الفصل الخامس

80 15 6
                                    

الجزء الخامس
جلست تزم شفتيها ، تصك وجهها ، و قالت بامتعاض لسهام : هذا البيت لم أدخله منذ وفاة والدتك رحمها الله
فغرت سهام فمها لتجيب لكن ياسمين دخلت تقاطعهما ، مرحبة بها تحاول الابتسامة و هي تقدم العصير
- ظننت أن لديكم ضيوف حين رأيت سيارة غريبة بالخارج
هتفت سهام بحماس : انها لماما لقد غيرت سيارتها مؤخرا .
اهتزت حدقتاها حقدا و غيرة : يعطي الله اللحم من ليس لديها أسنان ، رحم الله أمك كانت تتقاسم معنا كل ما تملك . و هي تملك كل شيء و تبخل علينا حتى بالفتات
ابتسمت ياسمين أكثر : لا يجوز هذا الكلام يا حليمة , الله يقسم الأرزاق بمشيئته و على نياتكم ترزقون .
استدارت لسهام تربت على ركبتيها تدًعي البكاء ، ااه يا ابنتي فرحتك بقيت ناقصة بدون أمك
لقد نبهت عليهم ياسمين دائما أن يحسنوا معاملة الأقارب و الكبار في السن مهما حدث من مشاكل يبقى شأن يخص الكبار .
فاجابت : لا لم تنقص مكيالا لقد اخذتني ماما الى قبرها بعد التخرج لأريها شهادتي و انا متأكدة انها فخورة بي .
مسحت دموع التماسيح تحدج ياسمين : لا أحد يأخذ مكان الأم الحقيقية .
انفجرت سهام بوجه عمتها صارخة : كفي عن ذلك شئت أم أبيت ستبقى ماما ياسمين أمي الحقيقية لقد اكرمنا الله بوالدتين فلماذا تستكثرون علينا النعمة
رمقتها ياسمين بنظرة عتب تحاول تهدأتها ، بمجرد رنة المفتاح الذي استدار بالباب قامت مبتسمة ترفع فستانها لتقترب منه لكن وصل الى الصالون قبل أن تخرج منه ، رمت نفسها بحضنه تتعلق بعنقه ، لا تحب أن تتعدى مشاكلها الى الآخرين خاصة الحقودين منهم رغم الحسد الذي تلاقيه فالكل يرى ما ترغب به هي ، حياة مادية مترفة خرجات و جولات و سيارة ، زوج ذو مكانة مرموقة ،و اولاد متفوقون بدراستهم و قد بدأوا بجني ثمار نجاحهم لكنها لن تسمح لأحد ان يضطلع على ما تخفيه الياسمين من أشواك الصبار كانت تحمي بها نفسها فأصبحت تأذي قلبها و روحها ، همست بأذنه : أختك حليمة هنا ، قم بدعوتها للعشاء . ابتعدت عن حضنه. لكنه بقي متمسكا بخصرها يحاوطه يتأمل زينتها التي بالغت في الاعتناء بها اليوم على غير العادة ، فقد كانت ياسمين أثناء شبابها تبالغ في الاهتمام بنفسها و تصرف راتبها الشهري على الملابس و المنتوجات التجميلية ، كنوع من التعويض لنفسها عما تفتقده من عواطف و حين وجدت ما ينقصها بدأت تتخلى عن زينتها شيئا فشيئا .
تناولوا العشاء في جو مكهرب لا أحد كان مرتاحا خلاله ، قام بعدها فارس يتوصيل أخته الى بيتها ، حين ولج الغرفة ، صفق الباب خلفه فأجفلت و هي تحدق بانعكاسه في المرآة يتقدم نحوها ،
- ماالذي تحاولين فعله ؟؟
اتسعت عيناها حين استدارت إليه ، فهدر صارخا مجددا : كيف تدخلينها بيتي و تصرين على دعوتها للعشاء ؟؟
أجابت بنبرة باردة بينما استدارت للمرآة توزع ما وضعته من مرهم على وجهها : إنه بيتي كذلك ، و قد زارتنا من اجل تقديم التهاني لابنتي و من شيم أخلاقي أن احسن ضيافتها
-أنسيت ما فعلته بنا ،دعك مني انها اختي و رحمي ، كيف تنسين ما قامت به من اعمال حقيرة لتفرق بيننا .
كانت قد انتهت ، رشت عطرا بكل برود و استدارت اليه بكلها تتقدم نحوه حتى وقفت امامه ، و بعينين شرستين حدقت بعينيه و همست : كل مافعلته و فشلت به هي ،فعلته انت بنا .
الهروب ذلك ما يفعله كلاهما منذ سنتين ، لا أحد تكلم منهما و لا أحد أبدى رغبة في الاصغاء للآخر ، كلاهما يستمر في الصمت و الفجوة تستمر بالتفاقم . لم يسمح لها هذه المرة بمغادرة الغرفة بل سحبها من ذراعها بقوة حتى ارتطمت بصدره ، شعرت بأنفاسه تتسارع حارقة جوفه ، و دقات قلبه تضرب صدرها بعنف ، ارتعشت شفتاه ، تأبى الإفراج عن الكلمات المحبوسة بحلقه ، يكابر البوح بما يختلج كيانه ، تنهيدة عميقة زفرها : يااااااسمين
مجرد ترديد اسمها يفوح عطرها بروحه و ترطب نسمات قلبه ، مرًغ وجهه بجيدها يعتصر جسدها بين ذراعيه ، يوزع قبلات عنيفة برقبتها ، لم تتملص و لم تحاول الابتعاد ، تركت نفسها له ، كلاهما بحاجة الى هدنة ، فلتستنشق القليل من رحيقه و يبتعد بحال سبيله كالعادة ، تنشد في اقترابه استراحة محارب متعب ، لم يكن كغيره من الرجال يوليها ظهره بمجرد ان يقضي رغبته ، بل كان يُقبِل عليها بكل جوارحه ، يجرفها بعواطفه ، يندفع بجنون عشقه اليها كأن لا شرخ بينهما ، و ينام بعد ذلك على صدرها ينهل من ضعف عاطفتها اتجاهه يلتزم الصمت المقيت الذي يثرثر بأشياء متداخلة أصبحت لا تفقهها ، ثم يفيق صباحا و قد فقد ذاكرة الليلة الماضية .
لكن في تلك الليلة بقيا كلاهما مستيقظا يتذكران ما صنعت بهما حليمة
بعد التقائهما تقدم لخطبتها من والدها و لحرصها الشديد على التكتم ، التقى بوالدها في المقهى ، لم يتواني والدها في السؤال عنه بعمله و حيٍه و لم يسمع عنه الى ما هو طيب ، لكن وضعه الاجتماعي ما جعله يقلق على مصير ابنته غير انه رضخ امام اصرارها و لهفتها على الأولاد ، و لم يعلم أحد بأمر زواجها غير والديها ، حتى ليلة زفافها لم تقم حفلا كان مجرد عشاء بسيط أجتمع فيه المقربون للتشهير بالزواج و حضر فارس و والدته العجوز و اثنين من اقاربه امضو الليلة معهم و في الصباح الباكر ، سافروا الى العاصمة مع والديها و قد رفض أحد اشقائها الحضور احتجاجا على اخفاء الأمر عنهم ، لم يقم فارس كذلك حفلا ، مجرد غذاء بسيط ليقدمها للعائلة بعد ان عقد القران ، لم تخفى عليها نظرات الرفض و الاستهجان من البعض ، قامت بعد مغادرة والديها عائدين الى مدينتها الى الغرفة التي وضعوا بها اغراضها لتقسم الهدايا فلمحت حليمة مع شقيقتها و الخادمة التي كلفها فارس لرعاية والدته أمام مدخل المطبخ ، التقطت من الوشوشات ان مؤامرة تحاك ضدها ، و هي الخبيرة بها فقدحيكت ضدها مؤامرات بعدد شعر رأسها من زوجات الأخ و القريبات ، و رغم انها لم تفقه كلمة مما يقولون ، كون العائلة تنحدر من منطقة قبائلية لها لهجة خاصة بها ، لحقت بها الخادمة مرتبكة تتلعثم بالكلام محرجة : سيدتي أريد أن اخبرك بشيء ؟
لم تلتفت ياسمين بل استمرت في اخراج الاغراض من الحقيبة : تفضلي
همست توشوش كي لا يسمعها أحد تلتفت يمنة و شمالا : انااااا … و السيد فارس … اخطأنا ووقعنا بالحرام … انا فقط … نادمة و …
-اذا انهيت كلامك يمكنك الخروج : قالت بحزم
زاد إرتباك الخادمة و اتسعت عيناها بذهول : ألن تغضبي ؟؟
قهقهة استهزاء اطلقتها ياسمين قبل أن تكشر عن أنيابها و تقترب لتهمس بصوت أشبه بفحيح الأفاعي : العبي بعيدا فأنا شخص مر عليه الكثير من الحثالة أمثالك ، حتى و إن حدث ووجدك فارس عاهرة مجانية يقضي بها حاجته فقد اختارني زوجة محترمة لبيته .
فرت الخادمة مسرعة دون ان تلتفت خلفها و لم تفلح بزرع سم كلفوه بها اسيادها ، و بخروجها دخلت فتاة جميلة بيضاء البشرة ، سمحة الملامح ، في أول الثلاثينيات من عمرها ، تقدمت باستحياء ببطنها المنتفخة تعرف بنفسها لكن ياسمين سبقتها تقول مبتسمة : انت كاميليا أليس كذلك ؟؟
حدقت بها مستغربة تهز رأسها ايجابا فأردفت ياسمين : لقد حدثني عنك فارس كثيرا ،ان خالك يحبك جدا
اتسعت ابتسامة كاميليا مطمئنة : انا محظوظة بخال مثله لم اعتبره يوما خالا أنه أخي الأكبر ، ارتبكت و هي تنظر إلى الباب خلفها قبل أن تقول : ما أمرها تلك ؟؟
هزت ياسمين رأسها تنفي اي شكوك لكن كاميليا أردفت : احذري منها و من خالاتي ، لا يخفى عليك انهما رافضتين هذا الزواج و سيضايقانك كثيرا
حضنتها ياسمين : لا تخافي حبيبتي و اطمأني ، انت حامل و لا يليق بك القلق.
بعد ان غادرا والداها ، اصطحبها فارس إلى بيته ، الى مملكتها ، حيث تربعت ملكة بعرشها و ذاقت طعم السعادة حد الانتشاء ، لم يساورها شك للحظة أن لا يتقبلها الأولاد ، بل اشتياقها كان كأم فارقت فلذات اكبادها لعدة ايام و هي لا تقوى على بًعدهم ، حماسها الكبير للقياهم جعلها تندفع مسرعة من السيارة لكن أمام الباب شد فارس على يديها يسألها : هل أنت جاهزة ؟؟؟
اومأت برأسها إيجابا و نظراتها تترجاه أن يسرع بفتح الباب ليسمح لها بمعانقة اطفال لم تحملهم برحمها تسعة اشهر بل حملهم قلبها و ترعرعوا بتجاويفه قبل سنين أثر حلم راودها بمنامها عدة ليال منذ سنواتها العشرون و فسرته لها جدتها انها ستتزوج ارملا له خمسة أطفال و قبل ان تتوفى اوصتها ان تحرص على رعايتهم فهم ابوابها للجنة اصطفاها الله من بين كل النساء ليكرمها بهم ، رفع كفها يقبله ثم قبل جبينها قائلا : مرحبا بك ببيتك يا ياسمينتي .
جلس الأطفال هادئين مع الخادمة ينتظرونهم ، و قد استطاع بعطفه عليه و احتوائهم بحنانه ان يمهد لدخول امرأة غريبة حياتهم يعدهم الا يأخذ أحد مكان والدتهم ، اندفعت سلسبيل بخطواتها المتعثرة التي بدأت برميها مؤخرا نحوهما ، لتلقطها ذراع ياسمين بحضنها ، الأمومة شعور لا يولد أبدا بالحمل و الانجاب انها فطرة أنثوية حبى الله بها بنات حواء و هناك من تفيض روحها بالأمومة دون انجاب مثل ياسمين تماما ، لقد رفضت الانجاب مكتفية بخمسة أولاد رغم اصرار فارس انه حقها ، لكنها خشيت ان تفرط بأحدهم او تقصر معهم اذا انجبت ، و قد اعتبرتهم هدية الله و أمانة تخشى خيانتها ، بادلوها الشعور بالحب منذ أول يوم صرفت فيه الخادمة و اخذت على عاتقها العناية بهم و رعاية شؤونهم جميعا .
في أول ليلة لهما صادفت بداية الامتحانات ، عروس بطقمها الكلاسيكي الأبيض تنقلت بين غرفة و أخرى تراجع لهم دروسهم ، و بعد العشاء تفاجأ فارس باولاده جميعا ينامون بغرفته ، البنتين على السرير و الاولاد على الأرض ، تلاشت ملامح الفرح و الحماس لتحل محلها نظرة امتنان لها ، رغم نوم البنتين بينهما لم يترك يدها ، ظل متمسكا بها طيلة الليل لدرجة شعرت أنه أحد أطفالها ، إستمر الحال اسبوعا كاملا شعرت ياسمين خلاله بآمان لم تعرف لم مثيلا مسبقا ، كانت وحيدة شريدة بين اهلها و فجأة عوضها الله بزوج و خمسة أطفال، و بيت دافئ ، في آخر يوم الامتحانات زارتهم كاميليا و اخويها مرزاق و محند كانوا تقريبا بعمر ياسمين ، أبناء شقيقته التي توفيت و هم صغارا فاحضرهم والدهم الى جدتهم لتربيهم ، و قام فارس برعايتهم رغم صغر سنه ، لم يكن خالهم فقط بل كان أخا لهم أبا و صديقا ، حتى بعد زواجهم ظلت علاقة قوية تربطهم به ، جاءوا لتقديم التهاني و الترحيب بالعروس ، سبقها فارس يستقبلهم و لأنها كانت ترتدي فستانا طويلا ساترا ، نزل مطمئنا ، لكن بشرته احمرت غضبا يحدجها بنظرات قاسية حين دخلت الصالون تصافحهم دون وشاح ، زاغت عينيه يبحث عن شيء يقذفها به ، لكنه كتم انفاسه الغاضبة ، يمرر اول زلة لها ، أصرت على دعوتهم للعشاء و لأنها كانت متعبة أحضر عشاءا جاهزا من الخارج ، و كان ذلك الموقف اول الاهتمام جعلها تقع بحبه ، موقف بسيط عبر به عن امتنانه ، طيلة اسبوع كانت اول من يستيقظ و آخر من ينام ، تركض من طفل لآخر تذاكر له دروسه و تحمل الرضيعة سلسبيل بذراعها ، و أثناء غيابهم ، تهتم بالبيت الذي كان يحتاج إلى تنظيم و الى لمسة أنثوية ، إضافتها جعلت عطرها يفوح بأرجاء بيت كان قد فقد الحياة قبل سنة ، صفاء قلبها ، جعل الابتسامة تتسلل الى وجوه أطفال كادوا يفقدون الأمل برحيل أمهم ، بياض اوراقها ، عالج جراحا ادمتها صدمة الفقد المفاجأ ، بعد مغادرة الضيوف ، تولت سهام تنييم سلسبيل بغرفتها لانشغال ياسمين بتوظيب المطبخ ، و حين فرغت من عملها ، ذهبت لاحضارها ، رفضت سهام و أصرت أن تبقى سلسبيل بغرفتها .
دلفت الغرفة فوجدته يقف امام طاولة الزينة يعتصر وشاحا بين أصابعه ، بأنفاس متسارعة و نظرات شرزة ، رمق دخولها ، هيأته المكللة بالهيبة وحدها تبعث الرهبة في الناظر إليه ، فكيف لإمراة داخلها هش مثل ياسمين و قد تحفزت كل ملامحه ، خطت متعثرة نحوه تحاول الابتسامة تخفي ذعرها على ملامح فرت منها الدماء .
حين وصلت اليه أدار جسدها الى المرآة ،يرفع الوشاح بوجهها : ألم يكن هذا شرط عهدنا ؟؟؟ لقد قبلت و ارتديته في ذلك اليوم ؟؟
هزت رأسها بالايجاب تحاول ربط كلامه بسبب غضبه ، اردف بلهجة شديدة آمرا : لن يرى رجلا على وجه المعمورة شعرك مرة أخرى .
استدارت إليه مبتسمة مبدية الطاعة و زادت ابتسامتها و هي تقول : هل تغار علي يا فارس ؟
لانت ملامحه حين رفع أصابعه يرفع شعرها الأسود الحريري يدنو منها أكثر ، انحنت أهذاب رموشها خجلا من عينيه المتلهفتين لها ، تأوهت حين جذب خصرها نحوه يحيطها بذراعيه القوية ، يلتهم بقبلاته الخبيرة هواجسها الفتية من هذه الليلة المرعبة لها ، رغم سنواتها الخامسة و الثلاثين كانت ياسمين أميًة في العلاقات الزوجية لم يسبق لها يوما الاضطلاع عليها او التحدث بأمرها ، و كل ما تعرفه عنها ممارسات مقيته على طفولتها المنتهكة تأبى ذاكرتها النسيان . هاجس آخر نخر عقلها منذ تقدمه لخطبتها ان تحول بينهما طيف إمرأة أخرى ، ماذا لو كانت أفضل منها بالسرير ، ماذا لو تخيلها هي او نطق باسمها بدلا عنها ، ماذا لو قارن بينهما ، تعلم انها لن تلغي حضور زوجة عاشرها لخمسة عشر سنة و قاسمها حياته همومه و أفراحه ، لكن مخاوفا بديهية تثيرها أي انثى بنفسها طيف امرأة أخرى ، أغمضت عينيها تجاري جنون قبلاته ليجرفها الى عالمه الخاص مبدعا في تمكنه من ابتلاع مخاوفها مانحا اياها متعة لم تشعر بطعمها في تلك الليلة أبدا .
يوما بعد الآخر تحول الاعجاب به الى حب و الانبهار الى عشق ، يتسلل الى قلبها يلامس الوتين ، كان لها فارس فارسا لأحلامها تحسد نفسها عليه ، توطدت العلاقة بينهما و قد بدأت تشعر بحبه كذلك ، منحها كلما افتقدت إليه بحياتها الماضية ، العطف ، الاحترام ، الإحتواء و كثيرا من الحب ، ابتسامته و ضحكات أطفالها تروي ظمأها الشديد لدفئ حُرمت منه مطولا ، رغم ان حياتها لم تخلو من المشاكل ، بعد شهرين من الزواج دخل غاضبا الى البيت أمرها أن تجهز نفسها و الأطفال ، ترك الاولاد عند والدته حاولت الاستفهام عن تلك الحالة لكنه صرخ بوجهها يخرسها
ركن سيارته بشاطئ ، كانت الغيوم ملبدة و منظر الأمواج المتلاطمة تكاد تلمس السماء الرمادية من هيجانها أثار رعبها اكثر من عينيه القاتمتين
استند على مقدمة السيارة يرمي ثقل همه ، ارتعشت اطرافها ذعرا لحالته فهرعت تلحق به ، اقتربت تحتضن ساعديه تحتمي من البرد و حين طال صمته وضعت رأسها على صدره ، لم يكن رجلا ثرثارا بل كان هادئا كثيرا قليل الكلام ، خرج صوته متحشرجا حين شعر بذعرها : تلك الاتصالات التي كنت اتلقاها و تشحب ملامحي و اخبرك انها تخص العمل ، كانت اتصالات اناس مجهولين يتحدثون عن شرفك و يسيؤون الى سمعتك.
رفعت رأسها تحاول الاستيعاب ، نظرته كانت مؤكدة لما سمعته ، فشد على كفها يضغط اكثر يبوح دفئ اصابعه الغليظة انه يجانبها لن يتركها أبدا ، بقيت مشدوهة فاتحة فغرها ،قبل ان يأخذها بين أحضانه يبثها الآمان ، و حين وجدت صوتها همست على مسامعه بخفوت : و هل صدقتهم ؟؟؟
أبعدها عن حضنه مستغربا يظن انها ستأسل بفضول أنثوي عن الفاعل لكن هاجسها كان ان تفقد الامن الذي شعرت به ببيته ، أعادها الى حضنه يحتوي مخاوفها ،يلبي احتياجها العاطفي ، ارتعشت كعصفور جريح بين ذراعيه ، و ارتجف ذقنها ، غارت عيناها دامعة تتملص من حضنه ، سارت بضع خطوات نحو جدار قصير و اتكأت بكلتا يديها عليه
خرج صوته خشنا مزمجرا : الارقام من مدينتك ، و لكن هذا الأسبوع وردتني الاتصالات من هنا من العاصمة ، التفت اليه بشراسة نظراتها ثم رفعت رأسها للسماء تصرخ : يااااااااااارب
قبل أن تنخرط في نوبة بكاء هستيرية ، متسائلة لماذا يضمر لها الآخرون كل هذا الشر و هي لم تؤذي حشرة بحياتها . دموع حارقة تراكمت لسنوات اوهمت فيها الكل أنها قوية و لن تذرفها بقيت حبيسة بداخلها تثقل كاهلها ، تلك الاتصالات لم تكن سوى وخزة شوك لجراح آفلة تقرحت تأبى الندوب أن تنجلي حين لم تجد من يعالجها ، شهقاتها شلال كلمات كان يجب أن تقال في مواقف عديدة لكنها أصرتها في نفسها و بقيت عالقة بحنجرتها لتخرج صيحات عالية من اعماقها ، صبًارة لفظت أشواكها لتفرج عن زهرة ياسمين على وشك الذبول ، لقد سمحت لنفسها في ذلك اليوم بالانهيار حين اطمأنت أن هناك كتفا يسندها و يد تمنع سقوطها ، همسات تداوي جراحاتها ، و لمسات تشفي علة روحها ، لم يخيب فارس ظنونها بقي حضنه يحتويها الى أن غابت الشمس و حين هدأت طلبت منه العودة الى اطفالها بعد ان فارقتهم سويعات ، توكل الله على من يحاول تخريب حياتها .
نامت تلك الليلة على صدره و تلتها الليالي لا موطن لها سوى صدره ، حتى باتت تعجز عن النوم اذا لم تطرب سمعها بدقات قلبه.
قطع أذان الفجر سلسلة ذكريات رغم صعابها اصبحت ياسمين تعتبر تلك المحن منحا من الله و كل محاولات حليمة في التفريق بينهما باءت بالفشل و قد كانت هي. و ابنتها صاحبة تلك الاتصالات بالتعاون مع احد قريباتها التي تجهل حتى اليوم كيف وصلوا الى بعضهم ، لم تزدهم تلك المشاكل غير ارتباطا و حبا لبعضهما ، لطالما شعرت بالامتنان لرياح عصفت بزورق عشقهما تزيده صلابة و قوة ، و الى ما فعلته حليمة بعدها بسنتين اعترف فارس على إثرها بوقوعه في حبها و بهيامه بها ، يترجاها الا تتركه معترفا أن لا حياة له بدونها
قامت لتصلي فاستغربت استيقاظه قبلها متوجها الى المسجد بعد قطيعة طويلة ، أدت صلاتها و عادت الى سريرها تلتقط باقة الكتب لكنها استغربت اختفاء بعض العناوين

ياسمين الصبًارةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن