الفصل الرابع
في الصباح التالي ما أن خرجت من باب البيت وجدته جالسًا على الدرج أمام شقتها.. حدقت به بدهشة بينما التفت هو لها ما أن أغلقت الباب.. نهض واتجه نحوها وابتسم قائلًا: "صباح الخير أصالة"
انعقد ذراعيها وهي تنظر له باستغراب دون رد فأكمل: "أنا كنت ذاهبًا لقضاء بعض العمل ففكرت بإيصالك"
فهمت السبب بوجوده فابتسمت باستهزاء وردت: "لا شكرًا.. يمكنني السير وحدي"
تحركت لتغادر لكنه عاد للوقوف أمامها.. فتنهدت بحنق وهي تنتوي إبعاده عن دربها.. لكنه نظر لها قليلًا فجعل الكلمات تهرب من لسانها وتعود لحنجرتها.. لتشعر فجأة بذات الشعور الذي لا تفهمه أن عليها الوقوف بأدب والاستماع لهذا الغريب دون مبرر.. أفاقت عندما تنهد قائلًا: "اسمعي.. أعلم أن هذا يزعجك لكني أخبرتك أنك أمانتي وأنا أريد أن أعرف فقط مكان عملك"
وقبل أن تعترض عاجلها بالإكمال: "هذا فقط تحسبًا لأي طارئ"
استطاعت أن تفيق من حالة التيه التي أصابتها وفتحت فمها لتخرسه وتأمره ألا يتدخل.. لكنها تذكرت المكان التي توجد به العيادة.. صحيح أنه شارع رئيسي.. لكن لديها ثلاثة أيام بالأسبوع مناوبتها بها مساء.. ولا تعلم ربما يحدث أي خطب فيفضل أن تخبر أحد عن مكانها.. والمنطق ينص أن الواقف أمامها هو الأنسب لهذا.
تنهدت وهي تنظر له محاولة ادعاء الملل.. حتى يفهم أنها ليست بحاجته على عكس الواقع.. ثم بعد ثوان ردت: "حسنا لا مانع لدي"
ابتسم لها فتحركت تتجاوزه وهي تكمل: "لكن فقط اليوم!"
***
راقبه أنور وهو شارد الذهن منذ عاد من إيصاله لها في الصباح.. كان عليه ألا يتدخل لكنه لم يجد بدا من الجلوس أمامه والتنحنح قائلًا: "لا أقصد أن أكون متطفلا و..."
:"أنت متطفل بالفعل!"
قاطعه بقولها بينما كانت عيناه لا تزالان سارحتان بالفراغ.. قبل أن يهز أنور رأسه ببساطة ويقول: "ليست هذه قصتنا يا معلم.. أنا أتحدث عن الآنسة.. أعني أنا لا أفهم سبب غضبك ربما يكون هذا العمل بداية طريق جديد لها"
التفت له وضاقت عينيه لثوان قبل إن يرد: "هل تعرف أن أصالة بإحدى المرات تشاجرت مع سائق وسحبته لقسم الشرطة لأنه فقط نظر لها بطريقة لم تعجبها؟"
اتسعت عينا أنور وقبل أن يفتح فمه عاجله أمير بالتكملة: "وقد كانت لا تزال في السابعة عشر من عمرها.. وأصرت على تحرير محضر له لولا أن والديها توسلا لها والرجل وزوجته وحتى الضابط المناوب لتتخلى عن قرارها"
صمت أنور تماما فأردف أمير: "وعندما كانت بالتاسعة عشر تشاجرت مع فني المعمل بسبب نقص أحد الأشياء التي لم أفهم ماهيتها.. لكنه كان شيئًا مهما تحتاجه.. المهم أنها تشاجرت معه وعندما قال الرجل كلمة واحدة لم تعجبها.. أصرت على كتابة شكوى وتقديمها لعميد كليتهم وتسببت بمجازاته.. وبمرة طلبت لأحد جيرانها الشرطة لأنه كان يجلب فتيات غريبة للمنزل وتسببت بفضحه بالشارع.. ومرة أخرى..."
:"كفى يا معلم فهمت!"
قاطعه وهو لازال مشدوهًا مما قاله قبل أن ينهض مكملًا: "أنت على حق لن تستمر لبضعة أيام حتى بالعمل"
غادر بعدها يتجه للمرآب لتنظيف إحدى السيارات.. لكنه توقف وعاد أدراجه ثم سأله: "من أين عرفت كل هذا أساسًا؟"
صمت قابله فانعقد حاجبيه قبل أن يسأل: "هل كنت أنت من تحل لها كل هذه المتاعب؟!"
مط شفتيه ونظر للفراغ وهو يرد: "بعضها"
بقي أنور يحدق به بانشداه قبل أن يتحرك نحوه ويقف أمامه قائلًا: "سأسألك سؤال وعليك الرد عليه.. لن أقبل ألا ترد عليه وبعدها افصلني إن أحببت.. لم لا تتزوجها وحسب؟.. أعني إن كانت سترفض بالماضي فهي الآن لابد أن توافق"
رد أمير ببساطة: "لأنني هكذا استغل الظروف التي تمر بها بطريقة قذرة أنور.. وهي أمانة عندي من والدها علي الحفاظ عليها وحسب"
هتف أنور: "تلك الأمانة ستسبب المتاعب والقلق لك والأذى لنفسها.. فالأفضل أن تتزوجها وتلهيها بأشياء أخرى.. كرعاية المنزل وصاحب المنزل وإنجاب الأولاد وتعليمهم.. تلك الأمور قادرة على إلهاء أي امرأة"
ضاقت عينا أمير وهو ينظر له لكنه لم يتراجع وأكمل: "لا تنظر لي هكذا.. أنت تفهم ما أعنيه وأنا لن أسحب كلامي"
تحرك عندها ليبتعد عنه لكن أمير قذف إحدى المسامير الثقيلة نحو ساقه.. وما أن أصابه أخذ يقفز بمكانه وهو يتأوه.. بينما انفجر أمير ضاحكًا مما استفزه فقال بعناد: "لا زلت لن أسحب كلامي يا معلم!"
توقف عن الضحك عندها ثم تنهد قبل أن يرد: "إنها عنيدة أنور ولا تقبل التنازل لأي أحد وهذا كان السبب بكل ما أصابها.. ولا يمكنني تحمل رفضها المؤكد.. فأنا أعرفها أكثر من أي شيء"
لانت ملامحه بينما ينظر له قبل أن يلتفت ويعود للعمل.. فعلم أنه أعجزه كما عجز هو أمام قلبه منذ سنين.
***
كانت تنظر للظرف بين يديها وهي لا تعلم سبب خوفها وحزنها.. لقد حدث ما طلبته فقد كان أول ما طلبته من الطبيب أن يكون راتبها مقدمًا وقد أخبرها أنه سيفكر بالأمر.. لكنها الآن تشعر بالاستياء والخوف بعد أن أخذت الظرف الذي يحمل المال من ذلك المعتوه المدعو كامل.. وبالحديث عنه عليها أن تغادر قبل أن يتبعها بالنزول يكفيها تحمل صفاقته وثقل دمه طول النهار.. ومع تلك الفكرة أخذت نفسا عميقا ثم أطلقته قبل أن تفتح الظرف وتخرج المبلغ كله.. لم تحاول عده حتى لا تتحسر أكثر على عمرها ومجهودها الذي بذلته.. لتتلقى في النهاية ألف وأربعمائة جنيه.. تنهدت وتحركت للشارع ثم نظرت حولها.. يجب أن تشتري بعض الأغراض لتضعها في الثلاجة فلن تعتمد على الطعام الجاهز الذي لا يمكنها تحمل تكلفته.. نظرت للشارع الواسع وفكرت أنها ربما لو سارت لنهايته تجد أي سوق تجاري تشتري منه بعض الطعام.. فمن المستحيل أن تنفق مالها على جبن العم أيوب المحلى بأصابعه وأظافره.. انكمشت ملامحها وقررت نسيان الأمر حتى لا تتقلب معدتها مجددًا.. ووضعت سماعات الأذن وبدأت بسماع الأغاني.. ورغمًا عنها ابتسمت وهي تستمع للمطربة التي تحمل اسمها وهي تشدو إحدى أغاني والدها المفضلة لها:
(آه من عيناه ده أنا والله ما حب القلب سواه
آه لو من قلبه يقول لي إن أنا حفضل على طول وياه
آه من عيناه ده أنا والله ما حب القلب سواه
آه لو من قلبه يقول لي إن أنا حفضل على طول وياه
وبقول لو أطول أنا لحظة معاه
ده أنا أسيب الدنيا وأعيش وياه
وإن جاني هواه في يوم قال لي أنساه
ده أنا أموت والله آه آه آه
حبيبي لو يجيني مرة لاقيني في عيونه دايبة كده والله
يجيني لو يجيني مرة لاقيني في عيونه دايبة كده والله
حبيبي لو يجيني مرة لاقيني في عيونه دايبة كده والله
يجيني لو يجيني مرة لاقيني في عيونه دايبة كده والله
آه من عيناه (آه من عيناه) ده أنا والله ما حب القلب سواه
آه لو من قلبه يقول لي إن أنا حفضل على طول وياه
وبريء ورقيق والطيبة دي فيه
والعمر الجاي أنا هعيشه ليه
والقلب شاريه مهما يبيع فيه
ولا ليّ مكان غير حضن عينيه
وبموت فيه موت طول ما أنا وياه
ما هو معنى الحب لقيته معاه
وإزاي أنساه وإزاي ينسى
وأنا ليّ معاه حكايات في هواه
حبيبي لو يجيني مرة لاقيني في عيونه ذايبة كده والله
يجيني لو يجيني مرة لاقيني في عيونه ذايبة كده والله
حبيبي لو يجيني مرة لاقيني في عيونه ذايبة كده والله
يجيني لو يجيني مرة لاقيني في عيونه ذايبة كده والله
آه من عيناه ده أنا والله ما حب القلب سواه
آه لو من قلبه يقول لي إن أنا حفضل على طول وياه)
اندمجت مع الأغنية وأخذت بتكرارها أكثر من مرة بينما تسير.. وهي تتذكر والدتها عندما كانت تستمع لتلك الأغنية كيف كانت تخجل.. وقد كان والدها يتعمد إخجالها حتى تحمر وجنتيها.. فقد كان يحب رؤية وجهها المضجر بحمرة الخجل.. ضحكت رغمًا عنها وهي تتذكر وقوفهما متقابلين ووالدها يغني لها الأغنية وهي تحاول إيقافه بينما تنظر لها بخجل.. ولكن فجأة لاحت ببالها صورته.. وتزامنًا معها شعرت بقلبها تتسارع دقاته دون سبب.. ورغمًا عنها وجدت نفسها تكمل الحديث الذي بدأته البارحة مع نفسها أمامه.. فعينيه جميلتان بالفعل ليس بلونهما.. فاللون عادي بني داكن.. لكنهما تشعان بالمرح والدفء الذي يجبرها على الصمت.. فقد تخيلت بالبداية أنه يتسلط عليها من باب التجبر وفرد العضلات التي يملك الكثير منها.. لكنه أثبت اليوم أنه...
توقفت واتسعت عينيها وهي لا تصدق أين سارت بها أفكارها بينما تهمس: "يا إلهي هل أصابني الجنون.. ما هذا الذي أفكر به.. وأي عضلات تلك التي لاحظتها به؟!"
صمتت قليلًا ثم وجدت نفسها تكمل بتذمر: "العيب ليس مني.. العيب من ذلك المعلم.. فهو وسيم وحنون و... يا ويلي ماذا أصابني هل جننت.. توقفي أصالة.. توقفي!"
توقفت بالفعل وأوقفت الأغاني وهي تهمس لنفسها: "لهذا حرمها الله فهي تسرح بالفكر لأماكن لا يتوجب أن يتواجد بها!"
وقفت تنظر حولها وأدركت أنه على ما يبدو كان صوتها عالٍ وقد جذبت انتباه بعض المارة.. فتنحنحت قبل أن تسير برأس مرفوع وكأن شيئًا لم يكن.. ثم توقفت فجأة وهي تنظر أمامها لتشعر أنها ليست بذات الشارع الذي دخلته.. التفتت تنظر خلفها وتأكدت من ظنها الأول.. ليبدأ ظن آخر يقفز ببالها ألا وهو أنها ربما ضلت طريقها!
***
كان قد بدل ثيابه ونزل للورشة وما أن دخل سأل أنور: "هل أتى أي أحد؟"
رد وهو يتمطى: "أنت تعرف أنه وقت الغداء والقدم تخف به"
أومأ له وكاد يخبره بشيء لكن رنين هاتفه منعه.. فأخرجه وما أن رأى اسم المتصل رد فورًا: "نعم أصالة"
وعلى الجانب الآخر انعقد حاجبي أصالة بشدة بينما تسأله: "كيف عرفت أنها أنا؟"
تنفس أمير بعمق وهمس داعيًا الله أن يلهمه الصبر ثم رد: "لأنك جعلت حلقي يجف صباحًا وأنا أحاول إقناعك بإعطائي رقمك وأخذ رقمي هل تذكرين؟"
شعرت بالحرج وهي تتذكر كيف ظل طيلة الطريق يحاول إقناعها بأن يتبادلا الأرقام حتى إذا ما حدث أي شيء تتصل به فورًا.. عضت شفتيها وهي تتخيل ما كانت ستفعله لو لم تكن انصاعت لإلحاحه في النهاية.. تنحنحت بعدها وقالت: "أجل تذكرت الآن.. اسمع سأخبرك بشيء.. أنا أقف بشارع وأحاول الوصول لسوق تجاري و..."
:"لقد ضللت الطريق أليس كذلك؟"
قاطعها قبل أن تكمل جملتها فردت سريعا: "ضللت الطريق؟! أنا... هل تظنني طفلة أنا في الثامنة والعشرين.. أنا..."
نظرت حولها بالمكان الغريب كليًا الذي لم ترى مثله قبلًا وعندها مطت شفتيها وأكملت بخجل: "حسنًا.. ربما قد ضللت الطريق فعلا"
-:"أخبريني كيف سرت وصفي لي المكان؟"
نظرت حولها وردت: "سرت للجهة الأخرى من الشارع لكن أظنني لست بذات المكان"
-:"ماذا كان خط سيرك؟"
انعقد حاجبيها بتفكير قبل أن ترد: "لا أذكر صراحة"
-:"هل كنت نائمة أثناء سيرك أصالة؟!"
ضربت الأرض بقدمها وهي تهمس لنفسها: "بل كنت سارحة في عيون وعضلات المعلم!"
-:"أصالة.. أين ذهبت؟"
وجدت نفسها تبتسم كالبلهاء ما أن سمعت تلك النبرة القلقة بصوته قبل أن يهتف مجددًا: "أصالة!"
انتفضت عندها وردت سريعا: "أجل معك يا معلم!"
لعنت غبائها وهي تتساءل أي يوم هذا قبل أن تقرر إلهائه.. فنظرت لساعة الهاتف قبل أن تكمل: "اسمع أنا أسير منذ نصف ساعة تقريبًا والآن بشارع مليء بمحلات النجارة"
-:"هذا جيد.. ابحثي عن مقهى هو موجود تقريبًا بمنتصف الشارع وله سلم عالي وواجهته من الخشب"
تلفتت حولها لتجد مقهى بالفعل موجود على الجهة الأخرى على بعد عدة أمتار منه وقالت: "وجدته"
-:"سيري نحوه الآن"
نفذت أمره بالفعل.. وما أن وقفت أمامه وجدت الكثير من الرجال يجلسون بداخله.. وقبل أن تدخل حتى وجدت كل الأنظار اتجهت نحوها.. في نفس اللحظة سمعته يقول: "ادخلي وابحثي عن حمو وأعطيه الهاتف"
شعرت بالحرج من الدخول ومناداة شخص يدعى حمو فابتلعت لعابها وردت: "لا داعي لأدخل سأنتظرك بالخارج"
هتف بها: "لم لا تستمعين لكلامي وحسب أصالة!"
التفتت عندها وردت بحدة وهي تضرب الأرض: "هل تصرخ بي.. كيف تجرؤ.. حتى أبي لم يفعلها.. أنا لست بحاجة لمساعدتك سأسأل أحد المارة وأصل لوجهتي!!"
-:"وهل تعرفين اسم الشارع الذي كنت ستتجهين له.. أو اسم الشارع الذي كنت به.. أو حتى اسم شارعنا؟"
تجمد لسانها وهي لا تملك ما ترد به فهي بالفعل لا تعرف أيًا من هذا.. وعلى الجانب الآخر عندما طال الصمت سقطت رأس أمير على مقود السيارة وهو يقول: "ستصيبني بالذبحة.. ابنة الحاج داوود ستصيبني بذبحة تؤدي لأجلي"
-:"لا قدر الله يا معلم!"
التفت لأنور الذي قالها بينما يضرب بإحدى المناشف الهواء نحوه كمساعد مقاتلي المصارعة.. بينما تنفس هو بعمق محاولا امتلاك بعض الهدوء قبل أن يقول: "أصالة برحمة والديك ارحمي والداي أنا وادخلي ونفذي ما طلبته!"
انعقد حاجبي أصالة وسألته: "ما علاقة والديك بالأمر؟!"
تنفس بعمق وهو يهتف: "يا رب ألهمني صبر أيوب!"
وبذات الوقت الذي زادت به ضربات أنور للهواء ردت: "حسنا سأفعل.. أنت اهدأ فقد تصيبك ذبحة فعلا"
التفتت بعدها لتجد أن كل الأحاديث قد توقفت والجميع ينظر نحوها.. توعدته بسرها وهي تنوي صب جام غضبها عليه بعد الانتهاء من كل هذا.. ابتلعت لعابها وصعدت الدرجات المؤدية للمقهى وسارت بين الطاولات بهدوء.. لتصل لمكان إعداد المشروبات الذي كان يقف به شاب بنفس عمر أنور تقريبا.. وقد كان ينظر لها هو الآخر بذهول فتنحنحت وسألته: "هل أنت حمو؟"
اتسعت عينيه أكثر قبل أن يومئ لها بصمت.. وعندها لم تجد ما تقوله فلجأت للصدمة وناولته الهاتف وقالت سريعا: "أمير يريد الحديث معك!"
ونجحت بالفعل طريقتها فالشاب صدم لدرجة أنه أخذ الهاتف ورد دون أن يشعر: "نعم"
وعلى الجانب الآخر كان أمير سيغشى عليه من شدة الضحك.. ثم سعل بشدة قبل أن يرد: "نعم حمو معك أمير.. اسمع أريدك أن تقول بصوت جهوري أن تلك الآنسة الواقفة أمامك هي ابنة عمي وأبقها عندك وأنا سآتي لأخذها بعد قليل"
انعقد حاجبي أصالة وهي تتساءل لم ارتفع صوته بينما يهتف: "نعم يا معلم أمير.. أجل المعلم سعد كان هنا وأخبرني أنه سيجلب السيارة لورشتك.. أجل يا معلم.. الآنسة هي ابنة عمك.. وأنت قادم لأخذها بعد قليل"
وما أن قال جملته عادت أصوات أحاديث الرجال تتردد بالمكان بشكل مفاجئ.. جعلها تلتفت وتنظر حولها لتجد كل الأعين قد توقفت عن التحديق بها.
-:"تفضلي آنستي.."
التفتت للشاب الذي ابتسم لها بطيبة قبل أن يتحرك نحو إحدى الطاولات التي كان يجلس عليها رجلين وهمس لهما بجملة.. وقد بدا أنه لم يكملها حتى فقد وقفا وناولاه النقود وغادرا.. بينما هو مسح الطاولة ونفض المقعد ثم أشار لها أن تجلس عليه.. ولأن الموقف كان برمته غريبًا قررت ألا تطيل التفكير بالأمر على الأقل الآن.. و تحركت بعدها ثم جلست لتنتظره.
***
أوقف سيارته أمام المقهى وترجل منها ثم اتجه نحوها سريعا.. وتنهد براحة ما أن وجدها تجلس بقرب طاولة إعداد المشروبات وحمو يقف أمامها.. تحرك نحوهما وهو يراها تنظر لكوب الشاي بقرف.. وأول ما سمعه كان جملتها التي اخترقت أذنه
:"هل غسلت هذا الكوب بعناية؟"
انعقد حاجبي حمو فتدخل فورًا وهو يقول: "ها أنتِ ذا!"
تنهدت هي الأخرى براحة ما أن رأته.. بينما مال هو على حمو قائلًا: "هي لا تقصد شيئًا لا سمح الله.. هي فقط مصابة بالمرارة لذا تخاف من شرب أي شيء بالخارج"
أومأ بتفهم والتفت لأصالة التي كانت تنظر لهما بذهول ورد: "لا تخافي يا آنسة فقد صنعته بمياه معدنية"
نظرت لأمير الذي بدوره حدجها بنظرة محذرة.. فاكتفت بابتسامة لطيفة بينما قال أمير: "سنشربه فيما بعد حمو فعلينا الذهاب الآن"
نهضت بسرعة عندها وفتحت حقيبتها الصغيرة وهي تسأله: "ما ثمن الشاي حمو"
رد: "لا داعي آنستي إنه ضيافة"
نظرت له بحاجبين منعقدين قبل أن تقول بحدة: "لا يعقل هذا.. هل سأعيش على ضيافتكم؟! أخبرني بثمنه أنا لا أتسول أنا..."
-:"أنا سأحاسبك في المساء حمو"
تدخل أمير ليقف بينهما قبل أن يمسك ذراعها وعندها لم تعلم ما أصابها.. فقد تجمدت ولان جسدها بذات اللحظة وتركته يقودها للباب.. وما أن أصبحا بالخارج التفت ينظر لها وهو على بعد خطوة منها.. وهي تنظر له كأنها تنظر لجبل شاهق وهي تشعر بأنفاسها قد سلبت منها وعينيها سارحتان بعينيه.. وعندما ابتسم بذات الطريقة الفريدة شعرت بقلبها يتراقص بينما هو يهمس: "ماذا أفعل بك؟!"
ومع تذكرها لما حدث والأغنية التي كانت سببًا بكل هذا ابتسمت هي الأخرى وضحكت بخفوت قبل أن تنظر له وترد: "لو أخبرتك أني كنت أبحث عن سوق تجاري بهذا المكان لن تصدق أليس كذلك؟"
ضحك هو الآخر قبل أن يقول: "حسنا اركبي سيادة السفيرة"
تحرك مبتعدا وهي تنظر له وترد: "أنا لست سفيرة أنا طبيبة"
عاد للضحك مجددًا وقد أسرتها تلك الضحكة.. قبل أن تتجمد بمكانها وهي تنظر للسيارة التي أزال قفلها الإلكتروني.. ثم نظرت له وقالت: "هل هذه سيارة أحد زبائنك.. لأني لا أرغب بالتسبب بمشكلة لك"
اتكأ على هيكل السيارة قبل أن يرد بأمر: "اركبي ولا تخافي فهي سيارتي"
اتسعت عينيها وهي تنظر للسيارة الفخمة والواسعة بلونها الأزرق الرائع قبل أن تفتح بابها وتركب بجواره وما أن فعلت أدار المحرك وانطلق.. بقيت هي تنظر حولها وهي مذهولة قبل أن تأثر الصمت لثوان فقط.. ثم تغلب فضولها والتفتت له وقالت: "لا أقصد إساءة لكن هل هذه سيارتك حقا؟"
أومأ لها بصمت ففتحت فمها بانشداه قبل أن تقول مجددًا: "أذكر أني قرأت ثمنها من قبل وقد كان رقما من خمسة أصفار تقريبًا"
التفت لها فأكملت بسرعة: "لا أقصد الإساءة طبعا!"
ابتسم بسخرية ورد: "هل أنت واثقة؟!"
ابتلعت لعابها وشعرت ببعض الحرج قبل أن تقول: "أنا فقط لم أتخيل أن تصليح السيارات قد يكسبك كل هذه الأموال!"
ضحك بخفة ثم علا الصمت المكان.. ورغم أن المنطق يطالبها بالصمت لكنها لم تقدر وعادت تلتفت له وتسأله: "هل كان والدك فاحش الثراء وأنت بعد نيل شهادتك قررت التمرد عليه وامتهان شيء تحبه؟"
عاد للضحك مجددًا بشدة وكالعادة نغزها قلبها بشدة.. بينما هو التفت لها وقال: "توقفي عن مشاهدة الأفلام القديمة أصالة!"
ضحكت وهي لا تصدق ما قالته وتؤنب نفسها على التدخل بخصوصياته لكنها وجدته يكمل: "والدي كان مقاولًا"
التفتت تنظر له بينما يردف: "وكان يملك قطعة أرض زراعية يؤجرها منه مجموعة فلاحين"
ثم نظر لها وقال: "كان ثريًا بعض الشيء ولم يكن له أبناء غيري.. لذا أنا فقط من ورثه بعد وفاته وورثت المنزل من والدتي"
همست: "رحمهما الله"
رد: "آمين"
نظرت للسيارة ثم له وقالت: "يبدو أنك بعت الأرض لتشتريها"
هز رأسه بنفي وهو يرد: "اشتريتها من أموال عملي الخاص"
التفت ينظر لها وجدها تحدق به بدهشة فأكمل: "أنا أعمل مقاولًا أيضا كوالدي.. وشريك لسعد صاحب المقهى الذي كنت به بمجموعة مقاهي.. بالإضافة لعملي بالورشة وأخطط لفتح معرض سيارات يومًا ما"
اتسعت عيناها بصدمة فأكمل بسخرية: "لكن الشهادة الوحيدة التي حصلت عليها كانت الإعدادية بعد أن رسبت بها مرتين"
ابتسمت وهي ترد: "الآن فهمت سر تمسك والدي بك.. أبي كان يحب الرجال العصاميين"
-:"والدك له فضل بما وصلت له بعد فضل الله طبعا"
انعقد حاجبيها بانشداه ما أن قال جملته بينما ترى تلك النظرة بعينيه كأنه يتذكر شيئا قديما وهو يكمل: "كان كل زملائه زبائني.. وكل من يفكر ببناء بيت أو أي شيء كان يرشحني له"
شعرت بالدموع تغرق عينيها فأطرقت وهي تبتسم.. وشعرت بزهو وأرسلت آلاف الرحمات لوالدها قبل أن تعاود النظر له وتقرر تغيير الأجواء وهي تقول: "لابد أن والدك قاطعه لعدم تمرير العملاء له بدلًا عنك"
أوقف السيارة بينما يرد: "بل كان يحبه كأخ لم تلده أمه.. ولأجل ما فعله معي مات وهو يوصيني به وبعائلته"
التفت ينظر لعينيها المليئتان بالإعجاب والابتسامة البريئة التي تعلو شفتيها وهي تقول: "أنتم عائلة غريبة"
ضحك بخفة قبل أن يخرج المفتاح من أسفل المقود وهو يقول: "هيا انزلي"
نزلت بالفعل لكنها تفاجأت ما أن رأت نفسها أمام سوق تجاري ضخم.. وما أن التفتت له وجدته يقف بقربها ويقول: "ماذا؟.. ألم تكوني تريدين سوقًا.. هذا أقرب واحد.. أم أنه لا يليق بمستوى السفيرة أصالة"
انعقد حاجبيها وردت: "أمير كم مرة سأخبرك أنا لست سفيرة.. أنا طبيبة!"
كتم ضحكته بينما سارت هي أمامه بتذمر ثم تبعها نحو السوق.
تبعها وقد قرر شراء بعض الأغراض له إلى أن توقفت أمام قسم الخضر ووقفت تنظر لمكان محدد.. فاقترب منها ليجدها تضع يدها بفمها وهي تصدر همهمة مفكرة فسألها: "هل تبحثين عن شيء؟"
التفتت له وردت: "أحاول العثور على الخس الذي يصنع منه سلطة الخس بالزبادي"
ارتفع حاجباه ونظر نحو الأصناف ليجده أمامهما مباشرةً.. فالتقطه ووضعه بسلتها وعندها التفتت له وسألته: "من أين تعرف أنه هذا النوع؟"
كان يبذل كل طاقته كي لا يضحك بينما يشرح لها: "لأنه أشبه بالكرنب.. وأيضًا دائما ما يكون مغلف بهذه الطريقة"
أومأت له بتفهم ثم عادت تنظر للأصناف فتنحنح قائلًا: "أصالة عزيزتي لا أقصد أي إساءة هي فقط معلومة من باب العلم بالشيء.. هل تجيدين الطهو؟"
نظرت للفراغ أمامها ثم تنفست بعمق قبل أن تضرب الأرض بشدة وهي ترد: "كيف سأجيده ولا أحد منكم يمنحني فرصة لأجيده؟!"
قالتها ثم اتجهت للطماطم وبدأت بجمعها بأحد الأكياس بعصبية فتبعها وهو يقول: "من باب العلم بالشيء أيضًا.. هلا أخبرتني من تقصدين ب(كُم) تلك؟"
ردت دون التفات: "جميعكم.. أنت وأمي وأبي.. وحتى سالمة كانت لا تتوقف عن تأنيبي لأني لا أجيد الطهو.. وعندما كنت أطلب منها تعليمي كانت تخبرني أنه لا فائدة مني"
ضحك بخفة ثم انحنى قليلا نحوها وقال: "أنا أتفهم كل هذا.. لكن ألا يكفيك كيلو واحد من الطماطم؟"
التفتت تنظر له فأغرقت خصل شعرها وجهها بسبب حركتها المنفعلة.. وعندها دعا الله سرًا أن يبعث أي شيء.. أي شيء ينقذه من أوامر شيطانه التي على وشك تنفيذها حالًا.
****
-:"أصالة!"
كان هذا الصوت فقط هو ما أيقظها من هيامها بعينيه.. التفتت تنظر لصاحبته وهمست: "مروة!"
ابتسمت لها واقتربت منها واحتضنتها وهي تقول: "لقد اشتقت لك يا فتاة"
شعرت ببعض الحزن لكنها وارته بسرعة قبل أن تحتضنها وتربت على ظهرها وهي ترد: "وأنت أيضا مروة"
ابتعدت عنها فابتسمت لها بينما نظرت هي لثيابها السوداء وقالت: "أووه أصالة أنا حقا آسفة.. لكنه بمكان أفضل صدقيني.. دكتور داوود كان رجل لا يعوض"
ابتلعت لعابها بينما تطرق وترد: "أجل أعلم رحمه الله"
لكزتها بكتفها بشدة فنظرت لها وهي تتأوه فأكملت: "هذا لأنك توقفت عن الرد على اتصالاتي.. وغادرت المنزل دون إخبار أي أحد بوجهتك"
ابتسمت بحزن وأسى وهي ترد: "ومن سأخبر؟. لا أحد لي أساسًا مروة"
ربتت مروة على كتفها وهي تقول: "لا تقولي هذا أنا والسيدة شيرويت بحثنا عنك.. وحتى سالمة وممرضة والدك سألتاني عنك"
ابتسمت وشعرت ببعض السعادة بينما مروة نظرت خلفها فتذكرت وجوده والتفتت هي الأخرى لتجده يقف بعيدًا ملتهيا بفحص الأطعمة المعلبة.
-:"ومن هو هذا؟"
التفتت لمروة التي كانت تبتسم بخبث فعلمت أنها لن تنتهي لو بدأت لذا ردت: "إنه صاحب البيت الذي أسكن به وهو مرتبط مروة"
ارتفع أحد حاجبيها وهي تقول: "وهل هناك رجل مرتبط ينظر لامرأة بهذا الهيام؟!"
انعقد حاجبيها بشدة وهمست: "ماذا؟!!"
ضحكت مروة بشدة وردت: "أعطني رقم هاتفك يا غبية.. لا فائدة منك.. لن تتعلمي أبدا!"
****
ما أن أنهت حديثها مع مروة وأعطتها رقمها.. وأفرغت الطماطم التي جمعتها واكتفت بكيلو كما أخبرها ووضعته بالسلة.. تحركت نحوه لتجده لازال واقفًا مكانه بانتظارها على ما يبدو.. وما أن وصلت له التفت لها فقالت: "مروة كانت زميلتي بالتكليف.. هي الوحيدة التي بقيت على اتصال بي"
انتظرت أن يرد بذكر لطفها أو جمال عينيها العسليتين وشعرها البني.. فقد كانت هذه التعليقات التي تسمعها كلما مرت مروة أمام أي رجل لكنه بدا غير منتبه لها على الإطلاق.. وقد احترمت للغاية ابتعاده عنهما ليمنحها بعض المساحة.. نظرت لسلته لتجد علبة صلصة من المعدن فأخذتها وهي تقول: "لا تشتري أبدا المعلبات الموضوعة في المعادن أو البلاستيك"
تبعها وهو يسألها: "لماذا؟"
حملت علبة أخرى من الزجاج ووضعتها بسلته وهي ترد: "لأنها تتفاعل مع الطعام وتسبب الأمراض.. استعمل الزجاج أفضل لكن حاول ألا تبقيه طويلا"
أومأ لها بطاعة قبل أن يسألها: "هل تريدين شيئا آخر؟"
نظرت للسلة وهي تقدر ما اشترته.. ورغم أنها كانت بحاجة لبعض الأشياء الأخرى لكنها لم تكن ستجازف بمرتبها لذا اكتفت بهم وقالت: "لا.. لنذهب لآلة البيع الآن"
التفتت لتسير لكنها توقفت والتفتت له وهي ترفع إصبعها وتقول بتحذير: "كل شخص يحاسب لنفسه مفهوم"
ثم التفتت وسارت تسبقه بينما هو يتبعها وهو يحاول إخفاء صوت ضحكه.
***
ما أن وصلا للبيت وجدته يركن السيارة بمرآب ضخم بجوار الورشة اكتشفت أنه أشبه بمغسلة.. التفتت له وابتسمت تقول: "لقد أتعبتك معي.. لكن إياك والصراخ بي مجددًا"
نظر لها قليلا قبل أن يرد: "لا يوجد أي تعب سيدتي السفيرة.. وقد أخبرتك من قبل أني لا أتلقى الأوامر منك.. وبهذه المناسبة هل تذكرين فواتير الكهرباء والماء التي طلبت مني أن أرسلها لك اليوم؟"
بالطبع تذكر فقد كان شجارًا آخر سمعه كل المارة صباحًا بعد أن رفض منحها فواتير الكهرباء.. وهي أصرت وانتقلا بعده للشجار على أرقام الهواتف.. أومأت له بنعم فأكمل: "ما اشتريته من البقالة هو ثمن الفواتير"
صرخت بوجهه: "ماذا؟!"
ارتاح متكئًا على نافذته وهو يرد: "ما سمعته.. ولا ترفعي صوتك.. وانزلي الآن واتجهي لبيتك قبل أن يرانا أحد وتثيري القيل والقال عني فأنا لا أملك سوى سمعتي"
شهقت بعنف قبل أن تنزل وتغلق باب السيارة بعنف ثم أشارت له بحدة وهي تقول: "لم ننتهي بعد!!"
ثم غادرت المرآب تاركة إياه يحدق بأثرها بابتسامة واسعة قبل أن يهمس: "أظن أننا بدأنا للتو!"
****
مساء الخير
متنسوش الدعم يا حلوين ورمضان كريم ❤✨
أنت تقرأ
عمري وأنت الجزء الأول من سلسلة وللعمر بقية- مكتملة
Romanceضاعت السنين وأنا أقف مكاني.. تمر بي الأيام دون تواني.. تحمل معها ما يضاعف أحزاني وآلامي.. ومع كل دقيقة كان الزمن يخبرني أنه لا مفر من غدر الزمان.. إلى أن حملتني الأقدار يومًا لمكان لم يكن بحسباني.. تمردت.. و رفضت.. حاولت.. و سقطت.. ثم هدأ كل شي...