الفصل الخامساِفْتَرَّ ثغر كوثر لحظة تأكيد والدة إبراهيم لها مع تَعاقَب الدموع على خديها، بأن ما سمعت ما هو إلا الحقيقة بعينها، مُعَبِرَةً فيها عن سعادتها الوليدة من بعد لحظات المعاناة التي قضتها منذ وطأت بقدمها أرض هذا المكان، الذي ما كان منها إلا أن اعتبرته مقبرة أملها الذي كانت تزرعه في نفسها وروحها كنبتة، مُتناسيةً ما مَرَّ عليها من معاناة منذ وفاة إبراهيم، لكن فقدها لكل روح عشقت كالروح التي تستوطن أحشائها، كان سَيُفقِدها آخر ما تمسكت به روحها للبقاء على قيد الحياة أو قيد الرزانة، الذي لرُبما تاه عنها عقلها فورًا لو هيَّ فقدت آخر آمالها بالنجاة من بؤرة الضَلال التي كانت قد تاهت فيها منذ غادرها مالك روحها، لكنها الآن بدأت ترى اضمحلال ذاك الضلال الذي غطى جزءًا من حياتها لا يُستهان به، وها هيَّ ترى بارقة الأمل ببقاء بذرة إبراهيم سليمة لم يطالها شيء، رغم حزنها الساكن بين ثنايا قلبها مما فعلته والدتها بها، إلا أنها الآن مع عودتها لن تدع أمرها بيد أحدٍ منهم ولن تسمح لأحد بأن يقرر عنها، بل ستكون شامخةً كشموخ الجبال الراسيات، تتصدى لكل من يرى بأنها أضعف من أن تواجه، لن تُنكر خطأها وزلتها الوحيدة لكن الله يعلم بأنه شرع وحق، وما كانت لتفعل أو تُخطئ لو لم تكن حليلته أبدًا.
كان يقف أبا محمد خارج غرفة العناية التي يقبع فيها شقيقه، إلى أن خرج عليه الطبيب يُبلغه بأن أبا إبراهيم استيقظ وبدأ بشرح وضعه الحالي له قائلًا:
_ لقد قمنا بافاقته من غيبوبته التي كنا قد وضعناه فيها قسرًا؛ حتى يستعيد عافيته ويستقر وضعه الصحي وهو الآن أفضل من السابق، وقد أُعطيت أوامري حالًا للطاقم الطبي المسؤول عن حالته بأن يتم نقله إلى غرفة عادية؛ حتى يتمكن كل شخص من أهله أن يراه، لكن رجاءً منكم ألا تعرضوه للتوتر أو الضغط كي لا يعود ويسوء وضعه من جديد.
_ شكرًا لك حضرة الطبيب، إن شاء سنقوم بكل ما أمرت به ولن نعرضه لأي ضغط مهما كان.
ما إن انتهى من حديثه، حتى غادر الطبيب تاركًا أبا محمد يتخبّط في شقاء نفسي، لا يعلم فيه كيف له أن يضبط ثوران زوجة أخيه؟! الذي يعلمه حتى لا يسوء وضع شقيقه، كيف له أن يُحافظ على بقاء الأجواء من حوله دون توتر أو ضغط؟! خصوصًا وهو على يقين بأن ما هم فيه لم يُحل إلى الآن، ولا يتوقع منها أن تتقبل الأمر حتى لو كان لأجل زوجها وصحته، بدأ يُفكر هل يأخذ عائلته ويغادر المدينة؟ كي يبتعد عن الجميع ويسمح لابنته بأن تعيش حياتها دون أن يعلم أحد بأمرها، هي كانت متزوجة وسيخبر الجميع ممن سيقابل بذلك الأمر ولديه ما يثبت، سيعطيها الفرصة كي تحيّا من جديد ولرُبما أعطتها الحياة فرصةً أخرى بأن تُكون عائلة مع رجل آخر يتقبل أمر كونها امرأة ثَيِّب، أجل أجل هذا ما استقرت عليه أفكاره وقراره، مع امتلاكه وثيقة زواجها التي ستنقذ ابنته من كل ما قد يطال سمعتها من ضرر، ولم يعلم هو بأن زوجة أخيه الآن تحتوي ضعفها قبل ضعف ابنته، بعد أن اعترفت وأعلنت الأمر بخطئها الذي ارتكبته باتهاماتها المجحفة، بحق كوثر وحقه هو أيضًا، حين اتهمتها بأنها باعت شرفها كأنها تتهمه بأنه قَصَّرَ في تربيته لها، ويشهد الله عليه بأنه ما كان مُقصرًا يومًا، لكنه أعطى ثقته المطلقة لها بناءً على المبادئ التي أنشأها عليها منذ نعومة أظفارها، ولم يعلم بأنها ستضعف بين يدي من أحبت لكنه كان زوجها وكان حقًا لهما أمام الله، أما الفكر العقيم لدى المجتمع وهو ما يخشاه حين تقع ضحيته تحت مقصلة حكمه، تتشابه أحكامه في الجميع فيصبح الحكم واحدًا على من سلمت نفسها تحت رباط الحلال كمن فرطت بنفسها دون رابط، وما كان الفعلان متشابهان أبدًا فأحدهم أحله الله والآخر ما كان سوى فاحشةً وكبيرةً من الكبائر عقابها عند الله عظيم، وتستثنى من كلاهما الضحية التي يُسلب منها أحقيتها في الحياة كغيرها دون وجه حق فما كانت هذه كتلك أبدًا، إلا أن فكرهم العقيم ألبسها ثوب الخطيئة وأنزل عليها تهمة أخرى بأنها السبب، وما كان السبب إلا اندثار الأخلاق والابتعاد عن الدين الذي كان عاصمًا لنا على مر العصور من كل زَلَل.
أنت تقرأ
ما كان له أن يحدّث
Romanceالواقع مُرٌّ كالعلقم، ولو نظرنا حولنا لوجدنا حكايات أليمة تستهلك أرواح ساكنيها من شدة نزف الروح لديهم، فما بالك بفكرٍ عقيم أنتج ضحاياه في كل زُقاق من أروقته، إلى أن وصل إلى عُقر دارك فأنهك منك الروح قبل الجسد، لحظة واحدة تتخلى فيها عن مبادئك لتتوه ف...