فيكَ أحضُر| ٢٩

1.2K 57 10
                                    


كانَ لقَلبي عِمادة وقَد صارَ عِبادَة!

بينَ خلَجات الفَراغ المَحفوفَة بالبأس كانَ اليابِسَة الوحيدَة الَّتي آوتني بلا شُروط، رغمَ أنَّها جَدباء الأصقَاع، فيها أحاربُ مزاجَه بشراسَة للظَّفر بلُقمة انتِباه. وجَوفاء الأضلاع، ما أنفكُّ أتهاوَى معَ كلِّ خطوةٍ طائشةٍ أسدِّدها في مَرمى قُربِه. ورغمَ سيرتِه العَوجاء، نصَّبته في عقيدَتي خيرَ الوَرى، آياتُ وجدِه السِّرياليَّة أصدَق مِن أيِّ سطورٍ سَماويَّة، مَهما أخزَتها الحَياة. لطالَما اعتَكفتُ في صوامِع أفكارِي الشَّاهِقة أتلوها، وأتضرَّع أن يسقِي روحِي الظَّمأى غيثًا نافعًا. لطالَما ركَعت أهدابِي له، وفي الهَوم غطَّت خَفقاتِي دونَ غِطاءٍ يستُر مشاعِرها.

هُو الطُّور الَّذي انبَلجتُ خَلفه كزَهرة أقحوان، غير قادرةٍ عَلى الصُّمود في وَجه العواصِف، فباتَ لي دِرعًا متينًا، تنشطِرُ عَلى شفراتِه ولا تمسُّني بسوء. لطالَما اتَّكأتُ عَليه، واثقةً أنَّه مهما تصدَّع فلَن يخذلني يومًا، ومهما استَنهرَ الإرهاقُ بين طوبِه فلَن يَنهار بي، ربَّما عليَّ فقَط. ما انثَنى رغمَ العُسرِ الكامن في الشُّموخ، وآثر الاحتضارَ بصَمت، مثلَ الكَون؛ لا يُمكِن لأحدٍ أن يتكهَّن موعِد نِهايته، مهما كانَ وشيكًا. عَلى ناصِيته تتساقطُ آهاتُه أحيانًا، كفُتات رغيفٍ يابِس، عصيّ عَلى أسنانِ الشَّجنِ، غيرَ أنّ سَحقه عَلى كعبِ الظَّلامِ يَسير. أراهُ بدرًا يُفرَم في سَماء اليَأسِ ببطء، وبَدل أن أكونَ له ليلَة اكتِمال، تَوالَيتُ عليهِ ليالِيَ أفول.

أعلَم أنَّ الحَياة قد هاضَته مِرارًا وتكرارًا، وأنَّ الكَرب قد نكأ دُمله فما اندَملت أبدًا، لقد رنِق محيَّاه، كأنَّ النَّكبات خسفت بكلِّ رونقٍ أبهاهُ سلفًا. توارَثته الأيَّام خيبةً عَن خَيبةٍ، ثمَّ حطَّته بينَ أضلُعي الرَّجل الَّذي هُو عليه الآن، رجلٌ مهشَّم إصلاحُه صَعب، حولَ فُؤاده الرَّخوِ قوقعةٌ غليظَة، حتَّى إخلاصِي عاجزٌ عَن اختِراقِها، لتَطبيبِ قروحِه المُستفحِلة ورقعِ فتوقِ مُهجتِه. هُو خَليلُ الوحشَة، عَلى فِراش الصَّمت يتَواطآن، لإرضاءِ نزعةٍ غَريزيَّة في اعتِزال الألَم.

لماذا أحبُّه؟

ربَّما لأنَّه فيَّ راسخٌ ولو حالَت بينَنا فراسِخ!

ربَّما لأنَّه الرَّجُل الوَحيدُ الَّذي قرَنته بي الحَياة بمسدٍ أبديّ، لن ينقطِع ولو احتَدمت الضَّغائِن.

أأسَف لأنِّي عبءٌ آخرُ عَلى كاهِليه يجرُّه إلى الحَضيض، أأسَف لأنِّي شوكةٌ في شِغافه يتشعَّب مِن حولِها اللَّوى ويحاصِره. أأسَف لأنِّي القَطرة الَّتي أفاضَت كأسَ جنونِه، وما يفتأ يسفَح مِن كلِّ نواحيه. هو رجُل الانتِصاراتِ العتيدَة، يستَحيل أن يُنشِب حربًا خاسرةً ضدَّ الكَون من أجلِنا؛ لقد سلَبنا الحقَّ في الاعتِراف حتَّى، الكلِمة الَّتي ينطِقها الجَميعُ بطلاقةٍ محجوزةٌ في حناجِرنا.

Shameless| القَلب يأمُرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن