الفصل الأول

131 3 4
                                    

شارفت الساعة على التاسعة مساء، أغلقت دفتر ملاحظاتي، وثبّت نظراتي نحو عقرب الثواني الذي يطرق زائرا عتبة كل رقم غير منتظر أي استجابة، بينما عقرب الدقائق يسير على مهل كأنه كهل قضم الدهر من عمره، وهو يقف حائرا بين تمام الساعة أو أن يسرق منها خمس دقائق، على أمل أن تعطيه فرصة للبقاء على قيد الحياة قبل تجديد دورته لينشئ حياة جديدة، أو ربما جديدة غير منصفة في وصف سلسلة الإعادة الرتيبة التي يقوم بها بين كل ساعة وساعة. ربما هذا العقرب قد سئم من إعادة دورة حياته بروتينها الممل ذاته، وربما كان يتساءل ماذا لو بقيت على مشارف البدء بدورة جديدة ومن ثم لا أبدأ؟ لماذا علي تكرار هذه الخطوات باستمرار؟

كانت هذه التساؤلات تصدح بها مخيلتي بينما أفكر في دورة حياة البشر الكئيبة، نولد لنشاهد أنفسنا نهرم ونموت ويأتي من بعدنا من يكمل السلسلة بالاستراتيجية ذاتها، لا جديد...

إنها لحظات كهذه تشعرني بالوحدة، فتعلق تلك الأفكار النمطية في مخيلتي، لأبدأ معها دورة أخرى من حديث الذات المحبط. من المحتمل أن دراستي لاختبار علم النفس القادم هو ما دب كل هذه الشحنات السلبية في ذاتي.

كانت السماء ملبدة بالغيوم وكأنها توشك أن تُهطل علينا مسلسلا ملحميا من تصارع حبات المطر...

تثاءبت بثقل، ثم بدأت أتساءل بنفاد صبر غير محتمل، أين يمكن أن تكون فرح حتى الآن؟ لقد خرجت لشراء بعض الحاجيات دون علم أحد، وإن اكتشف أي من رجال الحراسة، الذين يتناوبون على حراسة السكن، خروجها في هذا الوقت، وقتها سنقع في ورطة.

أقيم مع صديقتي فرح في سكن للطالبات تابع للجامعة يبعد عنها مقدار شارعين. اختار والداي هذا السكن بالذات بسبب رقابتهم الشديدة، وحرصهم على عدم تواجد أي أنثى خارج المبنى بعد الساعة السابعة، وإلا سيتم الاتصال بذويها. بالإضافة لقانونهم المشدد على عدم ولوج الشبان إلى المبنى كائنا من يكون.

أُدرجت هذه القوانين الصارمة عقب مهزلة قامت بها بعض الطالبات منذ سنين مضت فتم تجريح سمعة الجامعة والسكن التابع لها بسببهن، لذا حرصت عمادة الجامعة على تكثيف الحراسة على الفتيات ليلا وتشديد العقوبات لمن تخالف الأوامر.

لكن ما أعلمه أنا وما تعلمه فرح أن هذه القوانين قد تم شحنها في بضائع مهترئة ونقلها في عرض البحر، ذلك لأن الفئة القائمة على حراسة السكن مهملون بكل النواحي، فما أن تبدأ مناوبة أحدهم حتى ينشغل بمتابعة مواقع كرة القدم على هاتفه أو الشاشة المعلقة في البهو، أو أنه يغرق في سبات كدب احتمى من برودة الشتاء فألقى على جسده تعويذة النوم الموسمي.

تمنيت أن تعود فرح بسرعة قبل أن تستسلم السماء لوعدها الوشيك. كل مرة تتأخر فيها عن العودة إلى الشقة أدخل في دوامة جديدة من التخيلات المرعبة، كأن تُمسك بالجرم المشهود أو يتم اختطافها من قبل أحد، أو أن تصاب بحادث لا قدر الله.....

زائر في كبد الليلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن