وهَا نَحنُ نلتئِم| ٣٣

1.5K 64 18
                                    


الماضِي طَاغُوت، النَّكباتُ جيشُه الغاشِم؛ يَهوَى تشييدَ مُعتقَلاتِ الغمِّ مِن أنقاضِ الجَذل، بعدَ أن تهدِمه غاراتُه الجائِرة، والألمُ حاشِيتُه المُطيعَة، حيثُما يُشيرُ بذِكراه تَقتفيه، وطُموحُه الأعظَم الخُلود في كلِّ جسدٍ أنجَبه القَدرُ تحتَ سقفِه لقيطًا مُنذ المَهد. عَلى ضِفافِ قاموسِه، صُلبَت الرَّحمةُ عِبرةً للحَمقى، أولئِك الَّذينَ اعتنَقوا عقيدَة الحَياة المُتملِّقة، وآمنوا أنَّها لَن تنقلِب ضدَّهم أبدًا، ومَهما نَهل مِن نشيجَ المَعطوبين، لا يَرتوي.

يستنزِفُ الماضِي عهدَة حُكمِه، بِما اكتنزَته مِن شُؤم، ثمَّ يستلبُ نصيبَ الحاضِر مِن إرثِ الزَّمن، عَلى عرشِ القَلب يتخمَّر، بينَما يُسامِر شَعبُه الأتراحَ عَلى قناديلِ النَّجوى، إلى أن تنقضِي حِقبتُه السَّوداء. يتعلَّق الماضِي بكواحِل ضَحاياهُ كالظلِّ، مدَّعيًا أنَّه خِلٌّ أنيس، مَرامُه الوحيدُ إزاحَتهم عَن الضَّلالِ، وحِمايَتهم مِن لحظاتٍ تمتهنُ الاحتِيال، وفي الواقِع لا يُضمِر لهُم سِوى الاضمِحلال، في رُقعةٍ لن تَصبوهَا مُواسَاة!

نخالُ أنَّ الماضِي لا يُقهَر، كلَّما أغرَتنا الثَّورةُ بالتحرُّر، وفي سجنٍ مِن تَصميمِ الهَواجس نُحبس، قبلَ أن يتسنَّى لَنا إعلانُها. نجتَبي الرُّكوعَ للوجَع، خِشية أن يشطِرنا الترفُّع. نجتبِي أن نتملَّق الكتمان، كي لا نُضطرَّ لإعدامِ إخفاقاتِنا المُنصرمَة، في مِقصلةٍ مِن شفَتين.

نَجتبي الرَّبت عَلى ذوائِب النَّوائِب، رغمَ كلِّ ذُنوبِها بحقِّ ألبابِنا، وتوقيعِ عقدِ عبوديَّة أبديٍّ معَ سرٍّ مستبدٍّ، يقَتاتُ عَلى الأجفانِ، فتغرَق في السُّهادِ كلَّ ليلَة، حسرةً عَلى سراحِها. الاختِباء ليسَ بهيِّن، ولَو ثوَى كفَّةً عَلى نظيرتِها تجلِسُ المُواجَهة، لتعادَلا في العُسر. رغمَ ذلِك نُؤثِر تضليلَ الاعتِذار بينَ أزقَّة الأعذار، في طريقِنا إلى مأوًى آخر للصَّمت.

لقد هبَّت رِياحُ الشَّجنِ عليَّ سنائِن، وبينَ أبياتِ عُمرِي اليَبابِ، تجمهَرت تعزِفُ ملحَمة الضِّيق، ما رثَّ سجعُ البثِّ في قوافِي أيَّامِي، مُنذ أن تغيَّرت فَحواها مِن تقريظِ أمجادِي الجَليلَة، إلى رِثاء أطلالِ حَضارَتي الَّتي بادَت، وآمنت أنَّها لَن تَقوم مِن جَديد. في سوقِ النَّدم، ابتاعَني الوَجلُ رِقًّا، خدمتُه لأمدٍ قصيٍّ، دونَ أن أفكِّر للحظةٍ في التمرُّد، لئلَّا أُحرَم مِنها. آثرت التآكُل في شظفِ الفُراقِ، عَلى أن أرهَن ودادَها لاعتِرافٍ غيرِ مَضمون، وإنَّ فُؤادِي لأعجَف.

أَنا المُهيمِن، مَهما شطَّت الشَّدائد، لبِثتُ عَلى ضفَّة الماضِي هَيمانًا، بيني وبينَ الحاضِر هاوِيةُ خِيارٍ سحيقَة، لا تُرينِي سِوى ضبابَ أشجانِي، وفي غِماره تضيعُ الجسارَة مِن بصيرَتي. هاويةٌ يَرقاها جِسرٌ مُهترِئ، مُعلَّق عَلى الخَسارَة، لم أجرُؤ علَى توخِّي الثِّقة، أو تضرُّع تميمَة أملٍ مِن عِند الحظٍّ، قد تغدر بي في أيِّ لحظَة، ما الَّذي يُثبِت لي أنَّ خاتِمته نَعيم، لا مُجرَّد جحِيمٍ آخر؟

Shameless| القَلب يأمُرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن