عناق حار

5 0 0
                                    

"العناق ينبغي ألا يكون بين الأجساد , وإنما أحياناَ بالعيون والكلمات"

عبدالله المغلوث

حضن هذا الفتى جعل أنهارا من المشاعر تنساب داخلها كانت كمن وجد واحة بعد ان تاه في الحر لأيام فارتوى و جلس يتظلل تحت نخلة , لم تدري إن طالت المدة او قصرت فهي لم تكن واعية تماما لما يحدث معها كانت دموعها تستمر بالانهمار لكنها ليست دموع حزن كانت اقرب لمطر روحها الذي توقف عن الهطول, و عاد ليحي الارض البور داخل صدرها و استمر هو يحيطها بذراعيه الصغيرتين طول مدة بكائها كانت لحظة من الحب الخالص النقي لحظة تجرد من كل الفرو قات بين البشر كانت لوحة للإنسانية في أبهى صورها لشخصين جمعتهما أوجاعهما و استطاعا ان يتفاهما دون كلام. يقولون أن الابتسامة لغة عالمية يفهمها الجميع كذلك هي الدموع فلا يمكن لأحد ان يرى الدموع في عينيك و لا يفهم ما تمر به سيدرك انك تتألم حتى لو لم يعرف السبب. هي بالذات كانت لديها الموهبة في قراءة ألم الاخرين دون اي جهد كما يقول احمد سلامة في احدى روايته :" أنا امرأة خبرت من الوجع في الدنيا ما يجعل روحها تشم الوجع في الانسان من أول حرف ينطق به " كانت هذه العبارة تصفها بدقة كأنه يتحدث عنها عن سابق معرفة.

تجاربها السابقة و ما مرت به حتى اليوم جعلها حساسة للألم يمكنها شمه من بعيد كانت تستطيع معرفة ما إذا كان الانسان الذي يقف امامها متوجعا من النظرة الأولى, ربما روحها المتيقظة دائما و ضميرها الحي هو ما جعلها تتبنى و تحتضن معاناة الاخرين فهي للآن في هذه النقطة من حياتها قد بذلت الكثير من وقتها و مجهودها وحتى اموالها لتدعم قضايا و أناس ظلمتهم الحياة او بمعنى اصح ظلمهم اخوانهم البشر, فالعالم ليس إلا البشر الذين يعيشون فيه وحدهم القوة المؤثرة اما الطبيعة فلا ذنب لها في ما نرتكبه نحن اتجاه بعضنا من فضائع, لو عددنا ضحايا الكوارث الطبيعية لوجدنا أنهم لا يقارنون بضحايا الكوارث البشرية من حروب و مجاعات و جرائم قتل و حتى حوادث مرورية.

الطبيعة أرحم بكثير من الانسان فهي لا تغدر و لا تأخذك على حين غرة حتى ثورتها لها تحذيرات مسبقة بينما الإنسان يطعن أقرب الناس إليه في ظهره و على شفاهه ابتسامة نصر.

انتهت أخيرا دموعها و انقشعت سحب الحزن في عينيها و التفتت إلى الصغير الذي يحيطها بذراعيه و حضنته هي الاخرى ثم قبلت خده, بينما كان هو ينظر لها باستغراب و علامات الحيرة بادية عليه لم يفهم ما يحدث كيف لشخص بالغ ان يبكي هكذا كالأطفال ,أليس الكبار أكثر قوة و قدرة أليسوا قادرين على فعل ما يريدون لماذا إذا تبدو هذه السيدة ضعيفة هشة و قابلة للانكسار؟ لماذا تبكي بهذه الحرقة؟ ما الذي يؤلمها ؟ كان موقفا غريبا يصادف شخصا في عمره فهو لم يتعود على رؤية المعاناة لدى غيره, كان يعرفها داخل نفسه فقط مازال أمامه طريق طويل و مازالت هناك الكثير من الدروس التي ستعلمه إياها الحياة .

أعادت الصغير إلى المخيم و قد اتخذت قرارا بينها و بين نفسها بأن تساعده بكل ما يمكنها. ستكون مسؤولة عنه بطريقة او بأخرى و ستحاول ان تغير مساره للأفضل, عله يحض بالحياة التي يستحقها بدل ما فرضته عليه الظروف.كانت تعرف جيدا معنى الوقوف وحيدا عاريا في مواجهة الدنيا لا سند لك و لا كتف تتكئ عليه و لهذا هي اليوم تشعر بالمسؤولية اتجاه هذا الصغير. هناك مثل شعبي في الجزائر يقول"لي قرصوه لحنوشه يخاف من الحبوله"و معناه من جرب لدغة الأفاعي يخاف من الحبال هذا المثل يلائم حالتها فمن قضى حياته يمسح دمعته بيده سيحرص دوما على مسح دموع الآخرين .تفاعلها معه لم يكن فقط شفقة بل أيضا شعورا عميقا بحنان الأمومة الذي حرمت منه و ربما لاشعوريا هي تريد تعويض ما فقدته بخسارة ولدها الوحيد. فالناس احيانا تنقاد وراء احاسيس لا تعلم مصدرها أو معناها بل هناك فقط صوت داخلي يخبرك انه التصرف الصحيح .

حواس الإنسان أكثر بكثير مما نعرفه و ما يعلموننا إياه في المدارس خمسة أو ستة حواس غير كافية لتغطي ما ندركه و نحسه ,فالدراسات الحديثة أثبتت أن هناك العديد منا يملك قدرات زائدة في ما يخص التواصل و التنبؤ بالأحداث, و هي بالذات كان حدسها أقوى سلاح لديها فقد أنقذها غالبا من مصائب و مواقف صعبة و لهذا هي تتبعه دونما تردد و الآن بالذات حدسها يخبرها أن علاقتها بهذا الطفل ستكون طويلة و مميزة .

أول ما فعلته عند عودتها إلى منزلها كان البحث عن رقم مروان و هو صديق تونسي الأصل يعد خبير معلوماتية كانت لديه مواهب تفوق العادة في ما يخص القرصنة و تتبع الآخرين, و مع أنه لا يحب مخالفة القانون إلا أنها كانت تعرف كيف تثير جانبه الشقي و المغامر و استطاعت أن تقنعه أكثر من مرة بالقيام بتحريات من أجلها و مساعدتها في قضايا عملت عليها سابقا. مروان كان شخصا جديا لا يحب كثرة الكلام و لا المزاح لكنه كان يظهر جانبه المرح معها دون تكلف ربما لأنه يعتبرها من عائلته, فهي الوحيدة التي وقفت بجانبه و ساعدته لا بل حمته عند قدومه أول مرة إلى هذه الأرض الغريبة فقد كان يصغرها سنا و خبرة كما أنه كان وحيدا تماما في مواجهة الغربة.

rewindحيث تعيش القصص. اكتشف الآن