حوالي الساعة الثالثة صباحا أعادها ياني إلى المنزل. لم يرافقها روان لأن الكثير من الضيوف لم يبدوا بعد أي استعداد لمغادرة الفيلا لكن قدرتها على الاحتمال نفذت. فكرت هارييت بخيبة أمل قدماي تقتلانني من الألم والحزن يكاد يميتني.
تضمن حفل العشاء عدداً كبيراً من الأصدقاء إذ عاد كونستانتين زاندروس إلى خطته الأولى فزحزحت الطاولات التي وضعت على الشرفة تحت ثقل الطعام الذي يكفي السكان القاطنين على مسافة مائة ميل. هذا ما ظنته هارييت التي كادت تترنح من دوي الضحكات والكلمات المرحة التي هاجمتها من كل صوب بينما ودت لو أنها تختفي داخل حفرة سوداء حيث يمكنها أن تنتحب بصوت مرتفع بسبب ألمها وعدم قدرتها على تصديق ما يحصل لها. رافقها روان من مجموعة إلى أخرى ويده تمسك مرفقها بقوة لاحظت بوضوح ابتسامات الاستحسان الموجهة لهذا الشاب الطويل القامة الذي يبدو قلقاً على زوجته الخجولة. تمتمت بعنف
" هذه قمة النفاق "
" اعتبري الأمر تضحية أخيرة قبل استعادة حريتك... المحنة الأخيرة التي يجب تحملها ".
قالت في سرها بل أن تبدأ المحنة الحقيقية...قضاء بقية حياتي من دونك. آه يا إلهي
مع تقدم السهرة اقترب سيل من الرجال المتقدمين في السن الشديدي الأناقة من هارييت. أخبرها الجميع أن روان صبي رائع وذكي لكنه مع الأسف ولد وحيد لوالد وحيد موضحين لها مهمتها مع ابتسامة لطيفة. أخذت هارييت تتساءل بملل ماذا عساي أجيبهم؟ أأقول أنني أيضاً ابنة وحيدة لكن المرأة التي ستحل محلي قريبا سيكون واجبها الوحيد الإنجاب؟ لاحظت في مرحلة ما أن روان منشغل مع امرأة سمراء أنيقة يبدو الغضب والاعتذار على وجهها وهي تحرك يديها بعنف عندما تتكلم.
بدت هارييت منتبهة لكل من يقترب من روان ويتكلم معه. لم تكف عيناها عن التفتيش عنه بين الحضور بشوق كبير. عندما انضم إليها روان في وقت لاحق أخبرها بإيجاز
" تلك ماريا كريسادس. سمع زوجها الذي تجمعني به بعض الأعمال بما أقدمت عليه إينتيا هذا الصباح فأجبرها على مغادرة منزله دون عودة "
" هل ستصبح منبوذة الجميع الآن؟ "
" لا أدري فهذه المرأة لا تشعر بالتعب أبداً "
أومأ نحو بضعة أشخاص يشقون طريقهم ضاحكين عبر الشرفة بسلسلة خطوات متناغمة وعقدة
" تعالي وارقصي معي "
ترددت هارييت وهي تفكر بمدى قدرتها على تحمل قربه منها قبل أن تنهار.
" لا شكراً لك. . . لا أعرف. . ."
" ذلك أفضل من التخمينات. . . ستأتي كل امرأة متزوجة لتعطيك النصائح عن الغثيان الصباحي "
" ربما يجب أن نعلن الأمر ونوضح أن مستقبل سلالة زاندروس لا يعتمد عليّ "
" لا أحتاج إلى الكلام سيتوضح الأمر قريباً "
ثم أخذ روان يدها وجذبها كي ترقص
" استمعي إلى اللحن وراقبي المرأة ذات الرداء الأصفر هي راقصة جيدة "
أخذت هارييت تتعثر في البداية لكنها تدريجياً ومع إرشاد روان لها بدأت تفهم أسلوب الرقص. عندما انتهت الرقصة صفق لها الجميع بفرح. فكرت بسخرية أنها الليلة نجمة السهرة وغداً منبوذة مثل إينتيا.
بعد ذلك وجدت نفسها ترقص باستمرار لكن ليس مع روان. تمثل الحدث الأبرز في السهرة بوقوف جورجي فلينت ليعلن عن الهدية الحقيقية لحفيدته وهي منزل في الريف الإنكليزي يدعى غريس ميد.
سُمعت الهمهمات المتفاجئة السعيدة عندما ترجمت كلماته وأخذ الحضور يتناقلونها. وقفت هارييت إلى جانبه فاحتضنها بخجل. لطالما خجل جورجي فلينت من إظهار عاطفته للعلن. فكرت هارييت أنه يجدر بها إظهار الامتنان والبهجة لا الحزن والخوف. ذكرت نفسها أنها لطالما أرادت هذا المنزل فلماذا فقد الآن أهميته؟
إن تحولها إلى وريثة غنية رفع أسهمها في نظر الحضور لتصبح جديرة بموقعها كزوجة لروان زاندروس. سرعان ما أحاطت بها مجموعة من السيدات الشابات وكلهن متلهفات لزيارتها لهن لتنأول الغداء لتسوق. . . لاحظت هارييت خيبة أملهن عندما قالت إنها ذاهبة إلى إنكلترا لإجراء بعض الترتيبات بشأن منزلها الجديد. رأت روان يراقبها من الطرف الآخر للشرفة وقد بدت عيناه مظلمتين ووجهه غير معبر.
تذرعت بالتعب لتتمكن من المغادرة لكنها متأكدة من عدم قدرتها على النوم هذه الليلة. بدت غرفتها كئيبة مع هذه الحقائب الموضبة والمصفوفة عند الجدران. تذكرت بألم تلك الليالي التي استلقت خلالها في هذا السرير تؤرقها وحدتها وهي تتساءل عن روان البعيد عنها واستيقاظه لأسباب مختلفة تماماً. فكرت بمرارة كيف أخبرها بلا مبالاة عن رفيقات لياليه. أخذت تجاهد لخلع فستانها ثم رمته في أقرب حقيبة. ربما افترض أنها لا تكترث لكونه يقيم علاقات حميمية مع سواها بينما مزقتها هذه الحقيقة إلى إرب. فكرت بتعاسة أنا من جعلته يعيش كرجل عازب وعليّ تحمل العواقب. هذا يعني أيضاً أنها عادت كما كانت (( العانس الشمطاء )) كما وصفها جون أودلاي أما مستقبلها فعقيم تماما مثل جسدها.
ارتدت ثوب نومها الحريري البنفسجي اللون الذي اشتراه لها روان قبل مغادرتها لندن. شعرت حينها ببعض الخجل عندما رأت الصندوق الملفوف بشريط على سريرها لكنها بالطبع لم تتمكن من الاعتراض على محتواه فشكرته بتكلف وارتدت ذلك الثوب. عقدت الحزام حول خصرها النحيل ثم فتحت الأبواب الزجاجية بهدوء وخطت حافية القدمين إلى الشرفة المحيطة بالمنزل. جلست على أحد الكراسي وأرجعت ظهرها إلى الخلف ثم أخذت تحدق في الظلام. ها هو الهدوء يسود المكان. هناك في فيلا كونستانتين توقفت الموسيقى ورحل الضيوف. انتهى الحفل وسرعان ما سيعود روان إلى المنزل.
قالت لنفسها " يجب أن أعود إلى الداخل وادعي النوم في السرير بدلا من الانتظار هنا متمنية نظرة أخيرة منه "
إنها امرأة في الخامسة والعشرين من عمرها تتلهف لرجل قضى معها ليله واحدة لأنه اعتبر الأمر أحد حقوقه. . . ليلة أيقظت فيها الشغف ثم تركها تكتشف الحب وحدها فيما قرر أن دورها في حياته قد انتهى. عانت هارييت الكثير من تلميحات الضيوف حول إنجاب وريث للعائلة لكنها ما كانت لتنزعج لو أن هناك احتمالا لإنجاب طفل. هذا حزن أضافي ستحمله معها حين تغادر أما غريس ميد المنزل الذي لطالما وصفه جدها بأنه منزل العائلة فستسيطر عليه التعاسة والعزلة.
رفعت كتفها بعناد وذكرت نفسها أن عودتها لن تتميز بالتعاسة المطلقة. سوف تنتظر مولود تيسا.
" هارييت "
أجفلت لسماع صوته وأدركت أنها لم تلاحظ اقترابه منها. وقف روان حاملا حذاءه ورمخيا ربطة عنقه.
" ما الذي تفعلينه هنا؟ "
" يمكنني طرح نفس السؤال عليك. لم أتوقع منك أن تتسلل "
" قررت العودة سيراً على القدمين أما أنت فلديك رحلة غداً ويجب عليك النوم "
قالت هارييت بصمت " لدي سنوات وسنوات للنوم لكن القليل لأقضيه معك "
هزت رأسها وقالت " يمكنني النوم في الطائرة. حالفك الحظ بإيجاد بطاقة سفر في هذا الوقت القصير "
" نحن نملك بعض الأسهم في شركة الطيران هذا ساعدني "
" آه نسيت أنه بحركة من إصبعك. . . يصبح الجميع طوع بنانك "
" لم أجدك يوماً مطيعة عزيزتي هارييت "
ثم تقدم نحو الأبواب الزجاجية
قالت هارييت بتشنج " روان. . . لا تذهب انتظر قليلاً "
" لدي عمل غداً "
" إنه. . . مجرد يوم آخر "
قال روان بتردد " أتريدين شيئا محدداً؟ "
قالت بصمت نعم أنا. . . أنا أريدك. إن كنت سأصل إليك بمجرد عبور الشرفة فهذا ما سأفعله. لكن أصبح بيننا الكثير من الرفض. . . وقد ابتعدت كثيراً. . . كثيراً عني
قالت بتردد " ربما ما زال هناك. . . ما يقال "
" إن كنت تقصدين مسألة الأموال ستجدينني كريما جداً. . . أكرم مما كنت أنت معي "
شهقت قائلة " لا يا إلهي لا لن آخذ فلسا واحداً منك. لدي معارف في بعض الشركات في لندن وانوي أن أعمل "
ساد الصمت للحظة ثم قال روان بلباقة " اسمحي لي أن أتمنى لك الحظ الجيد سيدتي "
تبعته هارييت إلى غرفة النوم المضاءة. قالت في سرها افعلي شيئا. . . قومي بالمجازفة. . . لربما يفهمك
أمسكت كم سترته وقالت بصوت منخفض " لا أريد البقاء وحيدة الليلة ابق معي. . . من فضلك "
نظر روان نحو السرير ثم نحوها. قال بلطف " أنت لا تدركين معنى ما تطلبينه هارييت. جوابي هو لا "
سألت " ألا تريدني؟ "
رفع كتفه قليلاً:
" بلى طبعا لكنني اكتشفت أن ذلك غير كافٍ. . . تصبحين على خير "
ثم دخل وأغلق الباب خلفه. إذا هذه هي الذكرى التي ستلازمها
أبواب تغلق وتبقيها في الخارج. هذه الأبواب لن تفتح مجدداً.
أنت تقرأ
روايات احلام/ عبير: لن ترحل الشمس
Romanceلن ترحل الشمس للكاتبة سارة كريفن الملخص ان لم تتزوجي قبل حلول عيد مولدك الخامس والعشرين ، لن ترثي غرايس ميد. لم يكن أمام هارييت فلينت خيار إلا الرضوخ لمشيئة جدها ، لكي تتمكن من الحصول على منزل العائلة ، لذا اتفقت مع الشاب اليوناني الوسيم روان زاند...