الفصل الحادي عشر سِرّهُ
عندما استيقظت من النوم ، قررت أن تشغل نفسها كامل النهار و لا تدع نفسها للفراغ و إلا جنت من التفكير. تطوعت للقيام بمهام المرأتين الثانيتين فقامت بإعداد الطعام و غسل الملابس و تنظيف العربتين. و لحسن حظها فإن الرجال ظلوا بمنأى عنهم لذلك لم تقابل عاصم أو جاسر طوال اليوم.
فقط عند حلول المساء و قرب رحيلهم أحست بوطأة الحرمان و لم تستطع الدخول إلى العربة إلا بعد أن أشبعت عينيها برؤية عاصم قادما من بعيد. ثم أسرعت بالاختباء حتى لا تفضح نظراتها ضعفها و شدة شوقها إليه.
في اليوم التالي تساءلت كيف عساها تقضي بقية يومها فلم يتبقى لها من البارحة الكثير لتفعله. و لم تكن من هواة الحديث و حتى لو كانت فمربيتها كانت متعبة للغاية وعزة لم تكن صديقتها المفضلة بالطبع.
لذلك كم كان ارتياحها حين أتاهم جاسر و عرض أن يأخذهم في جولة على ظهور الخيل إلى مكان جميل يقع غير بعيد.
ركبت عزة وراءها على فرسها بينما أردف جاسر الطفلين أمامه و انطلقوا. توقف جاسر حين وصلوا و أشار لهم بيديه يستعرض المكان و هو يقول بحماسة : ما رأيكم، أليس هو هذا هو البهاء بعينه؟
ترجلوا جميعا وأخذوا يتأملون المكان بانبهار، تناثرت ذرات التراب الأسمر تحت وقع أقدامهم و غمرتهم الضلال الندية و تاهت أعينهم في المشهد الممتد أمامهم ، فما بين زرقة السماء و اخضرار الأشجار و ألوان الأزهار و صفاء المياه احتاروا أين يحطون أنظارهم .
و بدا كأن الطبيعة تهمس لهم بأغنية أبدية ألفتها الأصوات الساحرة لشدو الطيور و حفيف الأوراق و أنغام تدفق المياه.
وبدا المكان كقلب رحب يدعوهم لللجوء إليه. التفت إليهم جاسر و حدق في وجهي عزة و ميسون و قال و هو يغمز بعينيه : هذا هو النعيم حقا، الماء و الخضرة و الوجه الحسن.
ابتسمت ميسون رغما عنها بينما احمر خدا عزة خجلا.
انطلق جاسر و الطفلان يتسلقان الأشجار بينما جلست الشابتان تتسليان بأكل بعض الفاكهة ، تنهدت عزة قائلة : ألا ما أشد جمال هذا المكان ، ربما لو عشت فيه قليلا لنسيت جميع ما مر بي من غم و شقاء.
تنهدت ثانية وهزت رأسه كأنما لتنفض عنها سيل الذكريات المؤلمة. نظرت إليها ميسون بإشفاق ثم مدت يدها تربت على كتفها برفق.
تطلعت إليها عزة بشيء من الحزن ثم أشارت إلى جاسر قائلة : أما هو فأنا والحق يقال أحسده بعض الشيء. فمتى نظرت إليه وجدته ضاحكا مستبشرا كأنه لم يحمل يوما هما بين جنبيه.
قالت ميسون : لا أعتقد أن هناك قلبا خاليا في هذا العالم
أجابت عزة و هي تهز كتفيها :
- لا أستطيع أن أتصور أن حياته كانت قاسية
- أعتقد يا عزة أن جاسر من النوع الذي لا يحمل هما بطبعه ، إنه من النوع الذي قد يستقبل المصائب برأس مرفوع و فم مبتسم.
سكتت و هي تراه يتجه نحوهما يتبعه الطفلان. عندما وصل تمدد على الأرض و قال لاهثا : يا إلاهي ، لم أعتقد أن الجري وراء الأطفال متعب إلى هذا الحد ، أتصدقان أنه أجهدني أكثر مما يفعل التدرب مع عاصم !
التفت إليهما و قال و هو يبتسم ابتسامة واسعة : فلتقم إحداكما لتجري وراء المتمردين و لتظل الأخرى بجانبي لتؤنسني.
قامت عزة واقفة و نفضت الغبار عن ثوبها ثم أخذت الطفلين و ابتعدت دون أن تلتفت. قالت له ميسون لائمة : فلتعلم يا ابن أبي جاسر أن أسلوبك الصريح الجريء قد لا تستسيغه النساء.
أجابها ممازحا : و لكنك لا تمانعين ، أليس كذلك؟
نظرت له بحزم و قالت له بجدية : افهم مني هذا يا ابن أبي جاسر لأني لن أكرره ثانية ، أنا لست من النساء
فغر فاه دهشة لكنها واصلت بنفس الحزم : أنت ترى امرأة أمامك غير أنك عندما تعاملني فستجد رجلا . فقلبي قلب رجل ، و عقلي عقل رجل و كلمتي أفضل من كلمة الكثير من الرجال. أخبرني أرأيت رجلا يحب أن يُتغزل به؟
لما أومأ بالرفض واصلت قائلة : و أنا كذلك تماما ، أمقت كلمات الغزل و العشق و ما إلى ذلك. فإذا أردت صداقتي عاملني كرجل.
قال و هو ما يزال غير مستوعب تماما لكلامها : سيدتي ميسون ، من العسير علي أن أخاطبك بما أخاطب به الرجال و أنا أرى وجهك الصبوح أمامي.
قالت له ببساطة : إذن فلتغض بصرك عندما تخاطبني
صمت قليلا ثم قال بلهجة تحمل الكثير من التسلية : سيدتي ميسون ، في حال وافقت على أن تكوني زوجتي ، هل ستظلين رجلا بعد الزواج ؟
ابتسمت رغما عنها و قالت بصوت حاولت أن يكون حازما : لكل مقام مقال
صمتت قليلا ثم قالت وهي تدعي اللامبالاة : قلت أنك تتدرب مع عاصم، فعم تتدربان بالظبط ؟
أجابها متثائبا : كل ما يخطر على بالك و ما قد لا يخطر : مبارزة بالسيوف، رمي بالنبال، جميع أنواع المصارعة
قالت بنفس اللامبالاة : و لم تتدربان؟ أعني ما الداعي؟
اتكأ على مرفقيه و حدق فيها بدهشة : يبدو أنك لا تعلمين أي شيء عن عاصم أليس كذلك؟
أجابته و هي تهز كتفيها : و لم قد يحدثني عنه ؟ فنحن أغراب ، ألسنا كذلك؟
قال باحتجاج : و لكنكما رفيقا سفر، لو كنت مكان عاصم أسافر معك منذ نيف و عشرين يوما لكنت الآن تعرفين أسماء جميع أفراد قبيلتي فردا فردا.
قالت وهي تشرد بنظرها : بالتأكد أنت أدرى بابن عمتك مني، فهو على النقيض منك تماما حتى أني أستغرب كيف يعقل أن تسري في عروقكما دماء القرابة!
نظر جاسر إلى السماء و قال آسفا : أعلم ذلك. فعاصم في الغالب ليس لطيفا مع النساء. لكن لا يستطيع المرء أن يلومه فالجفاء لم يكن أبدا من شيمه ، لكن بسبب ما حصل معه. لقد عاش أوقاتا صعبة للغاية و أعتقد أنك لا تعرفين شيئا عنها طبعا.
أجابت بصدق : أنا لا أعلم إلا ما أخبرتنا إياه عزة : أعلم أنه تزوج فتاة من مدينتي و أنه أخذها لتقيم معه و أنها بعد سنوات قليلة جاءت لزيارة بيت أهلها و معها ابنتها و ما لبثت قليلا حتى مرضت و ماتت و أنه حين أتى عاصم لأخذ طفلته رفض أهلها إعطاءه إياها رفضا قاطعا لذلك اظطر لخطفها منهم.
تردد جاسر للحظات ثم قال : القصة الحقيقية هي أنها عندما أتت بيت أهلها لم تستأذنه. الحقيقة هي أنها ذهبت إليهم هاربة.
سألته و هي في غاية الحيرة و الاستغراب : كيف ؟ أولم يستطع اللحاق بها و هو على ما هو عليه من مهارة في ركوب الخيل؟!
أجاب ساخرا وصوته يحمل شيئا من المرارة : أو لا تسمعين عن كيد النساء؟ لا أحد يعرف تماما كيف خططت و لكن خطتها كانت شديدة الإحكام . انتظرت إلى حين خرج عاصم في أحد أسفاره ثم استأذنت في أن تحل ضيفة على إحدى صديقاتها من أعيان مدينتنا. أوصلها والد عاصم بنفسه على أن يعود لها بعد أسبوع و لكنها كانت قد أخبرت صديقتها في ذات الوقت أنها لن تقيم عندها سوى ثلاثة أيام. و في نهايتهم جاءتها عربة و غادرت إلى الأبد ، لم يرها أحد بعد ذلك اليوم.
و هكذا حين علم حموها بالأمر كانت قد سبقته بأربع أيام سفر و لم يستطع اللحاق بها. وحين عاد عاصم من سفره و أحاطوه علما كاد المسكين أن يفقد رشده. لم يسترح و لو للحظة ، انطلق على جواده كالمجنون دون أن يأخذ معه أي شيء: لا زاد و لا مال و لا حتى سيفه الذي لا يكاد يفارقه.
تنهد و واصل حديثه قائلا : من حسن الحظ أني كنت موجودا فلحقته آخذا معي جميع ما قد نحتاجه.
عندما وصلنا حصل ما تعرفينه : رفض أبوها رفضا تاما أن يدعه يرى الطفلة حتى عن بعد. و لم يكن باستطاعتنا فعل أي شيء ففقد كانت زوجته بين ظهراني أهلها و معارفها و كنا نحن الاثنين غريبين عن المدينة. ظللت مع عاصم ثلاثين ليلة بالتمام و الكمال.
أغمض عينيه كأنما ليستحضر ذلك الوقت الذي مضى ثم قال بشيء من الحزن : كانت أمر أيام عشتها في حياتي .نفذ فيها مالنا و زادنا و اظطررنا لنعمل أي شيء و كل شيء. و أخيرا استسلم عاصم و قرر الرحيل حتى يفكر في حل أجدى.
أما بالنسبة لزوجته فقد وافتها المنية بعد رحيلنا بأيام قليلة و من حينها و عاصم لم يفتأ يفكر و يخطط حتى يستعيد ابنته.
التفت إليها و هو يقول مبررا : لقد عانى الكثير الكثير و كل ذلك بسبب زوجته لذلك فقد كره النساء جميعا . لو بدا لك جافا غليظ الطبع فبسبب ما مر به . المحنة التي عاشها جعلته صلبا قاسيا لكنه في الواقع من أطيب الرجال و أحسنهم معشرا.
رأى الحزن يعتلي ملامح ميسون الرقيقة فسألها بعطف : يبدو أنه كان قاسيا جدا معك أليس كذلك؟
ابتسمت ميسون ابتسامة خفيفة و قالت دون أن تنظر إليه : بلى كان كذلك و لكني فهمت كل شيء الآن و الحق أني أعذره تماما.
ثم التفتت إليه متسائلة و علامات الحيرة على وجهها : الشيء الذي لم أفهمه هو كيف استطاعت الهرب لوحدها فالمسافة بعيدة جدا
عقدت حاجبيها و هي تنتظر إجابته و لما طال صمته حتى كادت تقوم من مجلسها أجابها ببطء : كانت هناك قافلة مغادرة و يبدو أنها اتفقت معهم سرا و دفعت لهم ليأخذوها معهم.
لم تقتنع تماما و لكنها لم تلح و سألته مغيرة الموضوع : لم تخبرني حتى الآن لماذا تتدربان سوية؟
أجابها مبتسما : مع أنه يقال أن الفضول مذموم إلا أني أحب كل شيء فيك حتى فضولك.
كشرت في وجهه فقال ضاحكا : رويدك علي يا سيدتي ميسون ، مهلك علي. نحن نتدرب لأن هذا هو عمل عاصم ، إنه يعمل مدربا للرجال على فنون القتال و هو كذلك يجيد الحدادة فيصنع السيوف و الخناجر و الأسهم. لذلك فهو كثير السفر ليبتضع و ليبيع ما يصنع. هذا هو كل ما في الأمر . و الآن أرجوك فلتناوليني بعض الطعام فأنا أكاد أهلك جوعا. و لا أعتقد أنك يرضيك هلاكي
ابتسمت ميسون و أسرعت بوضع الطعام الذي أحضروه معهم ثم قامت تنادي عزة و الطفلين ليشاركوهما.
بعد الأكل ، تمدد جاسر تحت شجرة بعيدة عنهم و سرعان ما غفى. و ظلت عزة جالسة لتستريح قليلا بينما أخذت ميسون الطفلين في جولة على ظهر فرسها.
حين عادت ، وجدت جاسر وعزة يتجاذبان أطراف الحديث فابتسمت مفكرة : " يا للماكر ، لقد عرف كيف يخرجها من قوقعتها"
ما إن وصلت إليهما حتى قالت باحتجاج : لقد حان دوركما الآن، فأن أريد قليلا من الوقت حتى أخلد هذا المنظر الساحر على أوراقي
ما إن ابتعدوا حتى تخيرت موقعا مناسبا. وضعت لوحها على صخرة مسطحة و ركعت على ركبتيها بجانبها ثم انغمست في رسم هذا لجمال الذي تغلغل حتى أعماقها.
كانت غارقة تماما في رسمتها ، تظبط خطوطها ، أشكالها و ألوانها فلم تشعر بوقع جواد عاصم و هو يقترب، و لا سمعته حين ترجل و بدأ يخطو نحوها و لا أحست بوجوده خلفها إلا حين امتد ضله على أوراقها. التفتت برفق و هي ترفع عينيها بفضول فالتقت بعيني عاصم.
اتصلت نظراتهما و قرأت في عينيه رسائل أبلغ من أي كلام ، رأت عشقا وهياما و استعطافا وشوقا جارفا.
عندما أخفضت نظرها أخيرا قال لها بصوته العميق : ما أبدع رسوماتك يا ميسون
سألته بصوت خافت : هل أعجبتك حقا؟
قال و عيناه مسلطتان على وجهها : بلى أعجبتني ، أعجبتني كثيرا و فوق ما تتصورين
احمر وجهها خجلا و قامت واقفة . مدت له الرسمة و هي تقول له بصوت رصين : إذا فهي لك.
تناولها منها و هو يبتسم لها بدفء و قال لها : أفهم من هذا أنك لم تعودي غاضبة مني؟
تذكرت فجأة كل شيء فعقدت حاجبيها و زمت شفتيها و قالت بسرعة : بلى مازلت غاضبة ، غير أني كنت قد نسيت
أخذت في الابتعاد قائلة له بهدوء : لكنك تستطيع الاحتفاظ بالرسمة
في لمح البصر وجدت جسده الضخم يسد الطريق أمامها.
نظرت له بتساؤل صامت ، فقال لها : ميسون لقد لحقتكم لأعتذر منك و لن أبرح مكاني حتى تصفحي عني.
تناهى إلى سمعها أصوات رفاقها آتين متوجهين نحوهم فقالت له بسرعة و هي تنظر إليه معاتبة : سأصفح عنك هذه المرة شرط ألا تعيد اتهاماتك لي . و إن عدت فلا كلام لك معي أبدا.
ابتسم راضيا ثم وقف بجانبها ينتظران قدوم الآخرين. ظل يتأمل جانب وجهها بإعجاب و بالكاد أرغم نفسه على النظر بعيدا عند اقتراب جاسر و عزة.
كان الطفلان يترنحان من التعب حتى أنهما ما إن صعدا على ظهور الخيل حتى غلبهما النعاس. انطلقت ميسون مسرعة و عزة خلفها على الفرس بينما تمهل الرجلان كي لا يزعجا الطفلين في نومهما.
بعد فترة التفت جاسر إلى عاصم وقال له بمرح : أتعرف فيم أفكر يا ابن العمة ؟
- خيرا ؟ سأله بذهن شارد
أجابه ضاحكا : كنت أفكر كم أنها محظوظة هذه الفرس و هي تحمل على صهوتها اثنتين من أجمل النساء يا ليتني كنت ..
قاطعه عاصم بصرامة : صه ! لا تكمل ، أنت تعلم جيدا أني أبغض مثل هذا الحديث
تراجع جاسر قائلا : رويدك علي يا ابن العمة أنا أمزح لا أكثر
نظر إليه عاصم بعينيه القويتين و وبخه قائلا : كثيرا ما أودى المزاح بالرجال إلى المهالك
سكت الشاب قليلا ثم قال بصوت جاد : صدقني يا ابن العمة ، أنا لا أقصد سوءًا أ شرا ، بل أريدك أن تعلم أني خطبت ميسون لنفسي و أني أنتظر ردها علي.
ما إن أكمل كلامه حتى اربدّ وجه عاصم و قست ملامحه. لم يغب التغير الذي طرأ على رفيقه و لم يفته مغزاه كذلك . تردد قليلا ثم سأله و هو ينظر إليه بجانب عينيه : لعل لك فيها حاجة يا ابن العمة ؟
أجابه عاصم بالصمت المطبق فأطرق برأسه أسفا. كان رغم مزاحه المتواصل و مرحه الدائم قد أعجب صادقا بميسون و بدأ يهيم بحبها بالفعل. لكنه رغم شعوره بوخز مؤلم في قلبه قال متصنعا المرح :
- أتعلم شيئا يا ابن العمة ، بعد تفكير أعتقد أن ميسون لا تناسبني فهي صعبة الطباع ، ما بالها عزة جميلة ، ليّنة و ذات حياء. هل ترى أن أطلب يدها أم لعلك ...؟
انفرجت أسارير عاصم أخيرا و سارع قائلا بصوت لا يخفي ارتياحه : سأخطبها لك بنفسي إن أردت.انتهى الفصل