مقدّمة

219 25 10
                                    


ضغطت على هاتفي لأحدق نحو شاشته مجددًا، كانت الساعة تشير للسادسة صباحًا ليوم الإثنين، السابع والعشرين من يوليو، للعام ألفين ومئة واثنين وعشرين.
مضى خمسة عشر يومًا منذ اعتقال أبي من المنزل.

جلست  أمي على سجادة الصلاة منذ ما قبل صلاة الفجر وحتى بعد الشروق، راقبتها خلسة من شق باب الغرفة المفتوح، كانت تبتهل وتتضرع لله بأن ينجي أبي ويعيده لنا سليمًا معافى.

لم يغمض لي جفن في تلك الليلة، مكثت في الصالة مترقبًا الخبر بصبر نافذ، وانشغلت سلوى بغلي الشاي وتجهيز الإفطار لنا رغم أن لا أحد كانت لديه الشهية للأكل.
حبس أحمد نفسه في حجرتنا لكي لا نرى دموعه، ربما أنبأه حدسهُ السّيء بأن ثمة شيئًا سيحدث ويُزعزع حياتنا للأبد.
إرتفع صوت طَرقاتٍ ثلاث، على الباب لأنهض مسرعًا، تركت سلوى المطبخ، وخرج أحمد من الحجرة مُحمرّ العينين متأهبًا، بينما غادرت والدتنا الغرفة ومصلاها، شاحبة ومرهقة، متوشحةً بعباءة الصلاة المرقطة والوشاح العريض، ويمناها ممسكة بالقلادة الذهبية التي لا تخلعها أبدًا، التي أخبرتنا بأنها كانت هدية لها من أبينا قبل ولادتنا بسنوات طويلة.

«اذهب يا شهاب لترى من الطارق، وأنتما تعاليا».

أومأتُ لأمي مرّة، وألقيتُ نظرةً على سلوى وأحمد لأتأكد من أنهما قد ذهبا بجوار أمي تحسبًا للأسوأ، ثم وجّهتُ بصري للأمام وقطعت الصالة والرواق الضيق المفضي لباب منزلنا العتيق.
شعرتُ بقلبي يخفِق بعنف، يكاد يخرج من قفصه. وضعتُ يدي على صدري أستعيذُ بالله من الهواجس، تنفستُ بعمق، حتى لو تم أخذ أبي للسجن عنوةً، لا بدّ أن يكونَ ثمة خطأ ما، أبي رجلٌ طيبٌ القلب، ولم يؤذِ أحدًا قط بل ساعد كثيرًا من المرضى في الوحدة الصحية الصغيرة التي كان يعمل فيها. لطالما إلتزمَ بالقوانين، دفعَ الضرائب بانتظام، و لم تكن أموالنا قد انخفضت للحد الأدنى لتَتم معاقبتنا.

فتحتُ الباب بابتسامةٍ صغيرة، وأبصرتُ الضابط مُراد بزي الشرطةِ الأزرق. كان شابًا طيبًا يكبرني بخمس سنوات، ولطالما أثنت أمي على أخلاقه. بدا وجهه جامدًا على غير العادة و لم يبادلني الابتسام كما دأب. خلع قبعة الشرطة ليمكث حاسرًا. ومنكسًا رأسهُ للحظات، ثم ألقى نظرةً خاطفةً على مجموعةِ أوراقٍ تحملها يمناه. حين أعادَ بصرهُ نحوي، لمحتُ لمعةً في عينيهِ سرعان ما رف جفنيهِ بضعة مرات لإزالتها.

ألقيتُ نظرةً خاطفةً لرجُليّ الشرطةِ اليافعَين الذَين وقفا خلفه، يحملان صندوقًا خشبيًا كبيرًا.
رطّب الضابط مراد حلقه، وقال برسميّة:
«هذه عريضةٌ من الشرطة، يجب أن توقّع عليها بما أنك أكبر أبناء السيد رِفعت محمد.
من فضلك، قُم بالتوقيع على الإستلام».

سألتُ متوجسًا وألقيتُ نظراتٍ خاطفةً على الصندوق:

«أيّ إستلام؟»

زخّاتُ صوبٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن