كانت ثلاث سنواتٍ طويلةٍ، مرَّت بطيئةً ومُفعمَةً بمرارة لن تُغادره أبدًا ما حيَا.
لا يعرف جلوان متى بالضبط بدأ بكُره هذا المكان، ولن يعرف أبدًا، لكنه في نقطةِ غفلةٍ ما التفتَ حوله ووجد نفسه يتمنى اختفاءه بكل مَن وما فيه ولا تهُم الطريقة.
كان سكن الطلاب متمركزًا في بُقعةٍ خاصةٍ محاوَطةٍ بحديقةٍ غنّاء داخل المدرسة نفسها، وكان مبنًى كبيرًا من ثلاثة طوابق شاسعةِ الأطراف مكوّنٍ، مصبُوغًا بأبيض باهتٍ، ومنحوتة جدرانه الخارجية بنقوش فاحمةٍ كثيرةٍ لَم يدرك مغزاها يومًا.
الطابَق الأخير للمهاجع وحدها قد خُصِّص، وقبعَت قاعات الدراسة والصالات والقاعات متعددة الاستخدام في الثاني، أما الأول فقد احتلَّته المقاصف وغرف العمال.
وكان جلوان يكره تركيبته وتصميمه كثيرًا، ويكره أجواءه أكثر، لا تُسعفه ذاكرته الشعورية في تذكر شيء يكرهُه أكثر من سكن الطلاب هذا.
على الأرضية الرخامية عند قدميه، تموضعَت حقائبه المملوءة عن آخرها بكل شيء وجده شقيقه في طريقه، كان واقفًا وحيدًا أمام بوابة السكن الرئيسية والتي كانت مفتوحةً على وُسعها في وجهه المُمتعِض.
« ارزقني صبرًا لا ينضب يا إلهي، صبرًا كافيًا لأخرج من هنا بكامل قواي العقلية، أو على الأقل بأعضائي جميعها! »
لَم تكن الكوميديا السوداء شيئًا يجيده جلوان كثيرًا، مع ذلك لَم يمانع إعطاء نفسه بعض الفكاهة قبل الغوص مرةً واحدةً، ولوقت طويل في هاوية تعاسة لن يخرج منها قريبًا.
عدّل تلابيب قميصه الأبيض وانحنى ملتقطًا حقائبه الثقيلة بكلتا يديه، امتصّ نفَسًا عميقًا، أفلَته، ثم، بروح مكدودة ونفْس معرِضة، ولجَ الجحيم كما يحب أن يسميه.
سار جلوان بتؤدة، كدّس أكوام حذر في خطواته الرصينة، وبين كل فينة وأخرى، كان يلتفت في كل الجهات محتاطًا. هنا، في هذا المكان يعيش الإنسان محتضنًا الحذر الممزوج برعب مبين لا يفارقه.
عادةً يكون الطابق الأخير فارغًا، لأن لا أحد يملك ما يفعله هناك أصلًا، عدا شخصًا واحدًا ليس لديه دافع لفعل أي شيء، وفقط يسير في الحياة بلا هدى.
كان جلوان حذرًا كما كان طوال حياته فعليًا، لكن من حيث لا يحتسب وجد مخلوقًا ما يقفز على ظهره من الخلف بقوة فصلَت فقرات عموده الفقري، محيطًا رقبته بذراعه ومصدرًا ضحكةً صاخبةً طويلةً امتدّت إلى أن أسقط جلوان حقائبه أرضًا.
« متى ستملك عقلًا كالخلق يا تيم! »
قلّب جلوان عينيه مستاءً من التصرفات الطفولية التي لَم يغَيِّرها صاحبها مِن يوم عرفه قبل وقت طويل، وبملامح منقبضة وأعصاب مشدودة ظلّ في مكانه واقفًا يسمع قهقهات متقطعة تنبعث من الفتى الذي ما زال يعانقه عمليًا ويجعله يميل ناحيته لفرق الطول بينهما.
أنت تقرأ
دمٌ ولهب
De Todoجشعٌ، تجبرٌ وطغيانٌ أعلاها كما تفاوتٌ سرمديّ ارتدى رداءَ التملقِ وتلحفَ بستارِ مساواةٍ رثٍ توارى في ظلِّ سافلِها الذي جُرِّدَ من أي شيء وكلِّ شيءٍ إلا ظلمٌ، فسوقٌ وكذبٌ تلاهُ عذابٌ يتبعهُ عذاب، شخصَت إليه أبصارٌ لائمةٌ فحُكِمَ عليه بالفناءِ إلى ما ب...