الفصل الثالث

998 78 6
                                    


عادت سيلا إلى الداخل عبر المطبخ و سلمت المفتاح إلى هاجر قبل أن يكتشف أنور إختفائها و حين همت بالصعود إلى غرفتها تذكرت أنه غريب لا يعرف طريق العودة . رفعت يدها تلمس صدرها اللاهث و هي تفكر هل تساعد في إخراجه أم أن مهمتها قد إنتهت بفك وثاقه . ضغطت على شفتها السفلي حتى كادت أن تدميها و أغمضت عينيها و هي ترمي قدمها أسفل الدرج كي تعود أدراجها إلى الخارج . دائما ما كانت إندفاعية بتصرفاتها الهوجاء . لا تحسب حسابا للعواقب حين تظن بصواب أفعالها . و ضميرها الآن يجبرها على مساعدة غريب وقع بوحشية عمها و طيش إبنه و مكر زوجته حين حاول مساعدتها . فركضت إلى مرآب السيارات
حين مر أحد أهل القرية و ألقى عليه السلام توجس خيفة أن يكتشف أحدهم أمره  بعد أن سمعت القرية بما حدث لحفيدة المداحي ففي القرى لا شيء يمكن إخفاؤه .  تخلى عن إضاءة هاتفه و استعان بضوء القمر الذي اكتمل بدره في تلك الليلة الخريفية الدافئة
التفت خلفه حين سمع عيارات نارية تدوي المكان الذي كان فيه .
شتم نفسه منتهى الغباء و  الرعونة حين فكر أن ينجو بنفسه من دونها .  و أن ادعت القدرة في حماية نفسها فجرائم الشرف في القرى  ترتكب بمنتهى البساطة . عاد راكضا من حيث سار . و رأى مجموعة من الرجال يركضون و يصرخون أن شيئا حدث ببيت المداحي .  شخص يركب دراجة نارية قديمة الطراز يقترب منه حتى توقف أمامه يمنعه المرور و قد نزل و تقدم نحوه يجذبه  بين الأحراش المنتشرة على حافة الطريق  . أصابع ناعمة تحت قشابية رجالية من الوبر الخالص فعلم أنها فتاة . زفر و هو يفكر أن نساء هذه القرية يتسمن بالجنون . قفز فوق الأحراش الشوكية و قبل أن ينطق اطبقت على فمه و رفعت الغطاء عن رأسها تكشف وجهها   ، فأطلق تنهيدة راحة  . أبعد يديها عن فمه يوحد الله على يوم لا يكاد يمر بشقائه . و أشاح ببصره يغضه عن جمالها فحين إنعكس ضوء القمر على عينيها الشرستين بدت كشعاع شمس دافئة ستحرق الناظر إليها في أي لحظة
و تحدث بين أسنانه: ما الذي يحدث ؟ لقد ظننتك في عداد الموتى ؟؟ يجب أن ..... ؟؟ ثم هتف أخيرا بنفاذ صبر : ما قصتك بالله عليك
همست بكل ثقة تشدد على كل  حرف : أخبرتك الا تتدخل أنهم يبحثون عنك على الأغلب  و إذا وجدوك لا أضمن لك ان تخرج حيا و أنت لا بد أن لك عائلة قلقة عليك  . خذ هذه الدراجة و تدبر أمرك فالخروج من هنا صعب . ستنتشر مثل هذه الدراجة في الأرجاء للبحث عنك و لن تجلب الأنظار فقد أسرع بالخروج من هذه القرية اللعينة  متتبعا الطريق الترابي حتى تصل إلى الثكنة و هناك أطلب المساعدة
أطبق على ذراعها فجأة : أظن أن سيارتي لا تزال هناك ستأتين معي بقائك هنا خطر على حياتك 
أفلتت ذراعها من قبضته و وكزته بصدره تدفعه . : هل أنت معتوه أنت متهم بالاعتداء علي و أنا الضحية حتى لو كنت مذنبة لست بحاجة لأحد أنا قادرة على الدفاع عن نفسي
صدرت جلبة قوية على الطريق لوقع أقدام الرجال و همهماتهم  و صوت الدراجات  فصرخت به : هيا بسرعة أُغرب من هنا فقد فعلت المستحيل لإنقاذك و لست مسؤولة عن حياتك أو موتك بعدما فعلته
أعادت الغطاء تخبئ وجهها و سارعت بين الأحراش تعود للبيت فاستوقفها : لماذا لا تكشفين عمن حاول الاعتداء عليك ؟؟
توقفت فجأة و دون أن تستدير أجابت بنبرة حانقة تخبئ عبرات قنوط تخللت حنجرتها : لأن حياة أناس آخرين مرتبطة بهذه الحقيقة و سارعت خطواتها مبتعدة عنه تاركة إياه لعجزه و قلة حيلته يكبله و هو يعود بذاكرته إلى عشر  سنوات خلت حين أراد مساعدة فتاة و كادت تلك البادرة تنهي حياته أما داخل قبر أو خلف القضبان و قد وعد والديه إلا يساعد إلا من يعلم بظروفهم  .   فهمس ينظر إلى السماء مناجيا يااااااارب .
بعد قليل فتح الباب بقوة و اندفع داخل غرفة عمها غاضبا و خلفه أنور و عادل و ركضت خلفهم جميلة و زينب يتساءلان عن سبب صراخهم فوجدوا سيلا نائمة بحجر إسمهان التي تضع يدها تربت على شعرها تعيد رأسها للخلف مدعية النوم كذلك
قامت سيلا تمثل الفزع و صرخت بأعلى صوتها : ساعدوني و هي تضع يدها على صدرها شاهقة . حضنتها إسمهان من الخلف تهدئها : لا بأس حبيبتي أنه مجرد كابوس و نظرت إليهم جميعا و هي تهز كتفيها : بالكاد تغفو قليلا ثم تستيقظ مفزوعة
زمجر عثمان و هو يتقدم نحوها : هناك من ساعد الرجل على الهرب إذا كنت أنت هذا يعني انك تعرفينه . كان قد وصل إليها ورفعها من ذراعها على السرير حتى جثت على  ركبتيها تهز رأسها نافية و أردف بغضب : ما الذي كنت تفعلينه أمام الإسطبل حين رآك عادل
أمالت برأسها تدعي الغباء و نظرت إلى عادل خلف كتف والدته و همست ببلاهة  :  أخي عادل لما عيونك محمرة هكذا . أتتعاطى شيئا ما لا سمح الله يجعلك تتخيل أمورا واهمة .
تراجع عادل خطوة إلى الخلف حتى إرتطم بالباب و هو يفرك عينيه . فقالت جميلة تنقذه من الموقف كالعادة : لقد أحمرت من السهر و هو يحرس قليل الأصل الذي حاول هتك عرضك
تبنت سيلا ملامح الأسف و هي تنظر إلى عمها و ترمق بطرف عينها كل من عادل و أمه : عمي تعلم أن مهمة كهذه لم تكن تناسب عمر عادل  المسكين فهو لايزال صغيرا على تحمل مسؤولية كهذه 
هدر عمها صارخا باسمها يمنعها مزيدا من الكلام بنبرتها التهكمية الساخرة المستفزة تلك ترك يدها بعنف و هو يقول : حمدت الله دائما أنه حباني بالأولاد ماذا فعلت كي يبتليني بثلاثة بدل واحدة ااااه أخي رحمك الله صدق من قال هم البنات إلى الممات
عادت إلى مكانها بجانب إسمهان بتملل : لا تدري يا عمي بأيهم يثمر الخير
ضغطت إسمهان على ذراعها تردعها و هي تقول : عمي سيلا كانت نائمة بحضني لم تتحرك أبدا من مكانها
  شد عثمان على قبضته حتى أبيضت مفاصله يشعر أن نهايته ستكون على يد سيلا فلا تنفك تثير المشاكل بجرأتها التي يراها وقاحة و لم يفلح شقيقه في تربيتها  كونها ولدت و نشأت في بلد غريب
جر أقدامه خارجا لينظر الى أهل القرية عسى احدهم وجده قبل أن ينفذ بجلده حتى لا يأكل كبارها وجهه و يحط أحد من قيمته و لكن قبل أن يخرج هتفت سيلا خلفه من مكانها : عمي أنت شيخ القرية و مؤذنها أليس من الظلم رمي التهمة على شخص لم يثبت جرمه خاصة و إني كل ما أتذكره أن أحدهم دفع الباب و فقدت الوعي حين ارتطم رأسي بالجدار بينما كانت اسمهان تستحم . ربما الرجل أراد المساعدة .
لم يلتفت إليها و كأنها لم يسمعها بل سحب نفسه بصعوبة خارجا كي لا ينهال عليها ضربا و يهشم عظامها و هو يعلم أن لا شي يردعها و يحد من جرأتها
سيلا لم تعرف يوما شعورا بالخوف من أي خطر كباقي البشر  كل خوفها كان أن تصبح شخصا لا يشبهها . أن تحتجز بمكان تشعر أنها لا تنتمي إليه . خشيتها أن تبرد الدماء الجزائرية الحارة بعروقها ، أن تتوقف يوما عن أحلامها . و تتراجع عن طموحاتها
بعد يومين . جلس خليل بعد أن أدى صلاة العصر بالمسجد يستمد طمأنينة اللجوء إلى الله بعد أن حرمتها منه تلك الفتاة التي لم تتغيب عن ذهنه لحظة كلما حاول شغل تفكيره يجد نفسه يبحث لها عن حل دون علم بالمعطيات بالأسرار بالظروف حتى اسمها يجهله كل ما يعرفه  أنها تحتاج مساعدة ، ظل يدعو لها ليومين كي ينجيها مما هي فيه ،
يد دافئة ربتت على ظهره و عطر الطيب زكم أنفاسه أنعمه ببعض الراحة و جلس بجانبه إمام المسجد بعد أن ألقى السلام : أتحزن و الله ربك يا بني ؟؟
رد خليل مطأطأ الرأس إحتراما لمكانة الجليس : لا و الله لست حزين فالحمد لله وهبني  من نعمه ما يخجلني أن أحزن  لكن أمرا ....
فرت منه الكلمات و عجز عن قص ما يهمه
إبتسم الأمام و زاد نوره مع إبتسامته البشوشة : استخر يا بني ما خاب من استخار و ألجأ بعدها الاستشارة من أهل العلم
خليل: استخرت يا شيخنا و لم يزد الأمر آلا تعلقا بذهني .. لكن يا شيخنا إذا كان إنقاذ روح قد يهلك أرواحنا ما العمل ؟ . لقد تهت بين من أحياها كأنما  أحيا الناس جميعا و بين لا ترموا بأيديكم إلى التهلكة 
شخص الشيخ بصره بعيني خليل في نظرة إحتواء و كأنه علم ما يظنيه : نعم الشاب أنت يا بني بارك الله في من رباك و أوصلك إلى هذا المقام . المسلم بعد أن يتوكل على الله يتخذ الأسباب إذا كان الأمر يرضي الله ليرضي ضميره و تبقى أعمارنا بيد الله و أنت أفضل من يعرف كيف يصل المرء إلى الموت و يعود منه حين لم يصل أجله .
مسح الشيخ على صدري خليل و هو يتمتم بالدعاء
في تلك الأثناء كانت زينب تترجى سيلا أن تفتح لها الباب بعد ذلك اليوم قرر عثمان إبقاءهم في ذلك البيت و عدم السماح لهم بالعودة إلى شقتهم فحبست سيلا نفسها بتلك الغرفة المهترئة التي كانت تعود الى أمها قديما إحتجاجا على قرار عمها ، غرفة ضيقة خصصت قديما للخردة قبل أن يشغلها والديها . و ليومين كاملين لم تفعل شيئا سوى التحديق بالسقف لن تخضع .و لن تتقبل ستكافح و تتحدى و تشن الحرب إن استلزم الأمر كي تجد حلا لتحقق أحلامها دون أن تتأذى عائلتها الصغيرة .
حين فقدت زينب الأمل جرت أقدامها تعود أدراجها لكنها توقفت حين سمعت صرير الباب الخشبي  العتيق .
دخلت بخطوات تباطأت على مر الزمان أو على مر الإستنزاف لروحها أنهكت نفسيتها قبل جسدها و جلست على أول صندوق كرتوني من الصناديق الكثيرة التي تحفظ فيها الأغراض القديمة في هذه الغرفة بينما جلست سيلا على الأرض تسند ظهرها على الجدار مقابلة لها  هدوئها المرعب ينذر بعاصفة هوجاء عند أول استفزاز . طال الصمت بينهما بادرت زينب بالكلام معاتبة : لماذا تفعلين ذلك بي يا ابنتي
رفعت سيلا رأسها تنظر إلى النافذة الصغيرة أعلى الجدار و كأنها منفذها الوحيد و أجابت دون أن تنظر إلى والدتها التي أمالت رأسها تنتظر جوابها أملا منها أن تستسلم : بالعكس يا أمي كل ما فعلته من أجلكن
زينب : يكفي يا ابنتي لا تفعلي شيئا من أجلنا فقط لا تفعلي أي شيء تقبلي الأمور كما هي فعمك مهما فعل فهو يحرص على مصلحتنا .
ابتسمت سيلا بسخرية و تحولت إبتسامتها إلى ضحكات ثم قهقهات حتى دخلت في نوبة هستيرية من الضحك بصوت عال جعل زينب تجفل و تقفز مسرعة إلى الباب تغلقه و توجهت نحوها جثت على ركبتيها أمام ابنتها علها ترأف بحالها اخذت وجنتيها بين كفيها ثم حضنتها تربت على شعرها .
سحبت نفسها من حضن والدتها فجأة و هي تقول بحماس : امي دعينا نعود الى تركيا
سقطت ذراع زينب فاقدة الأمل في اقناعها عن التخلي : بالإضافة إلى أن جوازاتنا عند عمك فأنا لا أؤمن نفسي و بناتي مع خالكم لقد تصبح  أخي كنان مجرد مدمن كحول و قمار
سيلا : أمي تركيا لا تعني خالي  كنان هي بلدك يا أمي .
بنظرة عميقة حدقت داخل عينينا و قالت : صدقيني يا ابنتي لم أرى عائلات متمسكة ببعضها كهذا البلد و عمك لا يلام بعدما حصل مع شقيقته سعاد
انتفضت سيلا واقفة تدور في الغرفة كالمجنونة و هي تصرخ : انا أكرههم جميعا أكره عمي و عائلته و  كل القرية إلا عمتي سعاد لقد كانت أشجع منك مهما حاولت كرهها و تحميلها مسؤولية ما آلت إليه حياتنا لكني أفتخر  بشجاعتها إستطاعت الهروب من هذا الجحيم  و نالت حريتها 
إرتعبت زينب واضعة يدها على فمها تخفي ارتعاشة فكها : ويحك يا ابنتي ان فكرت بفعلتها
هدأت نبرتها فجأة و هي تقول : صدقيني أمي لولاكم لفعلت  ، حتى و إن استطعت إقناعك بالهروب من قاع هذا الجحيم لكني لا أستطيع فعل ذلك مع إبنتك الغبية  ، هاجر ما يثنيني عن ذلك
وقفت بجانبها ترج كتفيها و هي تنتحب : عديني يا ابنتي ألا تفعلي ذلك عديني يا سيلا زاد نحيبها و هي تترجاها الى أن غابت عن الوعي و انتابتها تلك الحالة الغريبة التي تنتابها منذ ولادة إسمهان كلما إنفعلت أو غضبت . حالة فشل الأطباء في تشخيصها و لم يجد لها أي سبب عضوي و قد أرجح المختصين النفسانيين إنها إكتئاب ما بعد الولادة و تطور لإكتئاب حاد حيث تختفي حدقتيها و لا يبقى إلا البياض تتصلب أطرافها لدرجة أن أي  محاولة لتحريكها قد تكسر مفاصلها و تنخرط في نوبة بكاء تتحول إلى صراخ أشبه بالعويل حتى يخشن صوتها و يصبح شببه بصوت رجل و لا تخرج من تلك الحالة إلا إذا أحضروا شيخ المسجد يقرأ على رأسها ثم بعدها تستيقظ لا تتذكر أي شيء حدث .
و أغلب تلك الحالات تكون سببها سيلا فتلام من الكل كما سيحدث في هذه المرة أيضا فانسحبت إلى تلك الغرفة المهترئة مجددا تغلق على نفسها تتجنب العتاب تستمر في إعتصامها و إضرابها عن الطعام
في تلك الأثناء كان يخرج خليل من نفس البناية في القرية من الطابق الرابع حيث ترك له والده أمانة لكنه لم يعد من أجلها بل عاد من أجل أمانته التي وضعها  أمامه القدر بعد أن قاد سيارته على جناح السرعة حين خرج من المسجد . عاد ليجمع ما يستطيع عنها من معلومات يستفسر عن ظروفها حتى يتمكن من الأقدام على ما يفكر به و عاد بنفس السرعة إلى بيته
طرق على باب الغرفة المنفرج قليلا فلم يجب أحد  لكنه سمع صوت همسات خافتة و حين رفع بصره لمح طيف والدته يصعد و يهبط بين سجود و ركوع فدفع الباب ببطئ و دلف إلى غرفتها . شعور مهيب عصف بخلجات الفؤاد و هو يدخل غرفة نوم والديه المرة الأولى منذ وفاة والده . الغرفة التي كانت منطقة محظورة عليه و على إخوته من طرف إبراهيم الذي كان يعتبرها مملكته الخاصة به و بزوجته و لا يسمح لأحد بالدخول ، بين جدرانها . تقاسموا الود . و خلفوا الحب . إختلفوا في الرأي و لم يفسد للود قضية . تهاوشوا . تصالحوا . فرحوا و غضبوا . رحل الشريك و بقيت ذبذبات دافئة تشهد على حميمية المكان . و رغم منع أولادهم من دخولها إلى أن خليل كان يستغل أوقات إنشغال والده خارج البيت و يتسلل إلى والدته كي يقاسمها مشاغله . و يشاركها إسراره بعد أن رمم علاقته مع أسرته حين كانت على حافة الإنهيار بعد المأساة التي عاشها في أول سنواته بعد العشرين و التي كادت تودي بحياته لولا إلطاف الله به و رحماته لدموع امه الحارقة و دعواتها بقلب منفطر . و في كل مرة كان يأتي إليها خليل إلى غرفتها إلى و تيقنت أن أمرا بالغ الأهمية و في غاية السرية . جلس على الأريكة المقابلة للسرير بوضعية نصف ممددة يسند رأسه على ساعده فوق ذراع الأريكة الخشبي . يرفع قدما فوق الأريكة يثني ركبه و يترك الأخرى منسدلة . شرد ينظر إلى الإطار الكبير فوق السرير الذي يزين الصورة الوحيدة لهما في زفافهما . كم كان يبدو والده شهما . و كم كانت تبدو هي جميلة في حيائها . لم ينتبه إلى والدته التي أنهت صلاتها و استدارت تنظر إليه بعينين دامعتين و هي تراه يجلس نفس جلسة والده على تلك الأريكة كأنه نسخة أصلية عنه ، أستقام في جلسته  إحتراما لها فابتسمت له بحنو امومي فطري . فربت على الأريكة يدعوها للجلوس بجانبه و حين فعلت وضع رأسه بحجرها . ارتفعت أصابعها تمررها على شعره الخفيف فمهما كبر بالعمر و أصبحت بنيته الجسدية ضعف قامتها يظل صغيرها  الذي كانت ستفقده في أول شبابه لا زالت تراه و لا نصدق أنه لازال حيا يرزق بين احضانها . تحدثت تمنع دمعة متخاذلة تجمعت بمقلتيها : ما الذي يشغل بال خليلي الصغير
سحب يدها من شعره يقبل باطن كفيها : جئتك معتذرا فقد بت  أنهمك بانشغالاتي عنكم 
أجابت بنبرة ملؤها العطف : لا تعتذر يا حبيبي أعانك الله بين ورشتك و تسيير المحل ما يعز غيابك عنا ، إفتخاري بك يا حبيبي لقد نام والدك قرير العين بمرقده و هو يعلم أنه ترك لنا خلفه رجلا يحفظنا بين جنبيه
استقام جالسا و أطبق على كفيها الصغيرتين  فابتسمت قبل أن يتحدث و هي تقول : كنت أعلم ان مجيئك ليس بغرض الإعتذار فقط حتى غيابك الأيام السابقة لم يرتح له بالي . خبرني يا صغير فقلب الام يبصر حتى و إن جهل .
طأطأ رأسه مطلقا زفيرا ثم أخذ جرعة كافية من الهواء .
خليل : بأي بئر عميق أخفي عنك أسراري يا رحيمة ، أمومتك تعريني و لا تدع لي أي مجال للتكتم ، إنصتي يا أمي و أتمنى ان ألقى من نصيب إسمك فيما ستسمعينه مني
انعقاد حاجبيها لم ينقص شيئا من بشاشتها و ملامحها الطفولية البريئة رغم تجاوزها سن الخمسين : قررت أن أتزوج يا أمي و قد وجدت الفتاة  ، كان سيضيف انها الفتاة المناسبة و ذلك هو المنطقي بعد بحث مظن عن فتاة مناسبة . لكنه لم يقلها لا يعرف إذا كانت حقا مناسبة فقد سأل عنها بالكلية و أجمع الكل بقدر معرفتهم السطحية بها أن لا غبار على أخلاقها و أنها كانت من المتفوقين ، أما من في القرية لم يكن لهم نفس الرأي رغم أن لا أحد ذكر ما يعيب سمعتها غير رغبتها المجنونة في إنهاء دراستها 
إنفرجت أساريرها تتأرجح بين سرور و دهشة قبل أن تقول : لا تقل انك اخترتها منذ زمن و تركتني أدق أبواب الناس حاملة قوالب الحلوى ثم تتحجج أنك لم ترتح لاي منهن .
ابتسم خليل عل إبتسامته تشفع لما سيخبرها به و تلين حتى يقدم على خطوته كاسبا رضى والدته : لا يا أمي أنه وضع خاص قليلا لقد تعرفت عليها منذ ايام قليلة .
فهتفت بحماس : و هي من قلبت كيانك في يومين فقط ؟
اسمعيني يا رحيمة ... من فضلك  قالها و هو يشدد على الحروف قليلا كي يخفف من حماسها : الفتاة تحتاج المساعدة .
ارتفعا حاجباها و هي تقول : أعلم يا بني أنك مثل والدك يدك تسبقك الى الخير .
خليل : أمي الفتاة تملك من المال ما يساوي تروثنا أو يفوق لكنها في حاجة الحماية .
وقفت تشبك ذراعيها عند صدرها : الزواج يا بني ليس عملا انسانيا او خيريا . الزواج نصف الدين يا بني الزواج  ميثاق غليظ و حياة برمتها تمضيها مع شريك تختاره على أسس صحيحة و أنت أكثر من يعرف ذلك و من أجل معاييرك التعجيزية طرقنا اكثر من عشرين بابا .
وقف معها يحاول تفسير ما عجز عن تفسيره هو لنفسه ضاربا عرض الحائط كل توقعاته و معايير إختياراته في شريكة حياته كل ما يفكر به صوت ضميره الذي يدوي بداخله يطالبه بإخراجها من هناك و حمايتها و يُأنبه على قلة مروؤته بتركها هناك في خطر متربص بها : أمي الفتاة لم توافق  بعد سأتقدم غدا لخطبتها و لنرى ما قدره الله لنا  .
هتفت بدهشة : غدا يا خليل!!! . يعني أنك قررت الذهاب بمفردك لعلمك المسبق باستحالة ذهابي لأني معتدة .ألا تطيق الإنتظار بضع أيام أخرى أصدقني القول يا خليل  ما الذي يحدث بالضبط .
تقدم نحوها خطوتين و ضمها كطفلته إلى صدره : كل ما حدث أن الفتاة تحتاج مساعدة و كي لا أغضب الله لا يسعني مساعدتها إلا إذا تزوجتها و أما ظروفها فسنرى إذا وافقت على الزواج أن رغبت في مشاركتك لأسرارها .
شهقة إنفلتت رغما عنها و هي تغمض عينينا تتذكر جسده الموصول بالأجهزة و الأطباء ينتظرون موته ليفصلوه عنها . علم من إنتفاضة جسدها النحيل بين ذراعيه ما أرعبها فربت على شعرها متتعبا خصلات الشيب التي تسللته : لا تخافي يا أمي ما حدث كان إبتلاء من الله لنا لنغدو ما نحن عليه اليوم بفضله
أبعدها عنه و هو يقول : أعلم أنك غير مقتنعة لقد جئتك طالبا رضاك و دعائك في ما أنا مقدم عليه يا جنتي .

حين لم ينفع معها العنف و استمرت في عناد إحتجاجها  منذ ذلك اليوم لم تتذوق فيه طعاما و لم تهنأ بنوم و هي تأبى مغادرة تلك الغرفة التي لا تصلح حتى للبهائم يعملوها الغبار و تغرق بالرطوبة و لا تتوفر حتى على اضاءة فكانت تستمد انارتها من النار التي تحرق جوفها و تتوهج بضراوة بحدقتيها الشرستين . أتصل عثمان بابنه الأوسط بلال يستنجد به قبل أن تقوم بفضيحة أخرى ،  فقد كان بلال  قديما صديقا ودودا لها قبل أن تشغل الحياة كل منهما و يمتنعان عن صداقتهما .
طرق الباب فصرخت بما تبقى لها من طاقة واهنة : أُغربوا عن وجهي لا أريد طعاما لا أريد شيىئا منكم
أدار المفتاح الكبير داخل القفل الصدء ليفتح الباب الخشبي المتآكل محدثا صريرا مزعجا . أطل بهيأته الهادئة بملامحه القروية التي لم تتغير أبدا بشاربين رفيعين و ذقن حليق و مظهره المهندم ببساطته . يحمل صينية الطعام لها قائلا : حتى أنا يا سيلا !!
أشاحت بنظرها : حتى أنت يا بلال إذا جئت تقنعني ان أرضى بظلمهم .
وضع الصينية أرضا و تقدم منها جالسا القرفصاء أمامها : أُنظري إلى نفسك يا سيلا تكادين تفقدين جمالك أيتها الأميرة المتمردة . ما تفعلينه بنفسك لا يرضي الله يا أختي . كلي شيئا كي نتحدث

المتهم الخطأ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن