الفصل الرابع

333 12 0
                                    

الفصل الرابع : الرحيل


حين وصلت إلى منزلها كان المكان غارقا في السكون. دخلت من الباب الخلفي بخطى متسللة إلى أن وصلت غرفتها. فتحت الباب فوجدت مربيتها بانتظارها و هي تضع رأس الطفل النائم على حجرها.
سألتها بنظراتها فأجابتها مطمئنة : لقد أعطى الدواء الذي ناولك إياه الرجل مفعوله بسرعة.
سألتها بقلق : هل أنت متأكدة أنهم نائمون فقط ؟؟
- اطمئني لن يحصل لهم أي مكروه
نظرت إليها بحزن و قالت بصوت مرتجف : إذا فقط حان موعد الرحيل، فلنبدأ بإخراج جميع متاعنا ثم سأجلب فرسي كي نحمّل عليها.
بدأت المرأة في إخراج أشيائهما و ما إن وجدت ميسون نفسها وحدها حتى سمحت لعبراتها بالتدفق على خديها، أخذت تلمس الحائط والأثاث و الستائر و دموعها تزداد غزارة.
لسبب ما كانت تشعر يقينا أنها لن تعود لتعيش في هذا البيت بعد اليوم. و تمنت لو تستطيع إخفاءه و حمله معها إلى كل مكان تذهب إليه. فهذا البيت ليس مجرد حيطان و غرف و أثاث. بل كان كل ركن من أركانه يحمل ذكريات و ذكريات , ذكريات ملكها و تخصها , سعيدة كانت أو حزينة و لن تستطيع أبدا استرجاعها كما تفعل في هذا البيت، نعم هذا البيت الذي لو تكلمت جدرانه لحكت قصة حياتها بجميع تفاصيلها و لرددت رنين ضحكاتها و لو نطقت زواياه لكشفت صوت آهاتها و دموعها التي خبأتها عن الجميع. هذا البيت الذي كانت فيه أولى خطواتها و أولى كلماتها و فيه كانت تحس إحساسا مطلقا بالأمان.
لكن الآن ضاع الأمان و ضاع معه الاطمئنان و وجب عليها الرحيل.
" ترى هل سأشعر يوما بالانتماء اللذي أشعر به هنا أم سأظل بقية عمري طريدة ذكرياتي" تساءلت و هي تشعر بالأسف لحالها. تقلب أخوها في نومه فنظرت إلى وجهه بحنان ثم بدأت توقظه في رفق. فتح عينيه و نظر إليها بحيرة فقالت له بلطف : هيا قم الآن فسآخذك في جولة على ظهر فرسي.
قال متكاسلا : جولة في هذا الوقت ، الظلام دامس و لن أستطيع رؤية شيء.
طمأنته قائلة : لا تقلق ، أنت ستركب بينما أنا أسير و أمسك بلجام الفرس. هيا انهض و كفاك كسلا.
بعد وقت قصير كانت هي و مربيتها تجدان السير و قد حملتا ما تستطيعان حمله واضعتان الباقي مع الطفل على ظهر الفرس. لم تشأ ميسون الالتفات إلى الوراء و لو للحظة، أحست أنها إن التفتت فستعدل عن الرحيل ، فالهروب هكذا هو ضعف و جبن وهي لم تكن أبدا جبانة و لكن للضرورة أحكام أقوى من الجميع.
نظرت إلى وجه أخيها المبتسم الخالي من جميع هموم الدنيا و واصلت السير.

………………………….

كان عاصم قد وصل إلى بيت الرجل، دخل مسرعا و ملهوفا. ما إن فتح الباب و ولج إلي الداخل حتى هبت فتاة في مقتبل العمر كانت جالسة في منتصف الغرفة إلى لقائه.تطلعت إليه بعينيها الخائفتين الحزينتين للحظات ثم قالت له بصوت مرتجف مختنق بالعبرات : لقد تأخرت، تأخرت كثير، مضى وقت طويل منذ أن غادر، وقت طويل حتى كدت أيأس من الخلاص.
ارتجف جسدها تحت طوفان من الدموع فأخذ يربت على ظهرها بحنان و هو يردد بصوت هادئ : لا بأس عليك بعد اليوم،أنت بخير الآن ، أنت بخير.
نظرت إليه بحزن و سألته بصوت مليء بالعتاب : لماذا تأخرت؟؟
أجابها بلطف : أنت تعرفين الرجل العجوز، عندما يسير يتمايل كالنساء
ابتسمت له من خلال دموعها و قالت : لقد قمت بكل شيء أمرتني به، خدرت زوجته حتى لا تفتقده و جهزت حاجياتنا.
سألها ملهوفا : و الطفلة، أهي في غرفتها؟
ما إن أجابت بالإيجاب حتى اتجه إليها يسابقه قلبه. و أخيرا سيملأ عينيه من ملامحها ، أخيرا سيستطيع ضمها إلى صدره و احتضانها ، سيحملها عاليا بين ذراعيه، أخيرا سيستطيع أن يناديها ابنتي، طفلتي ، أميرتي الصغيرة. دخل الغرفة بهدوء حتى لا يفزعها ، كانت نائمة بعمق و وجهها الجميل يحمل وداعة و براءة لم ير مثلهما في حياته. فكر أنه لو قضى عمرا كاملا و هو يتأملها فلن يمل. أخرج نفسه عنوة من فورة مشاعره و حمل الطفلة برفق، تأكد من أنها متدثرة و دافئة ثم حمل المتاع على كتفه و خرج إلى الطريق حيث كانت تنتظره الفتاة.
عندما وصل إلى النزل تذكر الشابة الثانية و استرجع آخر كلماتها حين ظنته لصا. فكر بقلق هل تراها ستعدل عن الذهاب معه. ماذا يفعل إن لم يجدها في انتظاره، هل يرحل و ينسى أمرها أم يذهب إلى بيتها ليتأكد. كان قد وصل إلى باب غرفته فتردد قليلا ثم فتحه، شعر براحة كبيرة عندما قابلت نظراته وجهها الجميل. هبت واقفة ما إن دخل الغرفة و قلت بصوت هادئ لا يكاد يخفي توترها :
- لقد تأخرت كثيرا
لم يستطع أن يمنع نفسه من الابتسام لتكرر نفس الموقف و لكن مع اختلاف المرأة. " يا للنساء مختلفات و لكن كلهن واحدة" تعجب في سره.
قالت ممتعضة : حقا ,لا أرى ما يدعو للابتسام
نظر إليها متفحصا فلم تفته آثار الدموع في عينيها الواسعتين أو على محياها الحزين. شعر برغبة كبيرة في ضمها بين ذراعيه و محو جميع آلامها و لكنه سرعان ما تراجع و أنب نفسه قائلا " عليك أن تبقيها بعيدا عنك أو لا تلومن إلا نفسك"
قال لها بصوت محايد : قبل أن نغادر يجب أن تعلمي أني لا أسافر وحدي ، أنا أصطحب معي ابنتي و مربيتها.
حدقت فيه بدهشة بينما واصل مفسرا : كانت ابنتي محتجزة عند هذا الرجل ، و أشار إلى الجسم المغشي عليه، و الليلة بعد عامين ونيف من الفراق استرجعتها. ربما يوما ما ستعرفين أكثر لكن الآن حان وقت رحيلنا.
كانت ما تزال تحت وقع المفاجأة الأولى حين صدمت بمفاجأة ثانية . عندما دخلت العربة لتقبل أخيها و تطمئنه ، فوجئت برؤية الفتاة الشابة جالسة بجانب الطفلة النائمة. عندما أخبرها عن مربية لابنته ظنت أنها أي شيء إلا أن تكون فتاة بهذا الجمال. كانت فاتنة تماما. أحست بانقباض في قلبها و هي تتأملها و لكنها سرعان ما تجاهلته و هي تحيي الفتاة بصوت خافت.
ثم خرجت لتمتطي فرسها ، نظر إليها عاصم متسائلا فقالت له بهدوء : المكان لن يسعنا جميعا في الداخل، لذلك من الأفضل أن أسافر راكبة
- هل أنت فارسة متمرسة
أومأت برأسها فأشار لها بيده للتحرك بينما همز بطن جواده بكعبيه و انطلق. و هكذا بدأت رحلتها المجهولة. إلى أين ؟ لا تدري ، كم ستدوم ؟ لا تعرف ، كيف ستكون؟ لا علم لها. واست نفسها بأنها على الأقل تثق بهذا الرجل. ابتسمت بمرارة و هي تتذكر خوف مربيتها عليها منه، ترى ما شعورها الآن و هي تراه يصطحب معه الفتاة الأخرى التي تفوقها جمالا؟

انتهى الفصل

رواية الرحيل اليه لكاتبة نغم الغروبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن