الفصل الثاني

883 48 2
                                    

يزفر بضيق من الحر والرائحة التي تثير أنفه وضيقه وسخطه على علاء الذي راسله منذ قليل فلم يجبه فهو غاضب منه ومن تلك السيدة الغبية ومن مكانه هنا بين روث البهائم ، زفر بقوة وهو يتجه خارجا يتحرك ببطء وهو يتأكد من سلاحه الموضوع بجانبه ، ضيق عيناه وأذناه تنصت لحركة خافتة تأتي من جوار الدوار الكبير فيخطو دون صوت وهو يحمل سلاحه بين كفيه وحواسه كلها تترقب وعيناه تمشط المكان ليلمح ظل يتحرك بسرعه فيتبعه بخطواته المتسارعة قبل أن يرفع سلاحه بعدما داعب مقبضه فيتبدل السلاح بسرعة إلى سلاح متطور فيضع عينه من خلف منظار الرؤية الليلية وهو يركض خلف
الظل الذي لاح أمامه ثانيةً فعدى بسرعة ليقترب منه وهم بأن يطلب منه التوقف ولكنه لم يفعل لتلمع عيناه بقرار غاضب وهو يقفز نحو الظل بعدما وضع سلاحه على وضع الإطلاق فيوقع الجسد أرضًا وهو فوقه يضع فوهة المسدس برأسه ويهمس بفحيح غاضب : سلم نفسك
صوت تأوه أنثوي مكتوم صدر من الجسد الذي سقط أسفله ليندفع بسرعة واقفًا وهو ينظر بعينين متسعتين للملثم الذي كُشِف وجهه أمامه ليسأل بعصبية : انتي بتعملي ايه بره الساعة دي يا ست انتي؟!
تحركت بعفوية  تزحف للخلف وهي تعدل الجلباب الرجالي الذي انزاح للخلف فلم يظهر من جسدها شيئًا بسبب ارتدائها للكثير من الأشياء أسفله لتهتف بعصبيه وهي تكتم تأوهها بسبب وقوعها : وانت مالك يا جدع انت ؟! أما عجايب ، تكونشي سجان عليا وأني معرفش.
زم شفتيه بغضب ومض بعينيه فظهر بعتمة الليل ليهدر بزعقة رغم خفوتها ظهر حدتها : قومي ادخلي بيتك يا ست انتي عشان متنرفزش عليكي ، قومي.
انتفضت واقفة لتطيعه بالفعل ليعدل هو من وضع سلاحه ويضعه أسفل ظهره كعادته ويتبعها بخطواته إلى أن أصبحت داخل المنزل ليسألها بهدير حازم : كنتي طالعة ليه وليه لابسة كده؟! عبست بغضب لتجيب بطريقة شعرها طفولية قليلا : طلعت عشان أعدل مجرى الرشاشات .
ومضت عيناه بترقب وردد مستفهماً : الرشاشات ؟!!
هزت رأسها إيجابًا وهي تخلع العمة التي كانت تربطها حول رأسها : إيوة ، رشاشات الغيط أصل طريجة الري هنا جديمة شوية فلازمن أعدلها بذات نفسي وإلا المحصول هيغرج نصه والنص التاني هيجشف .
تغضنت ملامحه بازدراء وردد : يجشف ، حسبي الله بس .
صاحت بتساؤل : بتجول حاجة يا سيدنا البيه ؟!
نفخ أنفاسه كاملة ليهدر فيها بحزم : متطلعيش تاني بليل كدة ومتتحركيش أي حركة من غير ما أبقى عارف فاهمه ، وأبقي فهميني موضوع الرشاشات ده بكرة عشان أبقى أعمله أنا بعد كده .
شبه بسمة ارتسمت على ثغرها لتومئ برأسها في طاعة وهي تدلف للداخل بالفعل قبل أن تطل برأسها عليه بعد لحظات : مشكرين يا سعاة البيه ، هنتعبك معانا .
نظر إليها ببرود ليتمتم بلباقة قلما استخدمها : تعبك راحة يا ست ..
صمت قليلا فابتسمت باتساع : زينب محسوبتك زينب هو علاء بيه مجالكش .
أسبل جفنيه وأومأ برأسه : قالي يا ست زينب .
ابتسمت باتساع لتهتف فجأة : يووه أديك نستني يا سعاة البيه ، استنظرني دجيجة واحدة بس وهاجي تاني .
لم تمهله فرصة أن يجيبها وهي تهرول للداخل فيزفر بقوة ليعاود أدراجه إلى إتجاه الزريبة من جديد ليضع بعضًا من مكعبات القش صانعًا منها مقعد قرر قضاء ليلته عليه لينتبه إلى حركة من خلفه فيستدير سريعًا ليجدها تحمل العديد من الأشياء بين كفيها فيسألها دون أن يحاول مساعدتها فيما تحمله : ايه كل اللي انتي شيلاه ده يا ست انتي ؟!
عبست بضيق لتهتف به : طيب حططني لاول .
تمتم باستياء : أحططك ؟!
نطقت سريعًا : إيوة شيل معايا ياعني زي ما بتجولوا انتم  رفع حاجبيه بتعجب ليقترب منها ينظر إلى ما تحمله بترتيب عشوائي غريب من أول العلبة البلاستيكية المغلقة فلم يستطع أن يفهم ما أهمية وجودها هنا فوق الغطاء القديم الثقيل والوسادة الصغيرة الموضوعة فوقهم فيسألها بجدية : ايه ده يا ست زينب؟!
همهمت من خلف حملها : ده فرشه عشان تنام عليها عايز غطا كمان ؟!
سحب نفسًا عميقًا ليهمهم بجدية : ارجعي بحاجتك يا ست زينب شكرًا انا معايا كيس نوم بس أنا أصلًا مش هنام .
أزاحت الأشياء من أمام وجهها لتسأله بعدم فهم : إزاي ياعني مش عتنام ؟!! في مخلوج معينامشي

سحب نفسًا عميقًا : اه يا ستي إحنا مش بنام في شغلنا وأنا في الشغل دلوقتي .
اهتزت حدقيتها بتعجب لتسأله بجدية : طيب مش مهم النومة خد العلبة فيها واكل عشان انت ماكلتش مع الرجالة .
عبس بضيق ليهتف سريعًا : لا مش جعان ومش هاكل.
تحركت لتضع ما بيديها جانبا في مكان خالي من القش : طيب مش مهم تاكل ولا تنام ، ليك في الجصب ، ضيق عيناه ليجدها تتحرك لتأتي بأعواد قصب كثيرة مجمعة فيما يسمى ب" بشلة القصب " لتفترش الأرض وهي تنطق بحبور- يبجى تاكل جصب معايا ، وأنا جاعدة أسليك وانت صاحي وعشان متنامش برضه وشغلك يبوظ .
اتبعت وهي تبدأ بالفعل في فك القصب وتكسيره بطريقة بدائية : كله فدا مصر .
***
وضعت عود قصب السكر في فمها لتقشره بأسنانها في عنف لتنفخ القشرة بعيدا عن مكانها أمام النار التي أشعلها منذ قليل ليجلس أمامها خارج البيت فيكز على أسنانه قبل أن يغمض عينيه متجاهلاً ازدراءه لتصرفاتها لينتبه على صوتها الذي أتى عاليًا : ألا جولي يا سيدنا البيه، انت متچوز ؟!
التفت إليها ليمتعض وجهه بعفوية حينما عاودت تقشير عود القصب بطريقتها البدائية المقرفة ونفخت بقوة هذه المرة فهتف بضجر حينما شعر بأن بعض القشر المنفوخ أصاب بنطاله : بس يا ستي انتي بس بطلي اللي بتعمليه ده انتي معندكيش سكينة .. مقشرة .. أي حاجة تقشري بيها القصب إلا الطريقة الغريبة دي .
لوت شفتيها بحنق لتجعد ملامحها باستياء قبل أن تجيبه بتلذذ وهي تعاود تقشير القصب بنفس طريقتها : أصل الجصب حلاوته في تجشيره كدهوه يا سيدنا البيه ، يا سلام مجولكش بجى وانت بتحس بين شفاتيرك بعسله وحلاوته كدة مع كل مرة بتجشره فيها .
سيطر على شعور القرف الذي انتابه ليردد : شفاتيري ، أغمض عينيه ليتابع باختناق – حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا علاء الكلب .
هتفت به : بتجول حاچة يا سيدنا البيه .

تنفس بعمق ليجيبها من بين فكيه : لا خالص وانا هجول ايه .
اتسعت ابتسامتها لتهتف بمرح انتابها : إيوة كدهوه فِك يا سيدنا البيه وسيبك من تكتيفتك دهي وخدلك عود جصب مزمز فيه وانت جاعد جاري ،هتفت بها وهي تناوله أحد الأعواد بالفعل لينظر إليها دون رد وصدمته تسكن حدقتيه لتتابع بتساؤل : ولا أجشره لك أني .

هتف حينها بقوة : لا تجشري ايه بس مش عايز أصلًا مبحبش القصب .
لوت شفتيها بحنق لتغمغم بعدم فهم : هو في سخص في الدنيا دهيت مبيحبش الجصب.
هتف بتبرم وهو ينهض واقفًا : أنا يا ستي .
رفعت حاجبيها لتنفخ القشر من فمها متمتمه : أما إنسان غريب والله ، جال مبيحبش الجصب جال ، عجايب.
تحرك مبتعدًا عنها لتسأله عندما رأته يدلف إلى داخل البيت : الله انت رايح فين يا أخينا ، استدار لها بحدة فابتلعت حديثها لتعدله – أجصد ياعني يا سيدنا البيه رايح فين مش انت جولت لي هتجعد مش هتنام عشان شغلك .
مط شفتيه وهمس بضيق : رايح التويلت.
كسى الذهول ملامحها وهتفت بعدم فهم : نعمين متأخذنيش ياعني رايح فين ؟! أصلي مش أخدت بالي وكدهوه.
سحب نفسًا عميقًا ليجيبها ببرود : رايح الحمام مش هو اللي في أول الدوار يا ست زينب ؟! أومأت برأسها إيجابًا فأكمل من بين أسنانه – تأمورنيش بحاجة ؟!
ألقاها بطريقتها الممطوطة التي تتحدث بها لتبتسم بأريحية وتجيبه : ميأمرشي عليك ظالم أبدًا يا سي حسن بيه، أتبعت بعفوية – إلا بجى لو حابب تجاملني ممكن تروي الغيط يعني ؟!
توقف عن الحركة ليستدير إليها هاتفًا : أروي الغيط دلوقتي ليه مش انتي لسه مغيرة طريقة الري يا ست زينب ؟!
أجابته بتلقائية : إيوة بس ده ري بطريجة تانية ، أتبعت وصوتها ينخفض تدريجيًا – يعني عشانك محصور دلوجتي .
اتسعت عيناه بصدمة ليهتف بعدم فهم : انتي عايزاني ا ..
أومأت برأسها لتهتف به وكأنها أم العريف : بيجولوا ده سماد حلو جوي للتربة.
هتف بغضب لمع بعينيه : مين البني آدم المعفن اللي قالك المعلومة المعفنة دي ؟!
حكت رأسها بدهشة : ليه هي مش صح ولا ايه ؟!
هتف بضجر : لا مش صح يا ست زينب وحتى لو صح أنا مش هقف أتنيل في الغيط.
هتفت سريعًا وهي تنهض واقفة بعدما تركت عود القصب من يدها : بعيد الشر عليك يا سيدنا البيه مش تجول عليك كدهوه لأحسن السم تحت اللسان .

تمتم من بين أسنانه بحنق : سمموكي بدري بدري يا بعيدة
***
بعد ثلاثة أيام

يجلس ليلًا شاردًا بعدما أنهى محادثته لرؤسائه يخبرهم بتقريره اليومي كما المعتاد منه ، يخبرهم عن تفكيره ومراقبته التي لم تفسر أي شيء ، بل أنه مشط الدوار الكبير متر متر حتى يجد أي شيء يدل عن وجود الرجل الذي يبحثون عنه ، بل شكه في أن هذه السيدة بأطفالها ما هو إلا تمويه عن الرجل أو شكه فيها شخصيًا لم يسفر عن شيء . يشعر بوجود حلقة مفقودة في تلك الدائرة التي يشعر بأنه قارب على التيه بها ، زم شفتيه ليشعر بحركة قريبة فيضيق عينيه وهو يرمقها تقف أمامه تبتسم ببشاشة كعادتها فيتساءل للمرة الأولى ، كيف لا يشعر بها إلا حينما تصبح أمامه ؟!! كيف سيدة بتلك الجلافة .. العفوية .. العشوائية  لا يستمع إلى هسيس خطواتها ؟! كيف لا يدرك وجودها هو  بكل ترقبه إلا حينما تصبح أمامه بالفعل ؟!!
رمقها مليًا وهو يدير عيناه عليها ببطء فيتذكر ملحوظة علاء عنها ليعبس بضيق ويسبه في سره فينتبه على صوتها الأبح تسأله بترقب : هو أني جيت في وجت مش مناسب ؟!
هز رأسه نافيًا فاقتربت لتمد كفها بطبق الطعام اليومي الذي تحرص على تقديمه له رغم أنه لا يأكله : واكلك يا سعاة البية ، انبي لتاكل يا بيه ، لأحسن أكتر من إكده هتوجع من طولك وساعتها مش هجدر عليك .
تناول الطبق من يدها ليضعه جانبًا فتهتف به في أريحية : مش هتجيد النار ؟!
أغمض عيناه ليسألها وهو ينهض بالفعل يشعل بعض من النيران في أعواد خشب متيبسة : هتاكلي قصب برضه ؟!
ضحكت بخجل وهي تضع طرف وشاحها على فمها بحركة ريفية قديمة : لا ، أصلها ياعني بواخة لما أجعد أكل في الجصب وانت لا ، فجيبت لك حاجة مش هتجول عليها لا .
التفت إليها يناظرها بتعجب فأكملت وابتسامتها تضيء وجهها وعيناها تومض بشقاوة كالأطفال : ديه درة ، ارتفعا حاجبيه لتكمل وهي تقشر الذرة من أوراقه الخضراء – درة طازة من الغيط حدانا هنا .
تفحصها بجدية وعيناه لا تشي بأفكاره فأتبعت بتعجب : إياك مش بتاكل الدرة كمان ؟!!
حمل منها الأكواز التي قشرتها ليجيب بهدوء : لا إزاي بحبه .
تحرك ليحمل زجاجة المياة التي يشرب منها ليغسل الأكواز فتسأله بعدم فهم : هو انت يا حضرة بتعمل ايه ؟!
أجاب بعفوية : بغسله عشان أشويه .
ارتفعا حاجبيها بذهول : هم حداكم بيغسلوه جبل الشوي .
عبس بضيق ليهمهم : لا بس أنا طبعي كده يا ست زينب .
أومأت دون اقتناع لتراقبه وهو يضع أكواز الذرة بالنيران ويقلبها دوريا ينتظرها أن تنضج ليناولها أحدهم قبل أن يحمل الآخر بين كفيه وهو ساخن ليبدأ بإفراغ حبات الذرة في كفه ليتناولها بالتناوب فتسأله بصدمة : ايه ده ؟! هو انت إكده بتاكل الدرة ؟!! أومأ إيجاباً فاتبعت ساخرة بتعمد – شغل مصاروة صحيح .
شد جسده بكبر وشموخ ظهر في حركة رأسه التي استقامت بحدة : انتي مش عجبك طريقة أكلي ؟!
ضحكت رغمًا عنها لتخفي فمها خلف وشاحها قبل أن تجيبه :لا مش جصدي بس متأخذنيش بس الدرة ميتاكلش إلا كده .
قرنتها بأن قضمت كوز الذرة ليغمغم باستياء : كل واحد وطريقته يا ست زينب .
حركت رأسها بعدم اقتناع ليعم الصمت عليهما قليلًا قبل أن تسأله باهتمام وهي تقابله في جلسته أمام النار الذي أوقدها للتدفئة خارج المنزل كما يفعل كل ليلة : متأخذنيش يعني في السؤال يا بيه ، بس راجل كبارة زيك كدهوه متجوازش ليه لغاية دلوجت ؟!
رمقها بطرف عينه ليسأل بنزق وهو مستمر في تناول حبات الذرة : وليه لازم أتجوز يعني مش فاهم ؟!
ارتفعا حاجبيها بدهشة لتحك رأسها بتوتر ووجنتاها تتورد بعفوية : عشان كل الخلج بتتجوز بهايم ولابني أدمين لازمن يتجوزوا.
عبس بضيق ليردد بعدم رضا : ما هما عشان بهايم برضه يا ست زينب.
اتسعت عيناها بعدم فهم لتسأله : متأخذنيش مفهمتش جصدك ايه.
زفر بقوة ليجيبها : مقصديش حاجة ، بس الجواز ده حياة كبيرة يا ست زينب لازم يبقى فيه تفاهم بين الاتنين وتوافق اجتماعي وثقافي وكمان لازم يبقى في مشاعر عشان يعرفوا يتعايشوا سوا وميجيبوش عيال يطلعوا عينيهم بينهم ، أتبع حينما وجدها تطلع عليه بعدم فهم – فهماني يا ست زينب .
لوت فكها لتتمتم : بحاول والله يا بيه ،
أغمض عينيه بنزق ليسألها بجدية : ياعني انتي يا ست زينب اتجوزتي إزاي.
بهتت ملامحها فجأة لتجيب بخجل اعتراها : أهو نصيب يا سعاة البيه .
اعتدل بجلسته ليسألها باهتمام : ياعني ايه نصيب ، ياعني اتجوزتي من غير ما تعرفي أبو محروس ولا تبقي بتحبيه .
ضحكة خافتة انسلت من بين شفتيها لتهمهم بمرح : ونبي ضحكتني يا حسن بيه ، الجواز هنا مش بيبجى إكده ، هنا بنتجوز لما حد يشوف واحدة ماشية كدهوه ولا في فرح ولا في مناسبة ويكلم أهله ويخطبوها له ، لكن الحب والكلام ده في السيما بس وعندكم انتم يا ولاد المدارس ، أتبعت بعد برهة وهي تراقب عبوسه المتعجب – عشان إكده كنت مستغربة وانت بتحكي إنك متجوزتش لدلوق ، أصل حتمًا أكيد يعني شفت واحدة إكده ولا إكده وعجبتك فليه بجى متجوزتهاش ؟!!
عم الصمت عليهما وعيناه تشرد في وهج النيران التي تصدر صوت كل عدة دقائق تدل على فرقعة أكواز الذرة المنتهية والتي ألقاها  بها ، فتنغلق عيناه بعتمة سوداء وعقله يجبره على التذكر ، ذكريات كثيرة أجبر نفسه في وقت ما على وضعها بصندوق مخه الأسود ليبعدها عن تفكيره ، ذكريات تخص من سكنت قلبه .. وعقله وكاد أن يتمم ارتباطه بها بالفعل لولا ما حدث.
اختنق حلقه بغضب ناري يسير بمجرى دمائه وهو يتذكر ابنة الجيران التي كبرت أمام عينيه منذ أن كانت صغيرة وحيدة عائلتها يكبرها بخمسة أعوام كاملة ووالدته التي تعشقها فهي لم ترزق بأي من الفتيات فهو الأصغر بين أربعة من الذكور رزقت بهم والدته وأتت هي لتحظى بحب ودلال والدته ، لطالما اعتنت بها وأخوته الكبار دللوها كأختهم الصغيرة إلا هو كان دائمًا يتجنب التعامل معها ، بأول الأمر ظن الجميع أنه يغار منها فهي أتت وأخذت مكانه الأثير وهو لم يحاول أن يغير فكرتهم ، بل اتخذها درع واقي ليحمي نفسه .. مشاعره .. انجذابه الشبابي لها ، كتم تعلقه بها  وشغفه إليها وظل يراقبها في صمت  وكيف تتحول من الطفلة إلى الصبية .. إلى الشابة الفرحة بنجاحها وكيف أصرت على أن تلتحق بكلية الآثار لتصبح مرشدة سياحية فهي لطالما عشقت تاريخ الوطن وبحثت عنه بجنون ، يومها قابلها مصادفة وهو عائد من عمله ضابط صغير مسئول عن أحد الكمائن وهي تعود من منزلهم إلى بيتها فبارك إليها بهدوء وتمنى لها التوفيق رغم ضيقه من اختيارها ولكنه هنأها وقرر أن يتحدث مع والدته أنه يريد الارتباط بها.
ارتعش فكه بغصة تحكمت بحلقه وهو يتذكر فرحة والدته العارمة .. مشاكسات إخوته واستفزازهم المرح له ، بل لازال يتذكر سعادة والدتها وترحيبها به ، لقد ارتبط بها بالفعل فاكتشف يوم خطبتهما أنه لم يكن يراقبها بمفرده بل كانت هي الأخرى تراقبه .. تهتم بأموره .. وتضيق من تجنبه لها ، لقد كانا يجهزان بيتهما على مدار ثلاثة سنوات دراستها على أن يقيما الزفاف بعدما تتخرج ، يبنيان بيت أحلامهما ويرصان أحجاره بالأمل ، إلى ذاك اليوم الذي كانت تتحدث إليه قبل أن تتحرك مع رحلة خاصة بوفد سياحي سيزور أحياء القاهرة القديمة ، فحبيبة قلبه لأجل تفوقها التحقت بالعمل والتدريب في إحدى شركات السياحة الكبرى وهي لم تستكمل دراستها ، رغم رفضه أن تعمل بإجازة الصيف إلا إنها كانت دومًا تستطيع إقناعه متحججة بحبها الجم لعملها ولتساعد والديها في جهازها ، يومها حدثته ببهجة خالصة واتفقت معه على ملاقاته ليلًا بعد انتهاء دوريته في شارع المعز ليحتسيا القهوة قبل أن يعودا سويًا .لكنهما لم يتلاقيا أبدًا ، بسبب انفجار الأتوبيس الحامل للسائحين في حادث إرهابي رج أروقة مصر القديمة ، حادث كبير راح ضحيته الكثير من المدنيين.
رف جفنه الأيسر رفتين متتاليتين وهو يقاوم اختناق مآقي عيناه المحتقنه وهو يستعيد غضبه .. ألمه .. حزنه .. وقهرته وهو العاجز عن رد العدوان عن أقرب المقربين له ، يتذكر أنه بعدما لملم شتات روحه التي بُعثرت بسبب فقدانها ذهب وترجى قائده أن يلتحق بالجهاز الأمني الذي يعمل به للآن يخدم وطنه ويأخذ انتقامه في كل مرة يثبط عمليه إرهابيه جديدة ، يقبض على جاسوس جديد .. يطيح بتنظيم مدسوس داخل الناس .. أو يقتل أحد من يهدد الآمنين من ناسه.
__حسن بيه ، انتبه على صوتها الذي أتى هادئًا وخيل إليه أنه دون لكنته المميزة ليلتفت إليها بعينين معتمتين فأتبعت – كانك نمت ولا ايه ؟! أصلك سكت مرة واحدة إكده !!
أجاب بصوت خافت رخيم أسرى الترقب في أوردتها : لا منمتش يا ست زينب ، أنا صاحي ، روحي انتي نامي وسط عيالك .
تحركت بالفعل لتتوقف قبل أن تبتعد : انت بخير يا بيه ؟!
رفع وجهه فهالها جمود ملامحه : بخير يا ست زينب متقلقيش .
ابتسمت بتوتر وهي تعدل وشاحها فوق رأسها لتخطو مبتعدة فيخفض هو نظره إلى دخان النيران من جديد وينغمس في أحزان قلبه الذي عاد يخفق بألم الفقدان الذي تخيل أنه تأقلم على وجعه ولكنه عاد ينبض من جديد وكأنه لم يتألم أبدًا من قبل .
***
تحرك بقدمين ثقيلتين عندما صدح صوت الآذان من المسجد القريب يستمع إلى صوت المؤذن الذي يصدح بنبرة منغمة شجية ليتجه نحو الصنبور الخارجي فهو لا يدلف إلى البيت أبدًا وهي نائمة ، بل أنه ينتظر أيضًا حينما يستيقظ أولادها الصغار  حتى يحترم حرمة منزلها ووجودها المنفرد معه ، ابتسم وهو يتذكر الشقيقين الصغيرين واللذين يشبهان عليه بفتيات علاء فرغم أن الكبير أهدأ قليلًا إلا أنه ينظر إليه بضيق دومًا عكس الصغير الذي يرمقه بمكر قبل أن يقفز ويخرب كل شيء من حوله بشكل يثير استفزازه ولكنه لا يغضب منه بل يروقه ذاك الصغير الماكر .
تنهد بقوة وهو ينهي وضوئه ويستغفر الله كثيرًا ليقف باتجاه القبلة ويولي أمره لله يدعوه وهو يسجد أن يهدئ من نيران قلبه ولوعة جوفه ويقويه أن يخمد نيران ذكرياته أنهى صلاته ليبقى جالسًا قليلا قبل أن ينهض مقررًا بدأ مداومة روتينه اليومي فيتوقف بخطواته وهو يمر من أمام الباب الخلفي وسمعه يلتقط صوتها الأبح بنبرات خافته فلم يقوى على التقاط حديثها إلا ببعض كلمات بلهجة مغايرة لتلك اللهجة الممطوطة تتواعد مع أحدهم على مقابلته بعد أربعة أيام في نفس الموعد فتتسع عيناه بظفر وعقله أنبأه بفوز وشيك

نوفيلا .. حسن إلا ربع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن