المعلمة خولة كانت لينة ولطيفة في حلقتها بعض العربيات والكثير من "الأعاجم" - كما كانوا يسمونهم في المسجد- وهم من جنسيات مختلفة هنديات، باكستانيات، نيباليات وصوماليات وبعض السريلنكيات والإندونيسيات في حلقة المعلمة خولة كنا فقط عربيات وهنديات، كنت أقضي وقتي لوحدي أو مع الهنديات بحكم أننا ملزمات بالمكوث في المسجد ساعة على الأقل، كنتُ أذهب باكراً أُصلي تحية المسجد وأُجهز طاولة المعلمة والكرسي الذي ستجلس عليه وأجلس أنا على الأرض أنتظرها.
أُمي كانت دائماً تنهاني عن الجلوس على الأرض في المسجد دائماً ما تطلب مني أن أجلس على الكرسي حتى لا تعلق أي حشرات في ملابسي وأنقلها للمنزل كالبّق وبعض الحشرات الأُخرى، كم أجد هذا محزناً لأنه حقيقي كان مظهر المسجد يفطر قلبي، الأحذية مبعثرة على عتبته في كل مكان، رائحة رطوبة تفوح من السجاد، حشرات ونمل وبّق، ولكن مع ذلك كنت أجلس على الأرض فأنا لا أستوعب مطلقاً إن جلست على الكرسي، معدل ذكائي يهبط إلى النصف عندما أجلس على الكُرسي في المسجد وكنت بغناً عن انعتاهٍ فوق انعتاهي الطبيعي، حين أجلس على الكرسي يشرد ذهني، وأُفكر بأسماء أحفادي، وأَعُدُّ زوايا الزخرفة الإسلامية المُحيطة بالمحراب، كما أني أعدُّ خطوط السجاد وأَحسب كم شخص يستطيع الوقوف في كل خط، وهل تراقبنا الأقمار الصناعية الآن أم لا، هل يوجد كاميرات في المسجد؟، وغيرها الكثير من الأفكار التي لا تخطر على بالي إلا إن جلست على كرسي، لذلك كنت دائماً على الأرض، وإن صادفت حشرةً على السجاد أهرع إلى المنزل أخلع كل ثيابي وأضعها في كيس بلاستيكي وأستحم بماء ساخنة ومن ثم أقوم بنفض ثيابي خارج المنزل وأضعها في الغسيل، قصة طويلة وإجراءات احترازية عجيبة.
الهنديات كُنَّ مقربات إلي أكثر بكثير من العربيات، كن يجلسن معي ويتحدثن فقط فيما يخص القرآن، يسألنني بعض الأسئلة، يطلبن مني أن أُسَّمِعَ لهن، قد يعلمنني بعض الكلمات الهندية، ورغم فارق السن بيننا إلا أنهن احترمنني جداً لكوني عربية وكنتُ أُقدِّرُ ذلك بشدة وأخجل من نفسي أمامهن، أما العربيات فقد أرهقنني من أمري عُسراً.
حدث مرةً وغابت المعلمة خولة، وكانت المعلمة عندما تغيب تخبر الجميع إلا طالباتها حتى لا نغيب وننقطع عن الحلقة، وعندما غابت المعلمة خولة واجتمعن الطالبات في حلقتي توجهت إلينا المُشرفة وقالت " فُلانة ستكون هي المعلمة اليوم، لذا أرجو من الباقيات أن يكن متعاونات ويراجعن محفوظهن معاً ويتوجهن إليها لِتُسَمِّع لهن" ومن كانت هذه الفُلانة؟ صحيح، كانت أنا. توترت وتلونت وضاق صدري، أنا! أنا سأُعوض غياب المعلمة؟! لم يعجب هذا العربيات في حلقتي فبدأن بالاحتجاج على هذا القرار بقولهن " إنها جديدة، وأصغرنا، ونحن في أجزاء متقدمة عنها فكيف لها أن تكون هي التي ستجلس مكان المعلمة؟؟!"
المُشرفة شخصيتها قوية جداً كنا نخاف منها جميعاً لم تخُض معهن هذا الجدال فقط قالت لهن "فُلانة يعني فُلانة، وإن لم ترغبن بذلك فلا بأس اذهبن إلي بيوتكن"، الهنديات كن سعيدات بذلك، جلسن أمامي واحدة تلو أخرى، عيناي تُقاومان الدموع، أذاقني الله طعم هذا العز، وحلاوة هذا المكان، كانت كل هندية تمسك يدي مبتسمة تدعو لي وتتشكرني، واساني هذا كثيراً وشرح صدري، إلى أن جلست أمامي عربية، أزاحت كُرسيّها قليلاً فلم يكن وجهها مقابل وجهي بل فقط طرف وجهها، وقالت لي " أتيتي آخر الناس وأصبحتي الآن معلمتنا! أرى أنه حتى في المساجد يوجد تمييز، كان يجب أن تكون فُلانة مكانك" قلت لها: " تفضلي فُلانة بسم الله الرحمن الرحيم.." وناديتها باسمها لم أقل لها خالة أو أم فلان، وعشت دور المعلمة، ولكنني كنت استحي أن أُصحح لهن، عندما أُصحح لهن يمتعضن، وإن لم أُصحح لهن يقمن بمُهاجمتي أني غير كفؤ ولم أُلاحظ الخطأ. حزنت جداً يومها شعرت كما تشعر الشخصيات التي يُرمى عليها البيض والطماطم ولكني فعلتُ ما أُمِرتُ أن أفعله وعندما انتهيت وذهب الجميع نادتني المشرفة وقالت لي" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى، فلا تحزني ولا تهتمي، اخترتكِ لسببٍ في نفسي، ولم اختر منهن لأني أعرفهن جيداً"، ابتسمت وذهبت للمنزل ومن بعد هذا الموقف، أصبحتُ أكثر انطوائيةً في المسجد، وأصبحن يتعمدن الجلوس بجانبي منهن من تقبلني ومنهن من استمر بمحاولة إيذائي بشكلٍ أو بآخر.
أنت تقرأ
طريق سماوي (النسخة الثانية)
Spiritualيتناول هذا الكتاب المشقة والصعوبات التي قد نواجهها عندما نختار الطريق الصحيح، وكم أنه من الصعب علينا البدء بالسير في طريقٍ سماوي. في كتابي هذا سأحكي لكم قصتي مع حفظ القرآن الكريم وبداية مشواري نحو نفسٍ أسمى وأنظف. الكتاب لا يمت للنسخة الأولى بصلة،...