-1-

39 9 5
                                    

تريدُ أن تُغير حياتك، أُريدُ هذا أيضاً، كلنا كذلك، ولكن.. أين السبيل إلى ذلك؟
لم أكن يوماً أحلمُ أن أحفظ القرآن بل في الحقيقة لم يكن ضمن أولوياتي ولأكون أكثر صدقاً لم أكن مهتمة بل ربما أكثر من ذلك.. بصراحة كانت فكرة حفظ القرآن قاتلة وخانقة!
والدتي حفظها الله -وحفظ لكم أمهاتكم وأحبابكم- لا تحفظ الكثير من القرآن، تحفظ جزء عم وتبارك ربما وبعض الآيات كآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وسورة الحشر، سورة يس، الرحمن، الواقعة والكهف، أي ما نردده ونحتاجه يومياً أو أسبوعياً، فهمتم ما أعنيه. تربّت أُمي في بيئة منفتحة، الدين فيها هو دينُ المجتمع، دين العادات والتقاليد، التنانير القصيرة والجوارب النسائية الطويلة الرقيقة، غطاءٌ يغطي فقط نصف الشعر نرتديه داخل البلد وعندما نسافر نخلعه، لا بأس في الاختلاط والحب والالتزام بالصلاة بعد سن الأربعين ربما، ولكن أمي لم تكن مرتاحة لكل ذلك، منذ صغرها كانت مختلفة عن أهلها، تبحث عن الحقيقة، تؤمن بقلبها وعقلها، لا تحكمها فقط العادات والتقاليد، وعلى هذا النهج سارت وربتنا.
منذ الصغر أُمي تركض وراءنا : "صلي، صلي، هل صليتَ؟ هل صليتِ؟ اذهب إلى المسجد، احفظي القرآن، لما لا تسمعون الكلام؟ تمنيتُ لو أن أحد والداي لحقني لأداء عباداتي كما ألحقكم."
كان هذا مستفزاً جداً بالنسبة لي، كنتُ أكذب دائماً.
والدي حفظه الله - وحفظ لكم آبائكم وأحبابكم- من عائلة متدينة ولكنها متزمتة وذو عقلية قديمة، تمجد الذكر وتبخع الأنثى عكس عائلة والدتي التي تحب كل جنس حواء، ولكن والدي كان مختلفاً، رقيقُ القلب، لا يحب الرعونة، حكيم وعاقل، يريد أن يكون مختلفاً لا يريد أن يكون مثل عائلته، حيث لا فائدة من تعلم الأنثى لأنها أنثى، ولا طائل من العيش دون زواج، والدي تمرّد على كل هذا لحظة زواجه من والدتي.
أبي كان أسوأ من أمي بتذكيره لنا فكان يتبع أسلوبيّ الترغيب والترهيب، نوبّخ إن فاتتنا صلاة، نُضرَبُ إن كذبنا، وقد لا يتحدث إلينا لفترة قد تصل إلى أسبوع، وهل يردعنا هذا؟! بالطبع لا.
كنتُ أُفكر دائماً لما يتكبدّان هذا العناء؟ لما يحملان واجباتنا الدينية على عاتقهما؟
وبحكم أنّي أوسط إخوتي كنتُ أكثرهم غرابة، وجُرأةً ربما، وصل بي الحال بأن أقول لوالداي أني لا أرغب بالصلاة ولا أداء العبادات، لا أُحبُّها ولا أفهم لما ديننا صعبٌ هكذا، خمس صلوات تحتاج إلى وضوء وقِبلة وملابس صلاة، صوم شهر كامل ثم أعيادٌ مقيتة ونرغم على الفرح بها، كتاب يجب علينا قراءته باستمرار ويُفضّل أن نحفظه، 600 صفحة لما كل هذا العناء؟؟! قلتُ لهم بصراحة ووضوح دون خوف أني لا أُريد الصلاة، ولا توقظاني لصلاة الفجر، فهذا مزعج جداً، يحلو النوم في هذا الوقت، ولا تقولا لي ألا أسمع الأغاني، في الحقيقة كنت أسمعها صبح مساء، الميتل والروك الثقيل كنتُ أحبهما جداً، أُدَخِنُ منذ الصغر، فعلتُ ما يحلو لي وجربتُ كل شيء تقريباً، ودارت بي الأيام حتى وجدت نفسي في حوض الاستحمام أحاول قطع شراييني، كرهتُ نفسي، كرهت الناس حولي، لا أنتمي لهذا المكان.. لا أنتمي له.. أردتُ طريق جهنم، لأن الله أعطاني حياة لم أطلبها منه، أنا لم اختر ما تم اختياره لي.. فلما سيُحاسبني الله على ما اختاره لي؟!
كنتُ بارّةً بوالداي -حسب قولهما- بارّةً لهما بعيداً عن ما أفعله في ديني، في نظري لم يكن ديني شيئاً يخصهما، وفيما عدى ذلك فهما عندي قبل كل شيء.
قصة محاولة انتحاري لم تكن الأخيرة للأسف، ولكنني جبانة ربما، فاكتفيت بشق جلدي دون محاولتي قتل نفسي، كنت أشق يدي وأخيطها بإبرةٍ عادية وخيطٍ ملون، أغلي ماءً وأنقع يدي حتى تتخدر، أُطفئ أعواد ثقابٍ في جسدي، كرهتُ نفسي كُرهاً جمّا.
لم يكن ذنب والداي أني مُختلةٌ وغير سوية، لم يكن ذنبهما مطلقاً، وكنتُ أُعذِّبُ نفسي لأنني لا أستحقهما ولا أستحق هذه الحياة، أردتُ إعادتها لخالقها فأنا لم أطلبها ولا أحتاجها، وهنا حاولت الانتحار مجدداً ولكن هذه المرة كانت صادقة، وبالفعل جهزت كل شيء ولكن أذنَّ المؤذن لصلاة المغرب، وذكرت هذه القصة كثيراً وسأظل أذكرها حتى تتعلموا منها، توقفت لوهلة عند سماع الأذان، لا أعلم لما يبدو كل شيء خاطئ عندما تفعل خطأً أو حراماً وتسمع الأذان، وقتها تعطل مكبر الصوت في المسجد في منتصف الأذان فأعاد المؤذن الأذان ومجدداً تعطل وأعاده ومرةً أخرى، ثلاث مرات يومها سمعت أذان المغرب وكنت قبلها أبكي راجيةً أن يرحمني الله ويتلطف بي ويرسل لي آية، آية تقلب حالي، آية تثبت لي أنه خلقنا لأمرٍ ما حقاً، آيةً يثلج صدري بها بأنه يحبني أو يهتم لأمري حقاً كإله.. هذا ما رجوته من الله أن يريني آية حبه، وهذه كانت الآية!
تركتُ كل شيء من يدي توضأت وأحسنت الوضوء وصليتُ صلاةً غسل الله بها كل هذا السواد، بكيتُ وبكيت شعرتُ بقوة الله وحبّه، شعرت بألوهيته، أحببتُ ما شعرت به آن ذاك.
وعقب تلك الحادثة نزلت إلى المسجد وبدأت الحفظ لوحدي، وكان أصعب قرار أخذته في حياتي وأجمل ما حدث لي يوماً!

يُتبع...

طريق سماوي (النسخة الثانية)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن