الفصل السابع والعشرون (الأخير)
رواية غرورها جن جنوني
للكاتبة ابتسام محمود الصيريذهبت توتا لمنزل "حازم" بعد انتهاء زفاف أخويها، شعرت أنها تراه للمرة الأولى، تأملت كل مكان حولها تنظر له بفرحة مستبشرة بالذي مضى كأنه لم يمضِ. استنشقت الهواء بقوة حتى امتلأت رئتيها بعطره الذي ما زال معلقًا بأركان المنزل، بدأت دموعها تتساقط وهي تقترب لغرفته، تأملت كل شيء بعين نادمة على تصرفاتها التي كانت خالية من الحكمة. والآن قلقة من المستقبل، ملامحها يتخللها الحزن وبدأت علامات الشيخوخة المبكرة تغزو وجهها، وما أسوأ الندم على أشياء لم نفعلها، وكلمات لم نقُلها لأحباب فرَّقتنا عنهم الحياة، فالتراجع عن الإثم لا يكفي لمحوه؛ وإنما الندم وحده هو الذي يطهر القلوب المحطمة. ألقت جسدها المتعب بعرض الفراش بأكمله ولم تعمل حسابًا لحدودها التي وضعتها من قبل حتى لا يقترب منها، أمسكت الوسادة اللعينة التي كانت تضعها لفصلهما وألقتها بقوة تكاد تُحمِّلها الذنب على البعد، فكانت تقسو على نفسها وتعذبها كما أذاقته من لوعتها، أرغمت عقلها على إغماض عينها عن الحقيقة المؤلمة؛ حتى تتمسك بأطراف علاقة تأمل أن تعود كما كانت، حتى لا تواجه الفراغ المخيف الذي تركها به، لكن عندما تحطم قلبها تبعثر إلى أشلاء صعب أن تتجمع إلا بوجود الأحباب. وفجأه توقفت عن النحيب والتفكير ونهضت تمسك ثيابه التي مر عليها وقت، اشتمتها بقوة ثم قبلت كل إنش بـ(التيشيرت)، ثم وضعته على الفراش فوق وسادة صغيرة فشكلت شكل جسد، ابتسمت لتصرفها الساذج، لكنها تسطحت بجانبه مداعبة صدره، وهي تصرخ من داخل أعماقها.
كان ظهور الشمس بالنسبة لها تواري أيامًا خلف بعضها، فالعتمة مسيطرة على عقلها قبل قلبها، نهضت ذات يوم حين تذكرت أول مقابلة بينهما واعترافه بالحقيقة كاملة، نهضت وأمسكت الصورة التي سرد قصتها من على (الكومود)، وحدقت بها وتأملتها بتمعن غير مصدقة ما تفوه به؛ أيعقل أن يكون القدر جمع بينهما منذ اللحظة الأولى من عمرها؟! توجهت لـ"نهال" التي تجلس بالأسفل، تخبرها بابتسامة تحمل كثيرًا من المعاني عكس بعضها، وبسطت يدها ممسكة بهذه الصورة بيد مرتعشة حتى تراها، هاتفة:
- ماما نهال، حازم حكالي عن الصورة دي وقالي إن دي أنا، عايزة أعرف كل حاجة، إزاي اتصور معايا؟
نظرت لما تقدمه لها وأجلستها بجوارها، وقالت بحب لها متذكرة قصة عشق طفلها الصغير الذي نبتت بذرة الحب بداخله وترعرعت طوال سنوات عمره لها فقط:
- بصي يا توتا الحكاية بدأت لحظة ولادتك، يومها أنا اللي ولدت مامتك، وباباكي كان ملخوم ومش عارف يشيلك، اليوم دا كان معايا حازم، أول ما عينه شافتك اتعلق بيكي جدًّا، وصمم إنه يشيلك وكان عايز ياخدك ويمشي؛ لأنه أول ما عينه وقعت عليكي حبك جدًّا. وهو اللي سماكي توتا، وباباكي ما اعترضتش، وبكل براءة قال لوالدك أنا هتجوزها دي عروستي أنا، وكان لابس خاتم في صباعه حطه في صباعك وقال كده بقيتي خطيبتي، ومن يومها وأنتي فضلتي في خياله واسمك محفور جواه، وعمره ما نسي الاسم دا أبدًا.
- أنتي بتتكلمي عن بابا الحقيقي؟
- آه، وعلى فكرة حازم ما كانش يعرف إنك نفس البنت، أول مرة شافك مع نايا حبك، ولما عرفنا الحقيقة وإن جهاد مش أمك؛ مهيمن كان هيتجنن وطلب مني أدور على أهلك في ملف المستسفى، وما هديش غير لما وصل له وعرفه إنك معاه، وقتها عرفت إنك أنتي نفس البنت، وقولت لحازم اللي كان مهوس بالصورة اللي أخدها معاكي وأنتي بيبي، واستغربت يوم الفرح إنه اتفاجئ إنك مش بنت مهيمن.
صمتت قليلًا تسترجع أجمل الذكريات، ثم استطردت حديثها:
- عارفة لما شافك زمان مع نايا في النادي وعرف اسمك، افتكر توتا اللي كان بيحبها وقالك أنا هتجوزك، ومن يومها وهو بيعاملك على الأساس دا.. إنك مِلكه وحبيبته، صدقيني ابني عمره ما حب بنت في حياته غيرك، ولا عينه شافت بنت إلا أنتي. من صغره وهو بيتحجج علشان يشوفك ويقرب منك، برغم صدك الدايم ليه لكنه عمره ما بطل يحبك.
كانت تسمعها وقلبها يتمزق من الألم لفقدانه لكن في اللحظة نفسها تبتسم سعيدة بحبه المتفاني وإخلاصه لها طوال سنوات عمره، فحكايتهما نادرًا ما تتكرر عبر الأزمان؛ أن تجد أحدًا يحب فتاة من طرف واحد منذ مولدها ولا يرى غيرها، ومع ذلك يستمر في هذا العشق المعذب ويتزوجها ويحيا معها في لوعة ولهيب لا تشعر به، كل تلك المشاعر كانت تجعلها تنهار من شدة الندم عليه، فأردفت بهمس:
- ياريتني اتكلمت معاه من زمان، وحاولت افهمه واشوف الحب اللي كان متغلف خوف وحماية، ياريتني عرفت أبحر في أعماقه واعيش معاه حياة عادية زي باقي البشر، بس هيفيد بإيه الندم وكل حاجة راحت من إيدي خلاص.
ثم ألقت جسدها داخل أحضان "نهال"، وهي تبكي بحرقة على فقدانه، ظلت تربت على ظهرها بحنان.
★★★★★
مر 8 شهور، وأنجبت طفلًا يشبه كل ملامح أبيه، كان هو النبتة التي قلبت كل الموازين، وجعل السرور يدخل قلب الجميع عند رؤيته.
★★★★★
مضى عام آخر ثم عامان، وفي أحد الأيام كانت العاصفة تملأ إحدى الشوارع في إيطاليا، كان يومًا لم تطلع به شمس، صوت الهواء يصم الآذان ويطيح بكل من يقف خارج المنزل، والسحب تفترش السجادة الزرقاء وتخفي معالمها، فكانت السماء غاضبة على من غطت عليهم، وكأنها كزت على أنيابها بشدة فتتصادم السحب بقوة ويصدح عقبها صوت مخيف مع شعاع نور، فتشتد الأمطار بغزارة، والجميع يختبئ حتى يحمي نفسه من هذا الشبح المخيف الغاضب، إلا "لاروا" تجري بالطرقات الفارغة من المارة، تسمع أصوات الناس الهاربون من الصقيع، وهم يخبطون الكؤوس ببعضها، حتى يشعروا بالدفء، لكنها لم تكن تبالي لأي شيء حتى الشتاء القارس بالبرودة، من كثرة لهفتها كانت تشعر بالسخونة تخرج من جسدها. وأخيرًا، وقفت أمام باب حديدي كبير فتحته بالمفتاح الذي كانت تحمله، وجدته ينتظرها بعينين منهمكتين ابتسم بأسى وهو ينهض من مكانه ويعانقها عناقًا يحكي الكثير والكثير، فأبلغته باللهجة الإيطالية:
- عذرًا تأخرت عليك.
- المهم أنكِ أتيتِ، وطمأنتني عليكِ.
★★★★★
أما في مصر كانت توتا تقف بالشرفة تنظر للسماء التي تتلألأ بها النجوم مع بعض من السحب المارة في هدوء، فتأملت الهلال المزين بالسماء، وتذكرت أوقاتها البسيطة مع حبيبها، فحدثت القمر متسائلة:
- قول لي يا قمر زماني هل ما زال حبيبي يتذكرني، أم أصابه اليأس حقًّا وتركني وقذف بحبه في أعماق البحار الكاحلة؟ هل تعتقد أنني أتردد على خاطره في لحظة، أم نسي كل ما يربطنا من حنين واكتفى بذكرياتنا المؤلمة؟ أما زال يناجيك مثلما يفعل دائمًا، أم سأم من كثرة مناجاته؟ أستحلفك يا قمري، حدثه عن حبيبته المعذبة وحنن قلبه على المشتاقة له.
أنت تقرأ
غرورها جن جنوني الجزء الرابع من سلسلة معشوقتي المجنونة
Ficção Adolescenteحينما يسيء كل منا الظن بالآخر، تنمو بذور الشك في باطن أنفسنا وتترعرع حتى تصل إلى عقولنا، و يثمر غراس الشك بالغرور و الكبر فنخسر أعز الناس، وعندما نتجرد مما ميزنا به الله عز وجل عن باقي المخلوقات، فحينئذ سنتصرف مثل الدواب التي تمشي على الأرض. أما هي...