الفصل السابع

305 11 0
                                    

الفصل السابع هل تخضع يا قلب ؟

لم تعرف ميسون كم لبثت في الظلام حين استيقظت على صوت بكاء مربيتها و الطفلين. ظلت برهة غير قادرة على الحراك و لكنها كانت تسمع ما يدور بوضوح. كانت مربيتها تقول بصوت باك : بنيتي الحبيبة كدت تهلكين من التعب و لم تنبسي بكلمة شكوى واحدة و أخيرا خانك جسدك. هيا استيقظي يا ابنتي و لا تحيرينا معك.
سمعت أخاها يقول بين شهقاته : قولي لها أن لا تموت هي الأخرى وتتركني وحيدا
استجمعت ما تبقى من قواها و همست باسمه فأسرع يعانقها و يمطرها تقبيلا وهو يقول بسعادة : أنت مازلت حية، مازلت حية
قالت و هي تبتسم بصعوبة : ذكي كعهدي بك
رأت وجه مربيتها ينحني عليها و هي تحمد الله على سلامتها ثم سألتها إن كانت تحتاج شيئا ما.
- فقط شربة ماء ، أجابتها بوهن
بعدما شربت ظلت مربيتها تمسح بيدها الدافئة على جبينها البارد ثم استأذنت منها قائلة : بنيتي سأذهب الآن لأطمئن عاصم وعزة فهما في غاية الانشغال عليك. هل تحتاجين شيئا آخر؟؟
هزت رأسها نافية فانطلقت المرأة لتبلغ الآخرين باستيقاظها.
بعد قليل سمعت لغطا بجانب العربة تم ما لبثت أن دخلت عزة عليها. لاحظت الانزعاج الصادق على وجهها فكرت في سرها " إنها تغار مني بلا شك ، لكنها على الأقل لا تتمنى لي الموت."
سألتها الفتاة عن حالها فطمأنتها و هي تبتسم لها ابتسامة رقيقة. سألتها إن كانت تحتاج إلى شيء فلما نفت خرجت و خرج الطفلان معها.
بعد لحظات دخل عليها عاصم. لاحظت رغم جلوسه أن جسده القوي ملأ العربة. لم تجرؤ على النظر في عينيه ، خشيت ألا تجد ما تتوقعه من قلق عليها و تصدم بالجفاء ، بالقسوة أو ربما الغضب ، فهو رجل لا يمكنها توقع ردة فعله.
ساد صمت شبه ملموس بينهما قطعه أخيرا و هو يقول بصوت أجش لا يكاد يخفي انفعاله : كيف أنت الآن؟
أجابته بتهذيب : أفضل و الحمد لله
عاد الصمت ليخيم عليهما قبل أن يقول لها بخفوت : ألن تنظري إلي؟؟
مال نحوها قليلا ثم أضاف بصوت دافئ : هل أنت غاضبة مني ؟؟
رفعت عينيها إليه ببطء فقابلت نظراته الملتهبة ، ابتلعت ريقها بصعوبة و أجابته بصوت هامس : لست بغاضبة منك
سألها بحنان و هو لا يكف عن التحديق فيها : هل أنت واثقة
ابتسمت بخجل و هي تجيبه بصوت مرتجف : ربما قليلا
مال نحوها أكثر و هو يسألها بلهفة : أخبريني كيف أراضيك؟
طغى عليها الحياء فأخفضت عينيها و لم تنبس ببنت شفة. شعرت بعينيه تكادان تلتهمان وجهها فكست حمرة الخجل خديها و شعرت بالدفء يجتاح قلبها و جسدها. و تواصل الكلام الصامت بينهما لم يقطعه إلا دخول الطفلين عليهما.
ما إن ترجل عاصم من العربة حتى أطل عليها قائلا بصوت حاول أن يكون حازما : ستسافرين من هنا فصاعدا في العربة مع البقية. ستنامين الليلة مع المرأتين و سينام الطفلان معي خارجا.
فتحت شفتيها لتعترض لكنه قاطعها بحزم : و لا أريد أي اعتراض منك
قالت باستسلام : كما تشاء إذن
.............................................
كانت عزة تعيش أسوأ لحظاتها. فقد تيقنت تماما أن عاصم يذوب عشقا في ميسون.
- كلها مسألة وقت ، تمتمت محدثة نفسها
عندما أغمي على ميسون و سمع صرخة المربية، نسي عاصم كل شيء عن رصانته و جاء راكضا و على وجهه علامات القلق البالغ. عندما رأى مسون بين يدي مربيتها كانت تبدو أقرب للموت منها للحياة ، بدت بشرتها بيضاء تماما كأنما خلت من الدماء.
انحنى قربها و رفع معصمها ليجس نبضها ، كان ضعيفا حتى أنه بالكاد استشعره . وضع يده على جبينها و خديها فوجدهما باردين تماما. شعر بالفزع يملأ قلبه و امتقع وجهه، لكنه تمالك نفسه خاصة أنه الرجل الوحيد بينهم.
كان قد رأى رجالا يصابون بهذه الحالة بعد إجهاد كبير في التدريبات أو حين يصاب أحدهم و ينزف كثيرا. رأى البعض يلقى مصرعه، أغمض عينيه ليطرد الفكرة ثم أمرهم أن يحظروا وسادتين و قام برفع قدميها ليضعهما أعلى من مستوى رأسها. التفت إلى مربيتها ليسألها عم إذا كانت أكلت جيدا فلما أجابت بالنفي أمر عزة أن تحضر القليل من الماء المُحلّى ، فتح شفتي الفتاة شبه الميتة و بدأ يسقيها ببطء لكن معظم الماء كان يسيل من جانب فمها. عندما رأت مربيتها هذا المشهد تعالى نحيبها و بدأ الطفلان يشركانها العويل.
كان هذا أقوى من احتماله تماما فأخذ يصرخ فيهم فاقدا رباطة جأشه : اذهبوا جميعا، ابتعدوا ، أريدكم أن تختفوا من أمام ناظري.
عندما لم يبادروا بالتحرك صرخ فيهم بصوت أفزعهم : الآآآآآآن
عندما غادروا التفت إلى الشابة و واصل يسقيها بصبر. ظل يسند رأسها قليلا ثم مددها على الأرض و أخذ يدعك جبينها و كفيها و هو يخاطب جسدها اللاواعي : تعسا لي ، أنا السبب في ما أنت فيه. حملتك أكثر مما تطيقين. خمسة عشر ليلة و أنت تسافرين راكبة، لم ألق بالا إلى كونك امرأة و إلى ضعف بنيتك و إلى الإرهاق البادي على وجهك و جسدك.
أمسك معصمها الرقيق متأملا إياه بإشفاق ثم ضرب جبينه مرتين بكف يده و هو يردد بحنق : تعسا الي، تعسا لي
تنهد بعمق و قال محدثا نفسه : تمالك نفسك يا رجل ، لن تنقذ الفتاة و أنت تولول كالنساء
بدأ في القيام بالخطوات التي اعتاد أن يفعلها عند إغماء أحد رجاله. نزع عنه عباءته و لفها بها جيدا حتى يدفئها. ثم أمال رأسها للخلف ، رفع ذقنها للأعلي ، وضع يده يستشعر أنفاسها و ظل يلاحظ حركة صدرها. شعر ببعض الاطمئنان حين بدأ شيء من اللون يسري في وجهها و كفيها. بعد قليل أصبح تنفسها شبه عادي فتنهد بارتياح لتجاوزها الخطر. قام بحمل جسدها الغائب عن الوعي بين ذراعيه واتجه بها إلى العربة. ما إن اقترب حتى تجمع الجميع حوله يسألون عن حالها. أمرهم بالانتظار ثم دخل و أرقدها و غطاها بنفسه و لم يخرج إلا حين اطمأن ثانية على انتظام أنفاسها.
- لا تقلقوا، قال لهم بهدوء، ستكون بخير إن شاء الله و الآن اتركوها تستريح فهي نائمة.
ثم غادرهم مسرعا، ترددت عزه قليلا ثم لحقته. ما إن أحس بها خلفه حتى التفت إليها قائلا بضيق واضح : خيرا يا عزة، ما حاجتك؟
تألمت لتكلمه معها بتلك الطريقة و لكنها قالت أول كذبة خطرت ببالها : الحق يا عاصم أن الزهراء خافت كثيرا عندما رأت منظر ميسون و هي تفقد الوعي . إنها تشعر باظطراب شديد و لم أستطع أن أسري عنها
سكتت قليلا ثم أضافت بصوت ناعم : ربما تحتاجك أنت والدها
زفر عاصم و هو يجيبها بضجر : الحق يا عزة أني لست في حال تسمح لي أن أسري على أحد
قالت تلومه : حتى ابنتك؟ ابنتك التي طالما انتظرت حتى تراها، ابنتك التي...
قاطعها متأففا : كفاك يا عزة ، كفاك لوما فأنا لا أطيقه. أخبرتك أني لا أستطيع فلتذهبي إليها ولتحاولي ثانية
ثم أضاف بحدة : و الآن أريد أن أترك و شأني و أسرع يمتطى جواده ليجول به في الأنحاء.
تذكرت عزة حالته حينها و قارنت بينها و بين ما هو عليه الآن من ارتياح ظاهر و سعادة بادية.
في الوقت القصير الذي قضته ميسون غائبة عن الوعي، تأكدت عزة بما لا يدعو للشك من قوة مشاعر عاصم و شدة تأججها.
تمتمت لنفسها بحرقة و هي تراه يداعب الطفلين بمرح " يا لسوء حظك يا فتاة، يا لخيبتك و خيبة مسعاك"
ظلت طوال الليل تحترق بلهيب الغيرة. كانت تنام قليلا و تستيقظ على فكرة واحدة " ينبغي علي فعل شيء ما كي أبعدها عن تفكيره ،انا التي عرفته أولا و لن أتركه لها "
في الغد أتاهم عاصم بعد انتهائهم من الغداء، و خاطب ميسون برفق قائلا : ميسون أريد أن أكلمك في أمر ما.
رفعت هذه الأخيرة عينيها إليه متسائلة فقال بنبرة تحمل بعض الحزم : أريد منكم أنتم الثلاثة أن ترافقوني إلى وجهتي. و هذا أمر و ليس طلبا لأني لا أنوي ترككم في مكان أجهله و تجهلونه.
قالت ميسون و ابتسامتها الرقيقة تضيء وجهها : ما دام أمرا فهل بوسعنا الرفض؟
نظر إليها عاصم بوله لم يخف على عزة و أجاب بصوت دافيء : كلا ، ليس بوسعكم
صفق الطفلان جذلا و أمسك يدي بعضهما البعض و أخذا يتقافزان. أما المربية فلم يفتها ما بدا واضحا لكل ذي عينين و بدت في غاية الرضا و السعادة.
الوحيدة التي شعرت أنها تغرد خارج السرب كانت عزة و لكنها كانت قد عقدت العزم على فعل ما تنوي فعله.

انتهى الفصل

رواية الرحيل اليه لكاتبة نغم الغروبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن