-4-

23 4 6
                                    

تركت المسجد بسبب كل ما حدث معي، لم أتوقع أن تكون بيئة المسجد ذاك أكثر بيئة مسمومة تعرّضتُ لها، توقفت عن الذهاب للمسجد وظننت وقتها أنه بإمكاني الحفظ لوحدي، ولكن للأسف مع الوقت توقفت عن الحفظ أيضاً وحصلت على وظيفة وبالتالي هجرت القرآن تقريباً.

تواصلت معي مُعلمة القرآن "مريم" كما وتواصلت معي المشرفة ولكنّي أضعت كُل الفُرَص، وأعتقد أني إلى الآن أُعاقبُ على قراري ذاك.. توظفت لمدة ثلاث سنوات وكانت بيئة عملي وضيعةً كريهة، كنت أتسائل دوماً لما يضعني الله في هذه الأجواء؟! ليس اعتراضاً ولا قنوطاً ولكن فقط أشعر بالفضول كطالبٍ يقرأ منهاجه لأول مرة، لما تجربتي في المسجد تختلف عن بقية الفتيات في عمري؟ لما تجربتي في العمل كانت مقيتةً هكذا؟ وهذا ليس حُكمي بل قول كل من عاش معي تجاربي هذه، يستغربون ويضحكون حقاً شرُّ البلية ما يُضحك! البعض وصفني بصاحبة الحظ القليل أو العَثر، إلا أني أشعر بأني محظوظة جداً وأشعر أن الله يحبني، لا قيمة في الحياة إن لم أُجربها بكل ما فيها والله يعلم أني راضية، رأيتُ الكثير الكثير ومرَّ عليَّ الكثير من القصص التي لا تُصدّق والكثير من الناس الدنيئة، مشيتُ بوكر الأفاعي وجربت لدغات العقارب، ورأيتُ كيف تهدم العناكب بيوتها بنفسها، وكيف تتلون الحرباء لتنفد بجلدها، وياااه ماذا عشت وماذا رأت هاتان العينان ويا الله كم أشعر بالسعادة والرضى لأن الله نجاني من كل هذه كأني بطلةُ هذا الفيلم.

بالطبع لكل شيء ثمنه؛ وثمن هجري للقرآن كان غالياً جداً، كنت أبكي على خسارتي، وألوم نفسي، وأسأل الله دائماً بخوفٍ ألا يستبدلني، وكنتُ كلما حاولت النهوض مجدداً واكمال حفظي تراجعت أكثر وأكثر، حتى بات الحفظ أمراً ميئوساً منه.

قررت العودة للمسجد ولكن بالطبع ليس نفس المسجد ولكن لم يدم الأمر طويلاً، أعتقد أني ذهبت للمسجد الجديد لمدة شهر أو شهران وكنت أذهب في الفترة المسائية بحكم دوام وظيفتي الذي كان يمنعني من الذهاب صباحاً، وفي هذا الشهر تسببت بعدة مشكلات لم يكن لها أي داعٍ ولا سبب منطقي لهذه الحوادث وسوء الفهم، ووضعت كل لَومي هذه المرة على مُعلمتي الجديدة، كانت شديدة جداً، وأنا بطبعي لا أحبذ الأشخاص الذين يقسون عليك ليخرجون -بزعمهم- أفضل ما فيك، هذه المعلمة كانت تضغط علي بشكل لا يُطاق، تُقارنني بغيري، ترفض أعذاري، تقول لي أن العمل ليس عُذراً، وتريد مني أن أُراجع كل يوم جزئين مع حفظٍ جديد، وكنت أقول لها أن عملي مُتعب بعض الشيء وأن هذه الكمية كبيرة جداً، وشرحت لها أنني تركت الحفظ لفترة طويلة وصعبٌ علي جداً هذه العودة القوية، لم تكن منطقية أبداً، وكنت أُحَضِّرُ خمس صفحات كمراجعة بشق الأنفُس، وكانت في كل مرة تنظر إليَّ نظرةَ الخائب، تهز رأسها يميناً ويساراً، تقول لي مراراً أنها كمية قليلة وتردد على مسامعي أنني إذا بقيتُ على هذه الحال فمتى سأصل؟! تقول أنني متساهلة متراخية وأنني لست جادة ولا أُحاول حتى، كانت كلماتها تشعرني بحزن شديد.. هناك فرق كبير لا بل فجوة كبيرة بينها وبين معلمتي "مريم".

وبسبب هذا الضغط تركت المسجد والقرآن مجدداً وشعرت أن حسرتي زادت، وحُزني زاد، وكل ما بداخلي لم يعد صحيحاً كما كان، وشعرت أني زِدتُ عقابي عقاباً.. وبدأت الحياة تتخبطني أكثر بكثير مما كانت عليه، غيرنا سكننا وتغير كل شيء بي، أصدقاء جدد، سهر، أخرج مع صديقاتي بشكل شبه يومي، لا أستيقظ على صلاة الفجر، أقضي صلاتي وقد لا أُصلّي، لأ أُصدّق متى يحين ذلك الوقت من الشهر حتى أتخلى عن عباداتي، والرقص والأغاني والمقاهي والشيشة، الغيبة والنميمة والتبذير، اختلطت بالكثير من الأفاعي والعقارب والعناكب وأظن أني أتحول إلى حرباء!

لقد تخليت عما أحياني، وبدوره تخلى عني..

يُتبع..

طريق سماوي (النسخة الثانية)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن