الفصل الثامن

286 9 0
                                    

الفصل الثامن كَيدُها

استغلت عزة فرصة تواجدها مع المربية على انفراد و قالت لها و هي ترسم على وجهها ابتسامة مشرقة : لو تدرين يا خالة ما أشد سعادتي ببقائكم معنا ، هكذا تستطيعون أن تحضروا زفافي إلى عاصم.
حدقت فيها المرأة المسنة باستغراب و سألتها غير مصدقة : أنت و عاصم ستتزوجان؟!
أجابتها بثقة : و هل تصدقين يا خالة أني كنت لأرضى مرافقة رجل غريب في سفره لمدة ثلاثين ليلة لولا أنه وعدني بالزواج؟
سألتها المرأة الأكبر سنا بلا شك : و لم لم تخبرينا من قبل؟
كانت عزة قد جهزت إجابة لكل سؤال فقالت دون تردد : الحق أن عاصم أوصاني بكتمان الأمر حتى نصل مدينته و يأنس أهله بي. فأنت تعلمين أني ابنة خالة زوجته الأولى لذلك لم يشأ أن يصدمهم حتى يثقوا أن طباعي ليست كطباعها فهي لم تترك لديهم أثرا طيبا.
أضافت و هي تبتسم ابتسامة واسعة : لكني لم أعد أستطيع إخفاء الأمر عنك فأنت يا خالة تحدبين علي و كأني ابنتك. ثم إني أثق أنك لن تنقلي كلامي إلى أحد.
ابتسمت لها المرأة بحنان و قالت لها بصدق : أتمنى لك السعادة يا ابنتي مع من اختاره قلبك.
شدت الفتاة على يديها و هي تنظر إليها في مودة ثم غادرتها وهي تشعر بمزيج من الانتصار و القلق.
أما عاصم فقد بدا شديد الحرص على على ميسون و صحتها . كان يراقبها عن كثب و لا يتركها تجهد نفسها. حتى أنه نهر الطفلين بصوت صلب : لا تطلبا من ميسون اللعب معكما و تنهكا قواها بالجري وراءكما . يجب أن تفهما أنها بحاجة للراحة المطلقة لبضعة أيام أخرى
أضاف و هو يُبرّق لهما عينيه : لا تجعلاني أعيد قولي هذا مرة أخرى و الآن اجريا و هاتا عزة من مكانها ترافقكما في لهوكما.
التفت إلى ميسون و أمرها مترفقا : كفاك يا ميسون فلتذهبي لترتاحي الآن
قالت معترضة : و لكني أشعر أني بخير!
قال يسخر منها بلطف : ألا تجيدين سوى الاعتراض؟
أجابته و هي تنظر له في عينيه : بل أجيد تقديم فروض الطاعة أيضا.
ثم أولته ظهرها و ذهبت لتنضم لمربيتها. أما عاصم فقد استظل تحت إحدى الأشجار و عكف يصنع بخنجره سيفين خشبيين للطفلين. كان بين الفينة و الفينة يجد نفسه مرغما على النظر ناحية ميسون و في مرتين أو ثلاث تعانقت نظراتهما فقرأ في عينيها رسالة واضحة دلته أنها تبادله شوقا بشوق و توقا بتوق.
تنهد بعمق وقال محدثا نفسه بحيرة : و الآن يا رجل خبرني ما هذا الذي أنت فيه؟ كيف تركت الأمر يصل بك إلى هذه الحال؟ ما الذي بوسعي أن أفعله الآن؟
………………………………………
بدت ميسون لمربيتها مشغولة البال، شاردة الخاطر حتى أنها كانت تظطر لإعادة السؤال مرات عديدة كي تظفر منها بجواب. عقدت المرأة حاجبيها وهي تنظر إلى الفتاة مستغربة أمرها. عرفتها دائما رصينة ، قوية ، شديدة في وجه المصائب و المحن. لكنها الآن تكاد تنكر منها أكثر مما تعرف. حقا مازالت بنفس الطبع اللطيف و نفس الحديث الهادئ و لكن شتان ما بين الفتاة الصلبة ذات النظرات المتوقدة التي كانتها و بين هذه الفتاة المهتزة ذات النظرات الذاهلة و الكلمات التائهة. حدثت نفسها بغم "أخشى عليك يا ابنتي أن تكوني عاشقة"
و كأنما لتؤكد لها ظنها التفتت إليها ميسون قائلة بصوت مرتبك :
- خالتي جميلة كيف ترين عاصم؟
حدقت المرأة في عيني الشابة كأنما لتسجوبها لكن هذه الأخيرة هربت بنظراتها منها. أجابتها بصدق :
أراه رجلا غير كل الرجال، صادق الوعد، كريم ذات اليد ، عفيف النفس عزيزها ، قوي جلد، زاهد في ملذات الدنيا ، إضافة إلى أنه طيب المعشر و حسن الخلق ، يحنو على الصغير و يوقر الكبير.
الحق يا بنيتي أني لم أكن لأختار لك أفضل منه زوجا. لكان نعم الرجل لنعم الفتاة لولا أنه...
و سكتت عن الكلام فألحت عليها ميسون سائلة : لولا أنه ماذا يا خالتي؟ لولا أنه ماذا ؟
ترددت المرأة قليلا ثم قالت بأسف : لولا أنه وعد عزة بالزواج منها ، و أنا أعلم أنك ترفضين تماما أن يكون لك ضرة.
رددت ميسون بذهول : وعد عزة بالزواج؟! و لكن ولكن…. ضاعت منها الكلمات فلجأت للصمت.
حدثتها مربيتها بما كان بينها و بين عزة. أُسقط في يد ميسون تماما و بدا لها أن كثيرا من تصرفاته أضحت مفهومة في ظل هذا الواقع الجديد. لهذا كانت عزة دائمة اللحاق به و لذلك كان هو يعاملها منذ البداية بلطف و رفق زائد. لذلك كان يتظاهر بالنفور منها هي و لم يسعى إلى طلب ودها على عكس معظم الرجال الذين عرفتهم.
قاطعت مربيتها سيل أفكارها قائلة : لو أنك فقط تغيرين موقفك يا بنيتي ، لو تقبلين بعزة شريكة لك فيه. كل النساء يقبلن و كل الرجال يفعلونه.
قالت ميسون بحسم : أبي لم يفعل و أمي لم تكن لتقبل و أنا ابنتهما قلبا و قالبا.
سكتت قليلا لتضيف بصوت يحمل رنة حزن : و على العموم فهذا حديث سابق لأوانه فعاصم لم يعرض علي الزواج و لا حتى لمح لي بذلك.
قالت مربيتها بثقة مطلقة : آه يا بنيتي سيفعل سيفعل بالتأكيد فالرجل عاشق متيم بحبك.
ابتسمت ابتسامة واهنة و هي تقول : و هل تعرفين الكثير عن العشق يا خالة؟
أجابتها بسرعة : أعرف ما يكفي لأؤكد لك أن الرجل يهيم بك حبا. أنت لم تري حاله حين أغمي عليك ، كان كالمجنون تماما.
" هذا لا يدل على شيء ، حدثت ميسون نفسها ، كان سيقلق على أي أحد فينا فهو يعتبر نفسه مسؤولا عنا و عن سلامتنا"
كانت واثقة من إعجابه بها و لكنها لم تكن لتعرف هل شعوره نحوها هو حب بحق أم مجرد هوى عابر. و ما دام لم يطلب منها الزواج فلا تستطيع التأكد من شيء.
التزمت الصمت تماما و لم تخرج منه إلا حين أتى الطفلان و بدأا في الثرثرة.
………………………………………
ما إن فارقها الطفلان حتى ذهبت عزة لتنضم إلى عاصم كعادتها. كانت ميسون تراقبهما و هي تتظاهر باللعب مع الطفلين. أما عزة التي كانت واعية تماما لهذه المراقبة فقد بادرت عاصم بالقول : لكم شعرت بالسعادة و الراحة حين قرروا أن يكملوا معنا طريقنا. الحق أني تعلقت بهم كثيرا و أصبحت لا أكاد أطيق فراقهم.
تمتم عاصم موافقا و هو منكب على السيفين و قد أوشك أن ينتهي من صنعهما. أما عزة فقد أكملت بصوت يشوبه بعض القلق : أنا فقط مشغولة البال على ميسون.
رفع عاصم رأسه و سألها باهتمام : ما بال ميسون ؟ ما الذي يقلقك بشأنها؟
قالت و هي تعقد ما بين حاجيها : الحق أني أخشى عليها أن لا تستلذ العيش هناك. أنا شبه واثقة أنها سرعان ما ستشعر بالسأم و الضجر. فتاة ثرية مثلها، منذ نعومة أظفارها و هي ترتع في مباهج الحياة وتسافر من مكان إلى مكان أتظن حقا أنها ستطيق الاستقرار بمدينتك، لا أكاد أتصور ذلك.
و ختمت كلامها بتنهدة عميقة. أما عاصم فقد قطب جبينه و أطرق برأسه. كلماتها فتحت جرحا عميقا لم يندمل. هل تراه أخطأ هذه المرة أيضا، هل سيظل يكرر نفس الغلطة طوال حياته؟
نهض واقفا بعجلة و هو يشعر أنه متبرم بالدنيا و ما فيها . وقفت عزة لوقوفه و بادرته قائلة بحرج و هي مطرقة الرأس : عاصم أود أن أطلب منك شيئا و لكني و لكني
قاطعها قائلا بنفاذ صبر : أوجزي يا عزة و لا تطيلي
قالت بسرعة : كنت أريد القليل من المال حتى أشتري بعض الأشياء التي أحتاجها.
شعر عاصم بالأسف من أجلها و مد يده إلى خصره ليعطيها ما تريد.
و لكنها أوقفته قائلة : ليس هكذا، ليس هنا ، فالجميع يرانا . لننزوي قليلا خلف إحدى الأشجار و تعطيني ما أحتاجه.
تنهد عاصم و تبعها في صمت.
كانت ميسون قد رأت ما حدث و أولته بالظبط كما أرادت لها عزة أن تأوله ، ضاقت بها الدنيا بما رحبت فأسرعت تفر بهمومها إلى العربة.

انتهى الفصل

رواية الرحيل اليه لكاتبة نغم الغروبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن