ومرت السُّنون

22 12 1
                                    

مذكرات مجاهد جزائري : ومرت السُّنون

في قرية من قرى مدينة (قجال) الهادئة بزغت شمس الشروق مسفرة عن صباح مبهج، ومن إحدى البيوت الطينية البسيطة خرجت (فريدة) في الصباح الباكر متجهة للبئر لتأتي بالماء منه وتوزعه على حيوانات المزرعة.

استغرقت ساعات في العمل حتى خرجت أختها المدعوة (زينب) من البيت بعد أن قامت من النوم في وقت متأخر وقالت:

-«يعجبني نشاطك في الصباح الباكر»

أجابتها فريدة بسخرية:

-«مدي لي يد العون إذًا»

-«وددت ذلك ولكن علي إعداد الغداء»

عبر الأفق لاحظت فريدة مجموعة من الأشخاص قادمين نحو القرية فانتفض قلبها وتصنمت مكانها تراقبهم حتى تتعرف على ملامح وجههم عن قرب.

بعد فترة بلغوا القرية فإذ هم مجموعة من الثوار والبعض منهم إصابتهم بليغة بحيث لم يستطيعوا مواصلة الجهاد لأنهم يشكلون عائقا لذا أخذوا إجازة.

أحنت رأسها بإحباط فلم تستطع تحمل خيبة أخرى من خيباتها لذا دخلت الإسطبل وهمت بحلب الأبقار متناسية ما رأته للتو بينما أصوات بكاء النساء في الخارج وزغاريدهن تملأ المكان احتفالا بعودة الثوار لآهاليهم بسلام، ودت لو عاد لها من تنتظره ليسر قلبها وتعود الحياة لجسدها الذي دب فيه الجليد منذ ثلاث سنوات تقريبا.

بقيت زينب في الخارج تتابع الاحتفالات على قدم وساق ثم دخلت لأختها بعد أن أدركت أنها في وضع لا يرثى له وقالت:

-«أختاه! هل مازلتِ تنتظرين ابن عمنا علي؟»

ردت عليها فريدة بخالص الحزن والأسى دون أن ترفع رأسها من الدلو:

-«حتى لو وددت تناسي الأمر فقلبي لن يتناساه»

-«لا ضير أن يعشق قلبك، لكن هل ستظلين عزباء لأجل شخص قد لا يعود؟»

ردت فريدة بحزن قاتل:

-«وماذا لو عاد ووجدني قد خنت العهد الذي بيننا؟»

-«كوني واثقة أنه سيتقبل الأمر، خطبتكما كانت شفهية ولم تقيما الزفاف بعد لذا لا ضير أن تمضي في حياتك وتنسي شخصا ليس بينكما أي علاقة رسمية»

-«لا حاجة لتزيدي الطين بلة فما فيا يكفيني»

-«حسنا أختاه، بما أن قلبك مكسور فسأكمل بعض الأعمال عنكِ، كوني قوية»

لم ترضى فريدة أن تتوقف عن العمل فهذه عادتها أن تشغل نفسها أثناء انتظار عودة خطيبها الذي تحرقت شوقا لرؤيته.

انهمكت بكنس باحة المنزل وجمع أوراق الأشجار إلى أن لمحت عن كثب أحد جيرانها المدعو (مصطفى) وقد عاد من الجهاد بعد أن أصيب بكسر في ذراعه فنادت عليه من بعيد وقالت:

-«صباح الخير، كيف حالك؟ الحمد لله على سلامتك»

رد عليها مصطفى بوجه متبسم بشوش:

-«سلمتِ أختي فريدة، الحمد لله»

-«وددت لو تبشرني بخبر عن علي ابن عمي أحمد»

-«وددت ذلك أيضا لكن للأسف لم أقابله طوال هاته السُّنون وما من أخبار تذكر عنه، أتمنى لو يعود لبيته سالما منعما»

ردت فريدة بحزن:

-«إن شاء الله»

في نفس المساء من ذلك اليوم جلست فريدة أمام المذياع تستمع للأغاني الشعبية بينما تقطع الخضار من أجل إعداد العشاء.

فجأة!

دب صوت صراخ عالٍ من المذياع ملأ كل المنزل هاتفا: «يا الله، الحمد لله، استقلت الجزائر، الجنرال الفرنسي ديغول أمر قواته بالانسحاب وأذعن لقرار الشعب بالتحرير بعد مائة واثنتين وثلاثين سنة من الاحتلال»

وأضاف قائلا: «الخامس من شهر جويلية من العام ألف وتسعمائة واثنتان وستين يوم تاريخي فسجلوه في أذهانكم»

أسقطت فريدة السكين من يدها لينغرس على بعد عدة سنتمترات من رجلها الحافية، فجأة تملكتها فرحة عارمة مما جعلها تطوف بالمكان ذهابا وإيابا لا تدري أين تتجه ومن تخبر أولا بالخبر السار.

خرجت من البيت فتفاجأت بالناس يهللون ويصرخون وأصوات الزعاريد ملأت القرية والأطفال يركضون بسعادة، كان مشهدا ساحرا أريقت لأجله الدماء وماتت في سبيله النفوس وتطلعت له القلوب بشوق، يبدو أنها آخر من يعلم بهذا الخبر السار.

أكملت إعداد العشاء وذهبت لغرفة أبيها واضعة صينية الطعام أمامه.

كان الأب شخصا جادا وذا هيبة واسعة في القرية حتى مع بناته فتحدث بكل رسمية قائلا:

-«واحد من أبناء رفاقي تقدم لطلب يدك وقررت أن أوافق لذا جهزي نفسك بعد يومين ليأتوا لرؤيتك»

تصنمت فريدة مكانها وانسدل عليها صمت مطبق هز كيانها؛ فهي بالعادة تحترم أباها لأنه طاعن في السن وبحياتها لم ترد له طلبا أو أمرا أو تناقشه في أي شيء.

استدارت عائدة نحو المطبخ فرقت عيناها لهول ما سمعت، قرار كهذا معناه أنه يعرف ما حل بعلي وعلى الأغلب أنه سمع خبر استشهاده، لكنها لم تصدق البتة ما يجري بل خرجت نحو باحة المنزل تشاهد مشهد الغروب وتَلون السماء باللون البرتقالي المبهر وهي تحدث نفسها قائلة:

-«علي، عد بسرعة، لقد استقلت الجزائر وتحققت مُناك، عد لتنفذ وعدك لي ونحتفل بزواجنا»

قالتها بحشرجة وعيناها قد اغرورقتا بالدموع ولم تدرك أن من تنتظره قد بات من الثرى منذ سنوات، وبأن الكتاب الذي كتبه لها قد أصبح أنقاضا وتحلل في أعماق الأرض ولن تقرأه أبدا



النهاية

مُذَكِّراتُ مُجَاهِد جَزَائِرِي!! (بِقَلَم : بُثَيْنَة عَلِي)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن