١

150 11 27
                                    


     هل كان الأمر يستحق؟! أن أتخلى عن علاقتنا المتينة لسنوات لأجل مشكلة صغيرة؟! للحظة غضب؟! لغيرة دنيئة؟! من الغريب حقا كيفية ظهور الأشياء على حقيقتها بعد فوات الآوان... لندرك أن الأمر لم يكن يستحق، وأن الندم سينهش أرواحنا لآخر لحظة في العمر، وأن التكفير عن الأخطاء غير ممكن إلا بجلد الذات!

     لم أرد الرحيل! أهاب دوما الرحيل... فكيف نرحل ونترك الذكريات والمعاني التي شكلتنا خلفنا؟! وكأننا نترك جذورنا ونقطع بعيدا عنها بلا حياة... كيف إذن نرحل ونترك أرضنا التي رطبتها دموعنا فأنبتت المشاعر؟! ولكنه كان الجزاء العادل الوحيد، أليس كذلك يا عادل؟!

     كان كل شيء يسير بطبيعية، أيام سعيدة صاخبة، طلبات الخبز تنهال علينا، ويظل السيد غوث مبتسما مع كل ذلك، وأضحك أنا وعادل على أسرتنا ونحن نتذكر المقالب السخيفة التي أوقعنا الزبائن فينا، فيشكون للسيد غوث ويوبخنا قبل أن يطفئ الأنوار لننام.

     كل شيء تغير ذات يوم، حين استيقظنا على مشادة بين السيد غوث ورجل آخر غريب. كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها السيد غاضبا، وعلمت كم لغضبه أن يكون مخيفا، حتى خرج ذلك الغريب متوعدا بأن يندم السيد غوث!

     بدأنا العمل وهو صامت، لكن أنفاسه وحدها صاخبة بما يكفي لأسكت أنا وعادل. لم يبتسم ويحي الزبائن كالعادة، وظلوا يدخلون ويخجون مستغربين منه كما نفعل. وحين أغلقنا صعد إلى فراشه أولا، فقررنا تنظيف المخبز قبل صعودنا، ونحن نتساءل بأعيننا دون أن نجرأ على ذلك بأصواتنا.

     حل الصباح فعاد السيد غوث كما كان، كأن ما حدث أمس حلم! وعادل يعرض عليه رسمة أخرى ويتفاخر، وأراقبه بلحاظي. أتمنى أن أكون أنا من يرسم ليفخر بي السيد غوث هكذا كما يضم ابنه! لماذا لم أكن أنا البارع في الرسم؟! أنا لا أبرع في شيء؛ أحاول تعلم الخبز منذ سنتين وما زلت سيئا، وأظل أوقع الأواني وأفسد العجين فينحيني السيد غوث وعيناه تؤنبني من غير كلام، وفي التنظيف يمسك هو المقشة مني ويكنس بعدي ثانية، ويضحك عادل علي، ثم أبتسم له خارجيا ولا أجد ذلك في نفسي مضحكا!

     تلقيت أجر عملي هذا الشهر، مع أني لا أستحقه؛ فالسيد غوث هو من يعمل لا أنا! لكني لن أرجعه له ما دام أعطاني إياه؛ أنا أحتاج النقود! يجب أن أجمع ما يكفي! حلمي يلزمه الكثير من المال، وأنا أعمل هنا لأجنيه وأحقق حلمي، هل كانت الأمور ستتغير لو أصبحت ثريا؟! أتمنى أن أكون ثريا إذن!

     خرجت متسللا إلى شجرتي التي أخبئ عندها نقودي المدخرة، وجدت التل محفورا، كأن عابثا استمتع بحفر التربة ولم بكلف نفسه عناء ردمها، فأسرعت أتفقد المخبأ الذي نبشه أحد، فلم أجد نقودي! أين ذهبت؟! ذعرت، طفقت أبحث حول الشجرة مرات، في تلك الحفر جميعا، ولا أثر لها! فقررت العودة.

-ما المشكلة؟! هل عضك كلب جارنا سعيد؟! لا تحزن لأنه يظنك بطولك هذا عظمة شهية.

     لم أجب عادلا الذي يسخر من طولي كلما سنحت له فرصة، بصراحة لا أجد مزاحه هذا مضحكا، فصعدت إلى غرفتنا وتجاهلته، وتبعني غاضبا يسألني وألحَّ، فاستمررت في تجاهله. ارتميت على السرير، فقفز علي يأبى تركي.

مخبز الندمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن