كانتْ نظراته مسمّرة في نقطة على وجهي، ظننتُ لوهلة أنه قد غاص في سديم معتم من فرط تفكيره أو بالأحرى لانعقاد لسانه عن البوح عما يخفيه.
توالت ثوان من الصمت حسبتها ساعات لشدة التوتر الذي ساد بيننا؛ العيون تلتقي في سكون مهيب، القلوب تنبض بعنف في الصدور، وأنامل شلت عن الحركة قبل أن تلمس في الطعام المنضود. لكن سرعان ما قطعه والدي بقوله:
«يجب أن تجد عملاً بسرعة وإلا سيأخذونك للتجنيد، قد رآك الضابط مراد اليوم بجانب البحيرة، وأنت تعلم أن أعمالك بالقبو ليست سوى هواية لكن إخفاء تلك الكتب والأوراق، وتلك العينات من أبحاثك السخيفة ستودي بنا للهلاك جميعاً».
تأملتُ وجه أبي مَليًا للحظات، وبنبرةٍ تشوبها لمسة من الألم والأمل في ذاتِ الوقت استطرد حديثه:
«لتعلم يا بني أن أقدارنا مكتوبة، نعم هي كذلك منذ أن ولدنا؛ تظن حينًا أن الحياة ليست بعادلة ولكن كل شيء مؤجل لوقته المناسب؛ لطالما أردتُ منذ نعومة أظافري أن أكون ذاك الطبيب الذي يداوي للناس جروحهم وآلامهم، أن أكون ذاك سبباً بإذن الله في شفائهم، وأنْ أمدّ يديّ للخير وأساعد الضعفاء والمساكين في بيئة أفضل، وأسمى، وأرقى بكثير من مستوانا هذا.
شهاب إن الحياة لا تسير هكذا فبشكل أو بآخر نحن محكوم علينا بالإعدام من الحرية ومن الحياة الإنسانية المتساوية، لا تبني آمالا عالية فلعلها ليست لك وقد تكون عندها نهايتك».
تمعنتُ ملياً في تلك الوجوه الشاحبة، وأكاد أقسم أنهم قد رأوا شبحا ما لأنهم بالفعل قد أدركوا مغزى حديث والدي؛ بالفعل نحن في الطبقة الثانية ولا توجد عقوبة لسكان هذه الطبقة سوى فرض الغرامات التي تقسم الظهور، التعفن في السجون البالية، والأشد، التعذيب ثم الإعدام لمحاولات التمرد فضلا عن خفض رتبة عائلة المحكوم بالإعدام. طأطأتُ رأسي قليلاً لأفكر، فباغتَتني والدتي الجالسة بقربي، محتضنةً بكفّيها الباردتان يدي المنصوبة على المائدة.
نظرت إليّ وقد اكتست مقلتيها بالدموع قائلة بعتاب:
«ألم تخبرني بأنك ستتخلص من أعمال القبو؟ لمَ تبحث عن المشاكل والموت المحتوم؟ نحن في غنى عن المشاكل وخوفنا الأكبر فقدان أحدنا. يا بني، إنها حقيقة صعبة في الحياة، فهي تخيرك بين فقدان من تحب أو الوقوف أمام قبرك، لا تَستعجل، فقط بالعمل والإيمان يمكنك أن تُحسّن وضعك قليلًا لا أن تغيرهُ جذريًا».
ظلّتْ كلماتُ والدايّ تتردّد كالصدى بقلبي، لم أعقّب على كلامهما قط، إلى أن أصدَر بطن سلوى إشارة على الجوع، فقد مضتْ نصف ساعة على هذا الحديث؛ أخذنا نضحك على الموقف خاصة لمّا زقزقَ بطنُها مرّة أخرى.
أسدلَ الليل سِتارهُ الحالك وعقلي لا زال ينسج خيالات حديثِ والدايّ؛ لطالما آمنتُ بالقدر الذي كتبهُ الله تعالى لنا، وفي كلّ مرة تجرِفني السّنين بعيداً عن كل حلم رسمتُه. نحن في عالم فظيع القوانين، مهمش الحقوق، ومنعدم الحرية بعيش حياة طبيعيةٍ كالجميع في الأعلى، دون اختلاف، إنّنا في الطبقة الثانية محكومون بالعيش في الأجساد الضعيفة الهالكة من شدة الظلم والاستعباد، حياتنا الموبوءة بملايين القرارات قد ركنها التاريخ منذ أزل سحيق، كنا ولا زلنا خاضعين لكينونة قوية مستعبِدة، رغم أنوفنا نكدّ ونقتاتُ ونختلس بين الفينة والأخرى ابتسامات عذبة، لا تنتمي بأي حال من الأحوال لشيء من كل الذي عشناه، لكنها تؤرق عيش الذئاب الضارية.
أنت تقرأ
زخّاتُ صوبٍ
De Todoينطوي الزمن ونحن تحت الأرض نحيا، كما الأموات في رقودهم في القبور، في سلام واستسلام. فالهوّة المفروضة التي بيننا وبين المتنعمين فوق الأرض، قد أنستنا أننا بشر سواسية في الحقوق ورغد العيش، وغيرت ملامح الحياة في أذهان أجيالنا. أثقلت القوانين الصارمة ك...