قُبلتك| ١٩

1.5K 73 13
                                    


الحياةُ كالسِّيمفونيَّات الملحميَّة؛ مِثلما فيها ذرواتٌ يحتَدم فيها صوتُ الآلات الموسيقيَّة، كأنَّها رشَّاشات تتبادَل نيرانَ العَداء فيما بينَها، هُناك مُنخفَضات يَخالُ مَن يُصغي إليها أنَّه قد صَبا وادِيًا مِن الرَّخاء فيه يستَريح، فحتَّى الحَرب بأوزارِها لا يُمكِنها محوُ ذِكريات العاشِقين، ولا حِرمانهم مِن اللِّقاء تحتَ ضوءِ القَمر، وإن أمطَرت عليهم المَوت!

هُو حربٌ لو نُتِفت راء رِيائِها لشعشع فيه الحُبّ، بيدَ أنَّه يجتبي التَّحامُل رغمَ ما فيه مِن ضرّ، على الاستِسلام لِما فيه مِن مهانَة. هُو حبٌّ جاحِد، أعدَم راءَ الرَّجاء، وسلَبني حقِّي في إشعالِ حربٍ للمُطالَبة به، وربَّما الحَياة هِي مَن قسَّمتنا إلى حِزبين مُتناقِضين، في اتِّحادِهما إثمٌ مُبين، لذلِك حالَت بيني وبينَه إلى الأبد. أعظَم ما يُمكني بُلوغُه في علاقَتي المكبوتَة معَه، تخيُّلات حارَّة، لن تقفِز إلى قمَّة الواقِع يومًا.

تعليقُه الآسِن سمَّم فُؤادِي، فسادَ المغصُ جوارِحي واحتَدمت حرارةُ خديّ؛ افتَضحا كُلَّ مصيبةٍ طرأَت بداخِلي لعينيه المُظلِمتين، كما لو أنَّ ألسِنة الغِوايَة المُنبعِثة مِن جسدي فحَّمتهما، أو ذلِك ما تمنّيتُ حُدوثَه، وانتَظرته بلهفة. كانَ التخلُّص مِن أطلالِ الطُّفولة، وتشييد حضارةٍ أنثويَّة لا تَهون فكرةً سديدَة، لن أندَم عليها.

أعتَق ذَقني ومدَّ لي ذِراعَه مِثل رجلٍ راقٍ، عانَقتُها بكلِّ سُرور، رغَم أنِّي دنَّستُ مكانَتي بوضاعَة الإثم، حتَّى وإن ما تخطَّى أعتابَ أديمي. بتَناغمٍ اصطفَّت خُطواتُنا على الأرضيَّة المُعبَّدة بسجادٍ أحمَر نحوَ المِصعَد، كانَت الأجواء فيه خانِقَة، كأنَّنا حريقٌ صامِت ذا دُخَّانٍ شفَّاف، ابتَلع فلذات الهواء.

تسلَّق بِنا إلى ما يُسمَّى بالقُبَّة السَّماويَّة؛ على خِلافِ السُّطوحِ العارية كانَ سطحُ المُنتَجع مُغطًّى بسقفٍ زُجاجيّ مُدبَّب ممتدّ مِن السُّور المُحيطِ به، يُحاكِي بلَّورةٍ تضمُّ حانةً مُخمليَّة، ذاتَ إطلالةٍ فريدَة مِن نوعِها، لطالَما قصدناها ليلًا لمُراقبَة الأجرام تحومُ في الفَضاء كما أحوم فيه، لكنَّ سُحبَ هذِه اللَّيلَة احتَكرت لآلئَها عن العَيان.

في عُقِر الصَّالة تقِرُّ طاولةٌ مونِقة مجهَّزةٌ مِن أجلي، في عجزِها بار تُؤوي رُفوفه أصنافًا مِن المَشروبات، وبينَ رُبوعِها تلهو موسيقى الجاز، نغماتُها مِثل حسناواتٍ مُقوَّمات في قالبٍ أخَّاذ، يخطِف الطُّهر مِن العُقول، ويضخُّ العُهر. لا يُعيلُ الإضاءَة سِوى شمعَدانٌ رفيع متربِّعٌ على عرشِ المائِدَة، وأكوابٌ مِن الشُّموعِ المُعطَّرة، نُصِبت طوالَ الطَّريق المُؤدِّي إليها، شُحُّ الوهج جعل ديكورِها القانِي أدهَم مِن طينته الحَقيقيَّة.

التَّفاصيلُ تصرُخ شاعِريَّة، كما لو أنَّها اقتِباسٌ مِن روايةٍ رومانسيَّة، غفَوتُ وأنا أقرؤها فتسلَّلت أحداثُها إلى أحلامِي، والظُّروف المُحيطَة بِنا ليسَت إلَّا تمهيدًا لليلةٍ مُخمليَّة، مُبطَّنةٍ بالانتِشاء طرفاها عاشِقان، مِن المُستَحيل أن تكونَ مِن نصيبِنا!

Shameless| القَلب يأمُرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن