الفصل العاشر ما بالك ؟
كانت ملامحه مشدودة يعتليها تجهم شديد. قالت له و في عينيها نظرة تساؤل : لقد أفزعتني. ما الذي...
قاطعها بصوت قاس كالجليد : ما الذي تفعلينه في هذه الساعة من الليل؟
أجابته و هي تزداد حيرة من سلوكه الغريب : لقد أرقت فأردت أن أجول قليلا في الأنحاء قبل أن أعود للنوم.
قال بنفس الصوت القاسي : حقا؟؟
رفعت رأسها و أجابته بتحد : نعم حقا!!
قال لها باحتقار : لو علمت أنك فتاة لعوب لما رضيت باصطحابك معي في رحلتي هذه.
عقدت الصدمة لسانها فلم تستطع النطق بينما واصل هو قائلا : العيب ليس فيك، العيب في أنا عندما تعاميت عن حقيقتك. فكيف لفتاة فاضلة أن تستطيع إغواء رجل كهل خبير بالمومسات.
وضعت يدها على فمها للحظات ثم قالت و هي ترتجف غضبا من رأسها إلى أخمص قدميها :
- اغرب عن وجهي الآن ، هيا فلتغرب
قال و هو يقترب منها مهددا : لا يجوز لم هي مثلك أن تخاطبني بهذه الطريقة، إن لم تتأدبي في بيت أهلك فسأؤدبك بنفسي.
ردت و هي تحدق في عينيه بقسوة : يبدو و كأنك اشتقت لصفعة أخرى من كف يدي
قال مستهزئا : أتمني أن تحاولي
طبعا لن تجرأ. فاكتفت بأن تصعده بنظرها باشمئزاز و توليه ظهرها لتنصرف. و لكنه أمسكها من معصمها و أدارها إليه قائلا : من انعدام الأدب أن توليني ظهرك و أنا لم أتم بعد كلامي
أجابت وهي تحاول تحرير يدها المقيدة لديه بقبضتها الحرة : كلامك يا هذا لا يهمني سماعه
عندما عجزت عن فك نفسها بدأت بخدش يده فما كان منه إلا أن قبض على معصمها الآخر و هو يقول بغضب : آلمتني أيتها …
قاطعته بصوت متنمر : إياك أن تكمل
ظلا صامتين يتبادلان النظر. كانت نظراتها تموج بالغضب و الحيرة بينما كان هو ينظر إليها بمزيج من القسوة و الألم. نعم لدهشتها كان يبدو متألما.
بعد برهة قالت له بهدوء مفتعل : اتركني الآن ، أنت تؤلمني
خفف قبضته قليلا و لكن لم يبد عليه أنه ينوي تركها.
قالت بنفاذ صبر : ما الذي تريده مني؟
رد عليها ببرود : ليست لي عندك حاجة. و لكني آمرك أن تتركي ابن خالي و شأنه
قالت باستهزاء : تأمرني؟! لا أمر لك علي أتفهم ؟ إن كنت رجلا حقا فلتأمره هو.
قال بغلظة : هذا ما أنوي فعله و لكن اعلمي أنك إن لم تبتعدي عن طريقه ف…
أقاطعته بهدوء مستفز : و ماذا عساك تفعل؟ تتركني في منتصف الطريق أم تطعم جسدي للسباع؟
تجاهلها و هو يسألها مغيرا الموضوع : إلى أين وصل الأمر بينك و بين جاسر؟
قالت متهكمة : أخبرني أنت ! ألست من كان يتلصص علينا؟
قال لها بصوت أجش : لقد سمعتكما تتواعدان على اللقاء الليلة؟ فهل كان بينكما لقاء قبل هذا؟
ضمت شفتيها و قلبت عينيها في السماء و هي تتساءل متظاهرة بالحيرة : هل كان بيننا لقاء من قبل، هل كان بيننا لقاء من قبل؟
هزها بعنف : أجيبيني الآن!
قالت بابتسامة معسولة و هي تنظر إليه ببرود : الحق أني تعددت لقاءاتي فنسيت إن كنت التقيته هو أم الرجلين الآخرين. عموما اذهب و اسأله هو إن كنت تجرأ
أمرته بقسوة و هي تجذب يديها بقوة : و الآن اتركني، أفلتني ، لم لا تدعني و شأني؟
لكنه لم يتركها بل واصل قائلا بصوت شبه هامس كأنه يحدث نفسه : لكني متأكد أني سمعتكما تتواعدان على اللقاء في وقت لاحق هذه الليلة.
ظلت تتطلع إليه ببرود. نظر إليها متسائلا بصوت خفيض : إن لم يكن حديثكما عن المواعدة فعم كان؟
أجابته بصوت لاذع : قابلني ابن خالك صدفة و إذا به يفاجئني بطلب يدي ، و لم يشأ أن يتركني أذهب إلا حين وعدته بالتفكير في عرضه
قال بصوت مظطرب : طلب يدك للزواج ؟ كيف و هو لا يكاد يعرفك؟
أجابته ساخرة : لحسن حظي ليس لكل الرجال حكمتك و سداد رأيك. خذ عندك ابن خالك مثلا ، المسكين لم يستطع أن يعرف أني أخفي وراء مظهري هذا امرأة لعوبا. لكن لا بأس ما يزال أمامك متسع من الوقت حتى تعيده إلى رشده. و الآن دعني أذهب، اتركني حالا
و لكنه بدل أن يطلقها قربها منه حتى صارت ترى العرق النابض في عنقه بوضوح، نظرت إليه بدهشة و غيظ قائلة : أخبرتك أن تتركني، ما بالك، ألا تفهم ؟
ظل صامتا لا يحير جوابا. كانت تسمع صوت أنفاسه الهائجة بوضوح. قطع الصمت قائلا لها بصوت دافئ : ميسون ، أخبريني هل ما تقولينه هو الحقيقة؟ ألم يحصل أي شيء بينك وبين جاسر؟
زفرت بضيق و أشاحت بنظرها بعيدا عنه.
فكرت بينها و بين نفسها أن من يراهما الآن عن بعد سيحسبهما عاشقين متيمين بحب بعضهما و لن يحدس أبدا نوع الحوار الذي كان يدور بينهما.
لم تظن أن الغيرة من الممكن أن تطير صواب الرجال هكذا. و لم تحسب أنه قد يغار عليها إلى هذه الدرجة. كادت تبتسم سعادة و لكنها تذكرت سيل الاتهامات التي كالها لها فارتدت قناع الغضب مرة أخرى.
" علي معاقبته فكونه يغار علي لا يعطيه أبدا ذريعة كي يتهمني في عرضي و شرفي ، إن تجاوزت هذه المرة فسأتجاوز في كل مرة"
قطع حبل أفكارها قائلا بصوت فيه نبرة استعطاف : ميسون أمازلت غاضبة؟ انظري إلي يا ميسون
سحرتها طريقته في نطق اسمها حتى شعرت و كأنها تسمعه لأول مرة. صوته الدافئ وقربها من جسده القوي و تنشقها لعبير رجولته ، كل هذا جعل شيئا من الخدر يسري في أوصالها. شعرت بضعف تام و حدثت نفسها قائلة " أين قوتك و رباطة جأشك يا فتاة ؟ ما هذا الذي أنت فيه ؟ لكأني بك إن أقبل عليك فستقبلين عليه"
استجمعت كل طاقتها ثم قالت له و هي تتحاشى عينيه : نعم ما زلت غاضبة و سوف أظل كذلك وقتا غير قصير. و لتعلم أني لن أقبل منك أي اعتذار فلا عذر لك لما فعلته و قلته لي.
تنفست بعمق ثم قالت له بتقريع : عيب عليك أن تتهمني في عرضي دون بينة ، و عيب عليك كل العيب أن تعايرني بشيء ما فعلته إلا كارهة و ما فعلته إلا لأساعدك. و الآن بحق مروءتك فلتتركني أذهب.
ظل محتفظا بها قريبا منه و هو يحاول اصطياد نظرة منها و لما أيس من الأمر أفلتها فجأة. ما إن أبعدها عنه حتى أحست بالبرد يسري في أطرافها و يغلف قلبها. لكنها سرعان ما تمالكت نفسها و ركضت مبتعدة عنه.
كانت تشعر بمزيج من السعادة و الانزعاج : كانت سعيدة لأنها تأكدت من قوة عاطفته نحوها ، و لكنها كانت تشعر بالانزعاج لأنها لم تفهم إلى الآن ما مستقبلها معه.
تساءلت و هي تضع خدها الساخن على الوسادة : مالذي تريده مني يا عاصم ، ماذا عساك تنتظر حتى تصارحني و تكشف لي عن مكنون قلبك. أم لعلك تعتقد أني أنا من سأبادر بالبوح. إذا كان الأمر كذلك فلتنتظر أبد الدهر
"و هل ستقدرين على الصبر عنه، وجهت الحديث لنفسها، هل ستحتملين البعد عنه؟ و ماذا لو وفى بوعده و تزوج تلك العزة؟ كيف العمل حينذاك؟"
تقلبت في فراشها متذكرة ما دار بينهما منذ قليل. ابتسمت و هي تسترجع ذلك الشعور الطاغي الذي اجتاحها حين كانت قريبة منه. كان شيئا أشبه ما يكون بالسحر. نظرات عينيه العميقتين التي امتزجت بأنفاسه الملتهبة و بصوته المشبوب بالعاطفة ، كل هذا جعل دفئا لا يوصف يسري في جسدها و في روحها مذيبا الكثير من الثلوج التي أحاطت بها نفسها منذ سنين. حتى أن أحدهم وصف قلبها بأنه قد من الصخر.
عبثا حاولت استحضار صورة ذلك الشاب في ذهنها ، المسكين حاول استمالتها بشتى الطرق و لم ينجح و لا حتى اقترب. لم تتأثر كثيرا بوسامته و لا بسرعة بداهته و لا بقدراته كفارس مغوار. فقط أعجبت به كرجل يثير الإعجاب. و لم يكن غزله بها ليثير في نفسها شيئا من المشاعر سوى بعض الغرور.
همست قائلة لنفسها : "فلتنظر إلى حالي الآن و لتنظر إلى حال قلبي ، لو رأيتني لما عقلتني"
كلمات عاصم البسيطة و مشاعره المتأججة التي قرأتها في عينيه كانت أبلغ من ألف ألف قصيدة عشق و غزل. مروءته، شهامته و كرمه أشد وقعا لديها من فروسية و مبارزة أو أي شيء آخر يتفاخر به الرجال.
نادته في سرها : "عاصم حبيبي و آسري، ترى ما الذي يمنعك عني؟ ترى ما الشيء الذي يجعلك كلما اقتربت ابتعدت و كلما أوشكت تراجعت؟ "
أخيرا غلبها النعاس فغرقت كعادتها في نوم بلا أحلام.انتهى الفصل