الفصل الرابع: نفوس آبدة

102 20 29
                                    


هدوءٌ عارمٌ قد طغى، كسرهُ نفسٌ منهك صدَرَ منه، هو الواقفُ أمام النافذةِ منها يُطل.

الفوضى التي حصلَت فاجأته، واستنزفَت كمًا هائلًا من قدرةِ تحمله، ثمَّ بالكادِ انتهَت على شبهِ خيرٍ ليعودَ بعدها إلى أحضانِ غرفتِه البائسة، تمتم منزعجًا بينما يتأمّلُ الطلابَ المتبعثرين في الباحةِ الخلفية التي تُطلُّ عليها النافذة بعينين ناعستين استوطنهما عنبرٌ خامل. « عسى يكونُ هذا درسًا قيمًا لتيّم. »

جلوان من كلِّ هذا قد سئم، ودّ لو أنَّه يختفي ويستريحُ فحسب، دومًا ما حذَّر وحذر، أن يمسكَ تيّم لسانَه وإلا في الفوضى والمصائبِ سيقع، ونعم، حصلَ ما توقع.

ما يقضُّ عليه مضجعَه أنَّ تيم ليسَ بشخصٍ يتعظ، إنَّه يخطئ ويخطئ، ويُعاقب، ثم يعودُ ليقعَ في نفسِ الخطأ، والدائرةُ تعيدُ نفسها والكوارثُ لا تخلص. هذه المرة جلوان تواجدَ لأجله، واستطاعَ كبحَ أثال بطريقةٍ أو بأخرى، لكن المرة القادمة؟ لا يضمنُ أنَّه سيقدرُ على التعاملِ مع شخصٍ يجوبُ العالَم حاملًا خنجرًا لذبح من يدنو منه.

هزّ رأسَه مبعثرًا هذه الأفكار، وناحيةَ حقائبه توجّه يُفرغُها مما وضعَ فيها نيار، رغم تنهدِه اليائس من كثرتها، إلا أنَّه باشر في إفراغِها دونَ تذمرٍ منطوق، ألقى نظرةً سريعةً صوب الحقائبِ المتكدسةِ قُرب أحد جوانبِ الغرفة، وتساءل بفضولٍ فعليٍّ عن هذا التوّاقِ للتجوال الذي لا يبالي بتركِ أغراضِه مرميةً هكذا دونَ تنظيم، قبل أن يتجاهلَ الموضوع تمامًا.

« هذا العامُ سيكونُ عصيبًا! » هجسٌ صدرَ منه وفي أفكارِه عادَ ليغرق، وعادت صورة أثال تبرق في ذهنه، شخصٌ ذو مكانةٍ يتجولُ هنا وهناك حاملًا خنجرًا يقطع به عنقَ من يلمسه. « تيّم كانَ على حق، والدُه مريضٌ نفسيٌّ ليضعَه في سكنِ الطلاب!»

تبرُّمٌ عارمٌ غمره جعلَه يغلقُ حقيبته بقوةٍ حتى كادَ يقطع سحّابها، أطلقَ نفسًا وتأمَّل حقائبَه التي فرغَت بالفعل، وناحيةَ فراشه جوارَ النافذةِ توجَّه، غرفةٌ صغيرة، أربعةُ أسرةٍ حوَت، وعلى كلِّ جانب وُضِعَ اثنان فوقَ بعضهما.

السنةُ الماضيةُ كانت مقطونةً بأربعةٍ أحدهم هو، لكن في منتصفِ العام قرَّر ثلاثةٌ الانتقالَ لغرفٍ أخرى فانتهى المطافُ به وحيداً ينتظرُ قدوم شركاءٍ جُدد يتوقع أن يكونوا هاربين من المصحِّ العقلي.

« إلهي ليكونوا طبيعيين! » ترجى، عالمًا أنَّ وجودَ شخصٍ طبيعيِّ في هذا المكان يدنو من كونِه مستحيلًا قُحًّا، لكنَّ هذا ما يجيده، وهذا ما يستطيعُ فعله، الدعاءُ والتمني فقط.

بُتر حبلُ أفكارِه بُغتةً إثر صوتِ تكةِ الباب يُفتح، التفتَ إلى الباب الخشبيِّ الصقيل يتفقدُ من فتحه، اثنان عليهما بصرُه قد وقع، فَتيان طويلَان هما، بخطواتٍ عجولةٍ ولجَا والغيظُ على ملامحِهما طُبع، الشيء الذي جعلَه يعقدُ حاجبيه متعجبًا مما يرى.

دمٌ ولهبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن