاً أن..."
"أنا لا امزح بخصوص الصفقات.. أو أتراجع عن كلمتي.."، نطق وهو يطالع هيئتها بظلّ ضوء الصباح الباهت.
"هل تلمّح أنكَ جديّ بكلامكَ؟"
داعب ضوء الصباح الأبيض المنتشر عبر البحر المتوسّط الجانب القاسي من خدّيه، مبرزاً تلك الندبة الصغيرة، وخطوط فكّه الحادّة، وشعره المبعثر كالصبيان والذي بدا ناعماً بشدة لهذا الصباح لدرجة أن تدفعها رغبتها لتمرر أصابعها بين خصلاته مجدداً كما فعلت الليلة الماضية.
أرغمت يديها على البقاء جامدتين بمكانهما، ورفعت ذقنها، "تبعاً لخبرتي، إن الرجال الأثرياء يعايشون الكثير من النزوات التي تنتهي سريعاً"
"هذه ليست نزوة. طلبي كان واضحاً ومباشراً. أنا أريد عائلة، وزوجة بإمكانني الثقة بها. وأنتِ تبدين مثل هذه المرأة، لكن خوفكِ الوحيد كان أن تكوني باردة المشاعر. وقد أثبتت لكِ عدم صحة هذا الخوف"
وإنحنى للأمام نحوها، "لقد سلمتِ نفسكِ لي، لاني"، همس ولا تفصل بين شفتيه وشفتيها سوى بضعة إنشات، "كل شيء.."
جفّ فمها، "ما نوع الخيار الذي منحتني إياه؟ لم أكن ذات خبرة، ولا توجد لدي أدنى فرصة لمقاومة إغراءكَ كــخبير"
ظللها بقامته الشاهقة، وضيّق عينيه، "هل تقولين أنني أخذتكِ ضد إرادتكِ؟"
"بالطبع لا!"، قالت بقلة حيلة.
مدت يديها على إتساعهما، "إنه فقط... أنكِ تغير النساء بإستمرار.. متعة لحظية.. وتستبدلهم مثل الجوارب القذرة دون أن ترتبط بأي واحدة"
"أنا مستعد لأرتبط بكِ"
إبتلعت ريقها، وهي تترنح بفعل كلامه الهامس، "لكنها كانت مجرد رغبة"، قالت بيأس. "ألا يقولون الرجال أشياءاُ لا يقصدونها حقاً حين يعتزمون على إغراء النساء؟"
"أنتِ منزلي!"، إنحنى للأسفل يحتضن خدّها بكفه، "أنا أعتزم الزواج منكِ، لاني.. قريباً.. وحتى الآن، قد تكونين حاملاً بطفلي"
إن فكرة الزواج بـ كاسيوس.. حمل طفله.. كانت حلماً... حلماً رومانسياً تافهاً. لا يمكن أن يكون حقيقياً!! فالفتيات مثلها لا يتزوجنّ بالأثرياء!!
"أنتَ تتلاعب بي"، همست له.
منحها إجابته على هيئة عناق إكتسح كيانها بالكامل جعل مخاوفها وشكوكها تختفي كالسحر، فتعلّقت به وهي تقف على أطراف أصابعها تلفّ ذراعيها على رقبته تبادله الشغف الذي طال إشتعاله بداخلها.
إبتعد عنها، "أنتِ لي الآن"، همس بالقرب من شفتيها، "إقبّلي ما يعرفه جسدكِ بالفعل!"
كانت تهتز بالكامل، "لماذا إخترتني؟ نحن بالكاد نعرف بعضنا!!"
"لنفس السبب الذي يجعلني أشتري قطعة الأرض حين أراها للمرة الأولى.. أحياناً لا يتعلق الأمر بالمعلومات المتوفرة أو بالدراسات الطويلة التي تستغرق سنوات"
نظر إليها وداعب شعرها الطويل بين أصابعه، "وأحياناً أخرى حين تشاهدين شيئاً ما.. فقط تعلمين أنه المطلوب"
هل يمكن أن يكون هذا حقيقياً؟
فكرت لاني بوالديها اللذين عرفا بعضهما طيلة فترة طفولتهما، وكبرا سوياً في نفس الشارع، وتواعدا طيلة فترة المدرسة الثانوية.
وإنتهى الامر بكارثة.
هل الزواج بشخص عرفته طيلة حياتكِ أقل خطورة من إقتناص فرصة الحب من أول نظرة؟
حب؟!
هل هي تحبه؟
هل وقعت بالحب معه بالكاد الآن؟
إرتجف جسدها.. إنه فقط الإنبهار بشخصيته.. فكّرت.
لكن كيف ستعرف الفارق بينهما؟ ربما الحب هو ليس أكثر من انبهار يدوم طويلاً.
"لكنني عائدة إلى منزلي في نيو أورلينز"، قالت بلا شعور، "لأحصل على وظيفة"
"لا"، مرر كاسيوس يده ببطء على ظهرها، "ستبقين هنا وتتزوجين بي، لاني.. أنتِ تعرفين هذا.. وأنا أعرف"
حدّقت به، وجسدها يرتجف بالكامل، وتشعر به يعود للحياة بقوة، ونبضات قلبها تتصاعد بقوة.
أوه، هذا محض جنون!
"لكن الغرباء لا يقررون الزواج ببساطة"، إعترضت.
"ألا يفعلون؟"، رفع يدها إلى شفتيه، وقبّلها، فشعرت بدفء أنفاسه على بشرتها. وفكرت كم من الممتع أن تحظى بشخص يبقى بجانبها يحميها ويحرسها.
"هل سيساعد الأمر إذا إنحنيتُ مستنداً على ركبة واحدة"، وتقوّست شفتيه بإبتسامة مستمتعة وهو ينفذ ما قاله حرفياً.
وضع يده على موضع قلبه في صدره، وقال بسخرية تامة، "إيلين ماي هنري، هل ستمنحينني الشرف العظيم.. وتصبحين.."
"توقف، توقف!"، صرخت به، ووجنتيها تحترقان بينما كانت تطالبه بالوقوف مجدداً على قدميه. "لا تغيظني!"
نظر إليها بنظرات جدّية. "أنتِ من تقومين بفعل الإغاظة هنا، لاني.. لمرة واحدة نهائية، ما هو قراركِ؟"
قرارها؟
لا.
لا، بالطبع!
ما عدا..
ما عدا أنها موافقة!
بعد قضاءها حياة كاملة تعيش بمنطقية وهدوء، وهي تعمل لساعات طويلة بشكل غير مرئي للعيان، شعرت برغبة عارمة تدفعها للتهوّر.. التهوّر الذي سيعيد إليها الحيوية..
تاقت لأن تكون قوية بما يكفي لـ فعلها.. لأن تحبّه.. وأن تقفز إلى المجهول.
سواء أكان قرارها خاطئاً أم صحيحاً.. هي تريد أن تعيش!
زفرت أنفاسها، "حسناً"
"ستفعلين؟"
"أجل"
"لا يوجد مجال للتراجع"، حذّرها.
"لن أتراجع"، ومنحته إبتسامة مهتّزة. "كما قلت.. لقد عقدنا الإتفاق.. وأنا أوفي بوعودي"
"وأنا أوفي بوعودي أيضاً"، سحبها بين ذراعيه قريباً إلى صدرها، وأمسك بذقنها ليرفع رأسها اليه، "من الآن وصاعداً، سأعتني بكِ على الدوام لاني، أنتِ وجميع من تحبين. لن تكوني مضطرة للقلق بخصوص أي شيء الآن، بما أنكِ ترتدين خاتمي بإصبعكِ.."
نظرت إلى يدها اليسرى الخالية من أي خواتم.
"أي خاتم هذا؟"، قالت مشاكسةً وهي تنظر إلى أنحاء الجناح الفخم، "ربما يمكننا العثور على شريط حريري أو رباط مطاطي أو أي شيء من الممكن ربطه حول إصبعي؟"
إبتسم لها، وبدأ يقودها نحو الباب، "يمكنني فعل ما هو أفضل من هذا"
"إلى أين سنذهب؟"
"إلى متجر المجوهرات"
"كنتُ أمزح!"، إعترضت ثم هزّت رأسها، "كما أنها عطلة رأس السنة، ألا تكون جميع المتاجر مغلقة؟"
إتسعت إبتسامته، "سيفتحون من أجلي"
***
نهاية الفصل الرابع

انتقامه الخاسر...... جينى لوكاس...... ترجمة ديلو..... حيث تعيش القصص. اكتشف الآن