هناك ذكرياتٌ متكئة بهدوء بهيةُ الطلة قابعة لا تموت؛ جميلةٌ عذبة دافئة، سهلةُ المعشر، لا تحتاج لأن تقلب بين صفحات الذاكرة تفتش عنها؛ هي الغلافُ مطبوعةٌ منقوشة.كأحدِ أبناءِ جيلِ الإنتفاضةِ الثانية إنتفاضةُ الأقصى، كانت الأناشيدُ و الأغاني الوطنية الثورية جزءً منا يعيشُ معنا و داخلَنا.
اعتدت سماع أناشيد و حب ميس شلش؛ فهي غير أنها أناشيدٌ بصوت عذبٍ رقراق إلا أنها مربوطةٌ كليةً بأبيلذلك تلقائيًا عندما أودُ سماعَ الأناشيدِ الوطنية بين الحين و الآخر أختار أناشيدَها؛ لما لها من لمسات حانية على قلبي، و أيُ لمساتٍ هيْ؟! إنها لمساتُ أبي.
بينما ليلاً و أنا بالمطبخ أنظفه و أستمع لأنشودة من أناشيدها دخلت ابنتي مهرولة إلى المطبخ بعد أن كانت بغرفتها تتحدث إليَّ بحماس: أمي... التي تغني تشبه صوتك و كأنها أنت.
دقت هذه الجملةُ ناقوسَ الذاكرة؛ فلقد سمعت شبيهتها من أقربِهم لقلبي، لمعت عيناي مبتسمة و ما هي إلا أجزاء من الثانية و جدْتُني أجلسُ بجانبِ الذكريات، و هي تستقبلني بشوشة مبتسمة جميلة هادئة، اعتدَلَتْ في جلستها و عيناها مثبتةٌ على عينيَّ الشاخصةِ بها، لا أصدقُ روعتَها... ليس و كأنني تركتها أو غبت عنها سائرةً مع الزمن !!... كل أميالُ الزمن و السنين تضاءلتْ و رجعت إلى تلك الأيام .
كصديقة ودودة اعتادت على الحديث و المسامرة (ألم أقل سابقاً سهلة المعشر؟ أجل إنها كذلك)، قالت لي: لِمَ أنت متفاجئة ؟
أنا: أنت لم تغادري!!
ردَّتْ : و كيف أغادر و أنا أعلم ما يهواه فؤادُك ، ما يقدِرُه!
لا تخافي لن أبرح مكاني سأظل مفترشة.ابتسمْتُ بفرح... و قبل أن أخبرَها عن الذكرى المقصودة التي أنشُدُها و التي سحبَتني إليها، تجلت هي أمامي مومِئةً رأسَها فهماً، بعرض شريط صورها ....
كنت بالإعداية ممسكةً المكنسةَ صباحاً و أدندن بأنشودة لميس شلش كنت قد سمعتها بالباص مرة و على الراديو بعدها، ظهر أبي أمامي فجأة و قال لي : أتغنين لميس؟ صوتُك يشبهُ صوتَها بل و أجمل.
ضحكت و قلت له : ليس لهذه الدرجة أبي.
أجابني: إنه كذلك.فمن شدة حبي لأناشيدها طلبت من أبي ذات يوم أن يشتري لي شريط( كاسيت ) ألبوم لها
و فعلا في نفس اليوم مساء أو ثاني يوم أشترى أبي لي الشريط، طرتُ فرحاً و لم أصدق ... لقد كانت المكتبة التي ذهب أبي من أجلي لها ليست بقريبة من البيت و بقي متذكراً طلبي و أحضره بعد دوامه الطويل.
كان أبي حريص على أن يكون الشريط الذي أحضره لي هو نفسه ما أريد لأنه كان هناك عدة إصدارت و أشرطة لها،... و اللهِ لا أنسى كيف سألني بحنية ممزوجة بقلق: هل هذا الشريط الذي كنت تودينه أم غيره؟ أخاف أن أكون قد اقتنيت آخر.كيف سأصف لك يا أبي ماذا أحسست وقتها؟ ألهذه الدرجة أنت من الحرص يا أبي ؟!
أخبرته بأنه هو. في الحقيقة لم أكن أهتم و لا فرق عندي ما هو الشريط المهم أنه لميس.دونت كلمات الأناشيد كاملة على دفتر و حفظتها عن ظهر قلب و كنت أنشدها و أدندنها طوال الوقت
بعد مدة أخبرته أني أريد شريطاً ثانياً معيناً لها ، لم يرفضْ و لم يقل لي لقد اشتريت لك فلماذا الآخر؟
أتى بشريطين مساءً تفاجأت و رقص قلبي طربا من غمرة السعادة
ربما هو شيءٌ لا يُذكرُ عند البعض هينٌ يسير ، لكن بالنسبة لي هو شيءٌ تالله عظيم.لم يكتف أبي بشراء الأشرطةِ لي ، بل كان يحب يراني أنشدهم .
مرة من المرات كان يجلس هو و أمي الغالية الحبيبة، قال لي: اجلسي على الطاولة ( التي تتوسط الكنب) سأصورك و أنت تنشدين؛
خجلت فشجعني هو و أمي و قالا لي هيا اجلسي، ذهبت لهناك و بدأت أنشد و أبي يصورني فيديو.. نظراتهما الحانية و ابتساماتهما في ذلك الوقت و رؤيتهما على هذه الحالة محفورة في لُبي تسري في وجداني.ابتسمْتُ للذكريات بعذوبة.... و مثُلَتْ بعدها ضاحكةً تُريني ذكرى أخرى
كان أبي جالساً أمام جهاز الحاسوب و يصل الإنترنت( كان وقتها الإنترنت يوصل بسلك من الهاتف إلى الجهاز و يصدر صوتا معينا إذا اتصل )
دنوت منه و طلبت طلبا ساذجا للغاية : أبي أودُ أن أرسلَ رسالةً إلى ميس شلش.
نعم لقد طلبت هذا الطلب الذي هو عبارة عن شبه مستحيل تحقيقه؛ لأننا لا نعرف عنوان بريدها الإلكتروني ( الوسيلة الوحيدة للاتصال بها ) ،لم يكن آنذاك وسائل تواصل اجتماعي بعد.
أبي اللا مثيل له، استجاب لسذاجتي!! و الله لم يكسفني و لم يتذمر بل أخذ يبحثُ عن عنوانها البريدي لمدة ليست بقصيرة إلا أنه لم يجده.هربت من مقلتي دموع الحب و التقدير فشرعت يد الذكريات بمسحها أحسست بملمس يد أبي الحنونة على وجهي حينها.
قالت لي : رفقا
أجبتها: هي دموع فرح و حنين.عدت بعدها إلى الحاضر مستبشرة و صورةُ أبي الباسمِ مترائية أمامي
قلت: و من كأبي؟؟؟
كل الأوصاف مبتورة بحقك يا أبي يا حبيبي .. أدامك الله لنا و رفع من قدرك و أدخل السرور إلى قلبك كما أدخلته علينا كلنا...... أحبك ❤
❤❤❤❤❤❤❤❤❤
أماني مجدي نعيم.
أنت تقرأ
خربشات أقلام ( التعبير عن الصورة )
Randomأعبر بما جاد به فؤادي عن الصورة التي أمامي و كذلك بما عبر غيري