الفصل الثاني

72 17 4
                                    


الجزء الثاني

جالت أروقة المعرض تدفن نفسها بعالم الكتب ، احد العوالم التي دسًت نفسها به في بُعدِه ، و بجناح الروايات وقفت تبحث عن قصة تغوص في حياة أبطالها الخيالية تهرب اليها من الواقع ، لا مزاج لديها للتركيز في انتقاء دقيق ، فلم يكن يرضي نهمها الأدبي أي قلم ، كانت تختار بعناية ما تقرؤه ، فلحقت ابنتها الى جناح آخر ، أخذهما الوقت و لم ينتبها للشمس التي اوشكت على المغيب ، لكنها استغربت عدم اتصال احد بها للاطمئنان ، و قد تعوًدت الا يتوقف رنين هاتفها بمجرد ان تخرج من البيت ، فاسرعت القيادة الى المنزل .
كادت دقات قلبها تتوقف لعتمة البيت ، بأيد مرتعشة ادارت المفتاح بالقفل : تهللت أساريرها ، لصرخات الاحتفال و التصفيق لها ، دمعت عيناها لرأيتهم متحلقين حول كعكة عيد ميلادها ، التفتت تبحث عنه ، كأن لا أحد يغنيها عنه ، لقد تأخر مجددا بالخارج و لم تعد تعلم له وِجْهة ، اليوم بالذات سيتعمد التأخر خارجا
في آخر عيد ميلاد لها قصف معقل كبريائها ، يوًقع آخر انكساراتها ليحطم روحها أشلاء ، ما استطاعت بعدها لململة رفاثها ، مرت سنة كاملة يأبى الإعتذار بل يأبى حتى الاعتراف بقُبح ذنبه ، مرات يجوب الطرقات بسيارته و مرات يجلس على احد الشواطئ وحيدا ، حتى لا يعود الى البيت يتفادي منظر الحب المشوًه يعتليه الركام و يقبع القلب تحته حطام .
رُفع على مسامعه اذان العشاء فأوقف شريط الأغاني ، آثار مشهد توافد الرجال مقبلون يلبون نداء الصلاة غيرة تحرضه على منافستهم ، ركن السيارة يسبق نفسه الأمارة الى الجماعة ، منذ سنة عاد الى الله بعد عظيم الذنب ، أقر حينها ان الزنى حرام تلزم توبة نصوحا طامعا في مغفرة الرحيم ، ليته يقر ان الظلم أعظم منها ، ليته يستوعب أن الظلم ظلمات يوم القيامة .
من يومها شعر بثقل العبادات يجثو على صدره يخنقه، يؤديها غاصبا نفسه ، يشعر أن الله يكره سعيه اليه ، ماعاذ الله لرحيم فتح ابواب الرحمة لعباده التائبون ، علً ذنوبا صغيرة لازالت عالقة تنتظر استغفارا ، او كبيرة تتوق الى توبة تخلصها من براتين الاوزار ، أو علً مظلوما رفع شكواه الى الله يبث العدل في الخصومة
جلس بعد الصلاة ، يحرر لسانه بالتلاوة بعد ان هجر المصحف لأيام طوال ، حين اغلقه همس صوت خفيض في أذنه ، "حين ابتعدت عن الله ، ابتعدت عنك كل الأشياء الجميلة" ، لمح بذهنه الياسمين ، و بتلاتها الخمس ، احد أركان الجمال . مرغ وجهه بكفه يأخذ بركة كلام الله و جلس بسيارته حتى منتصف الليل .
لم ينتظره اولاده للاحتفاء بعامها الخامس و الأربعين ، بل سحبوها من ذراعيها سعيدون بها ، استفاقت من شرودها على وقع قهقهاتهم لفعلة عمران الذي عكس الأرقام فوق الكعكة لتصبح اربع و خمسون ، انحنت تنظر إلى شعلة الشموع ، كانت يوما تملك دفأها داخل قلبها و توهجها بعينيه ، سبقتها سلسبيل لأطفائها . و ما أخمد دفأها بجوفها غيره .
انتهت الحفلة و قبلت الكل تودعهم الى غرفهم ، جمعت هداياها ، تجر أقدامها مثقلة بالذكريات ، الى غرفتها ، جلست على حافة السرير تضع العلب الأنيقة على ركبتيها
التفتت فجأة خلفها ، تحدق بمنتصف السرير ، كأنه وقع للتو حين همس يقذف مسامعها بعبارتين و بضع كلمات ، شعرت بهوًة سحيقة ابتلعتها سقوطا ، لفظت بعدها جسدها و بقيت روحها قابعة بقعر جحيم مستعر ، ابتلعت غصة المهانة ، تهمس لنفسها انها تجاوزت لتستمر بالعيش ، نتجاوز لكن يعلق مُر ما تجرعناه من علقم الخذلان في حلقنا تعجز حلاوة الأشياء جميعها على التخلص من مذاقهِ البشع ..نتجاوز متوجسين مما مضى مهووسين أن يُعاد مجدداً ويقضي على ما تبقى منّا .
فتحت اول علبة ، هدية سهام ، مررت اناملها على ملمس الحرير ، هذا القماش المخملي احد أيات الله حين تصنعه دودة من أضعف مخلوقاته ، يبعث في النفس شعورا جميلا حين يلامس البشرة ، شيئ مثل الدفئ ، الملكية ، الرفاهية ، و حتى الحميمية . ربما لهذا جعله الله لباس أهل الجنة فإذا كان الحرير الصناعي يمنح هذا الشعور الجميل يبهج الأهازيج فكيف تراه يكون حرير الفردوس الأعلى حين يجازى به أهل الجنة .
ذلك ما حدًثت به نفسها قبل أن ترفع قميص النوم ، و تقوم لتجربه على جسدها أمام المرآة ، كورته بعنف تعيده الى علبته ماالذي جعل سهام تهديها قميص نوم ، أخذت نفسا عميقا ، ترجح الأمر الى انهما دائما تقومان بالتسوق سوية و قد امتنعت عن شراء هذه الأشياء منذ سنتين و تعرف كما كانت مهووسة بها و تصرف الكثير من الأموال عليها لذلك ربما فكرت في شرائها ، مستبعدة فكرة ان تكون شعرت بانفصالهم العاطفي .
فتحت العلبة الثانية كانت أكبرهم حجما ، فاندفع منها مهرج يطلق أبواقا مزعجة و الكثير من القصاصات الورقية بوجهها ، صرخت شاهقة ثم انفجرت في نوبة ضحك ، الشقي ٌ عمران لا يتوقف عن مشاكستها و عمل المقالب بها .
شعرت بالتعب فأجلت فتح باقي الهدايا الى الغد ، استطاع الأولاد انتشالها من سطوة الذكريات ، التي لا تقوى على نسيانها او حتى تجاوزها ذكريات سيئة مرً عليها قرابة ألأربعة عقود ، ظلت دفينة بخبايا جوارحها ، لكن تدرب سلسبيل على يد رجل ، اثارها يحرض الذاكرة على احياء طفولة منتهكة ، لا تتحمل فكرة ان يقترب أحد من بناتها او يلامس جسديهما ، و ليتها والدتها كانت بنفس درجة الوعي لتمنع عنها ذاك السوء الذي مسًها و كان بداية الخراب الذي شوه روحها و ترك ندبة قاسية بملامح براءتها
ولدت ياسمين في سبعينيات القرن الماضي بمدينة صغيرة بغرب الجزائر في عائلة كبيرة جدا ببيت الجد و الجدة ، تزوًج والداها بعد قصة حب ولدت بمقصورة قطار ابان الثورة التحريرية المجيدة ، حيث كان والدها يعود في عطلة مرضية الى الديار ، بعد ان اصيب في صفوف جيش التحرير الوطني في مواجهة دامية مع قوات الاستعمار الفرنسي ، اخذته تلك الفتاة الجميلة التي تقاسم رفيقتها هموم البلد تبدي رأيها في الثورة بمنتهي الوعي بثقافتها في زمن عمد فيه الاستعمار الغاشم تجهيل المرأة و طمس دورها في بناء المجتمع ليضرب الوطن في معقله بعد ان رأى ما يوليه الاسلام و العادات من مكانة و قيمة ثمينة للكيان النسوي ، لكن حرائر الجزائر انتفضن من تحت الركام يقفن بجانب الرجل ندا للند يحملن السلاح ، يركبن الخيول ، و يصعدن الجبل لتحرير الوطن ، تعلمن في البيوت و اتقنً الحرف ، اخاطو الرايات الوطنية و البدلات العسكرية ، اتقنوا التمريض صنعوا الدواء ، و حتى القنابل اليدوية . و لمن تعذر عليها ذلك ، ساندت الزوج و الأب و الأخ ، و غطت غيابه ، و ربت الأبناء تطعمهم حب الوطن و تلقنهم ابجديات الشجاعة ، و تعلمهم مبادئ الرجولة و تنشر الوعي و العلم بين اخواتها من بنات جلدها ، و كانت والدة ياسمين ممن حالفهن الحظ في التعليم هي و شقيقتها، فقد عملت والدتها في بيت احد قضاة الجزائر ، فكبرت في بيت يملأ العلم اركانه و يعشش الوعي بزواياه
أعجب بثقافتها كثيرا و بعد نيل الجزائر للاستقلال ، تقدم لخطبتها و تم الزواج ، انجبت ستة اولاد ثلاثة ذكور و مثلهم إناث و من بينهن ياسمين ، و كانت قصة حبهم الأسطورة التي بنت عليها ياسمين أمالها في العشق ، عاشت الأسرة الصغيرة مع العائلة الكبير. و كان لياسمين اكثر من عشرين عما ، فقد كان جدها مُعددا بامتياز ، و كلما طلق احد نسائه الاربعة او توفيت احداهمن ، يعيد الزواج فرزقه الله الكثير من الولد ، بعد وفاة الجد تكالبت الجدة مع العمات ضد والدة ياسمين و لإتقاء مشاكل النساء ، اخذ والدها قطعة ارض جانبية داخل البيت الكبير و قام ببنائها.
كانت مجرد طفلة في عامها الخامس سعيدة بألعابها تلهو ببهو البيت الجديد الذي انتهت اشغال البناء في طابقه الأرضي فقط و بقي الطابق العلوي غير مكتمل بعد ، الاب في العمل حيث أوكل اليه منصب في السلك الأمني بعد الاستقلال للاستفادة من خبراته أثناء شغله لمنصب ضابط أثناء الثورة ، الاخوة بالمدرسة ، و اصغرهم ليندة الرضيعة نائمة ببيت جدتها ، لم يكن البيت هادئا أبدا بغياب أصحابه ، بل كان يعج بالضيوف على الدوام ، بعد هوان صحة الجدة ، اصبحت والدة ياسمين من تخدم ضيوف البيت الكبير , دائما منشغلة بواجبات الضيافة ، لتسقط بالليل منهكة كالموتى بفراشها .
يد غليظة تمسكت بها انامل ياسمين الصغيرة تتبعها الى الطابق العلوي الخال تماما من البشر ، عيون حادة اظلمت من الشهوة ، ارتعاشة شفتين تحاول عبثا التحكم برغبة مريضة ، نبرة صوت بحة من شدة الإنتشاء ، اصابع غليظة أفلتت الكف اللطيف تداعب الوجنتين ، ترفع خصلات الشعر الحريرية المبعثرة تجمعها خلف اذنها ، صوت خشن خفيض يخبرها انها طفلة رائعة جاءت لتشاركه اللعب ، و بحماس وعدته الا تخبر أحد عن مخبأهم السري ، ارتفع جسدها النحيل تتجلس على ركبتيه ، تجرأت اللمسات اكثر بعد ان اغرتها السكاكر ، لتصل الى مناطق الجسد الخاصة ، ارتعشت الصغيرة و اخبرها حسًها الطفولي ان الأمر خاطئ أرادت التملص من حجره ، فتحولت الاصابع الى كلاليب تحكم على بشرتها الرقيقة و العيون الخبيثة نظرت إليها بشراسة ترعبها ، ساعة كاملة داعب بيده الماجنة طفولتها ينتهك براءتها ، قطعة حلوى و قطعة نقدية و تهديد شديد اللهجة ، قبل أن يتفقد خلو المسار يؤمن طريقه ، حتى يفنذ ما قد تكشفه الصغيرة المرتعبة .
ساعة كاملة لم يلحظ أحد اختفاءها ، انزوت بغرفتها تحتضن نفسها باكية.
بعد اربعين سنة لا زالت التفاصيل موشومة على ذراع الأيام ، لم تخبر أحدا التزمت الصمت ، و بداخلها الف علامة تساؤل ، اصبحت تحتمي بشقيقتها الكبرى تتحاشى البقاء وحيدة ، خشية ان ينفرد بها مجددا ذلك الوحش البشري الذي يجبرونها على تقبيله في كل زيارة له الى الجدة المشتركة بينهما ، كونهم جميعا مثل الإخوة .
تجاوب جسدها البريء مع نوبات الخوف و الهلع التي اصبحت تنتابها لم تخلو لياليها من الكوابيس المزعجة ، فاصبحت تتبول على نفسها ، سلٍط عليها مختلف انواع العقاب لتتوقف عن ذلك ، لكن أحدا لم يبحث في الأسباب ، سمع بها الكبير و الصغير و تعرضت لتنمر شديد زاد من انتكاساتها النفسية ، مرت الأشهر و بدأت تتعافي باحضان سهيلة الشقيقة الأكبر لها و الاهتمام بها في ظل انغماس الام في المطبخ طوال الوقت .
مرت سنتين و ثلاث ، حتى نسيت الحادثة ، و كثيرا ما ظنت ان الأمر التبس عليها و كانت الحادثة مجرد تهيؤات اوهمها بها خيالها الخصب.
بقيلولة عطلة صيفية حارة ، أصيبت الجدة بوعكة صحية ، جعل توافد الضيوف يتضاعف اكثر ، و انشغلت سهيلة بمساعدة أمها ، كان الطابق الثاني على وشك الانتهاء بلمساته الأخيرة تم تبليطه و لم بتبقى غير طلاء الجدران لتجهز ، صعدت اليه تلعب حين طلبت منها والدتها ان تأخذ شقيقتها الصغيرة و تلاعبها هناك ، نامت ليندة بعد ان تعبت من اللعب فبقيت وحيدة تجلس على راسها تنتظر استيقاظها ، دلف الغرفة قريب آخر ، نادى عليها للغرفة اخرى يريها شيءا جميلا حتى لا توقظ الصغيرة و تعاقبها الوالدة ، لا شيء ، و لأنه اضخم منها حملها يدغدغها ، تعالت ضحكاتها ، فكتم فمها برفق يمازحها ، بسطها أرضا يستمر بدغدغة بطنها ، و زادت متعة اللعب ، مجرد طفلة تصورها البريئ لم يحملها على توقع القادم ، تجرأت لمساته اكثر تحت فستانها ، انتفضت رافضة ، تركض نحو باب الغرفة ، اصطدمت بأول من نحر براءتها ، لا يمكن أن تنسى ، تلك النظرة الحالكة رغم الابتسامة ، الأنفاس الكريهة ، اللمسات المقيتة ، بكل دناءة ، هددها انه رآهما يفعلان شيئا خاطئا و سيشي امرها الى والدها ، تفعل أي شيء الا والدها ذلك العسكري الضخم الذي يبرم شاربيه باستمرار و لا تعرف شفتاه طريقا للابتسامة ، يده الخشنة التي تعودت على حمل السلاح لا تعرف سبيلا الى شعرها بلمسة عطوفة ، غضبه معربد تعلن حالة الطوارئ بالبيت اذا تعالت صرخته و كأنه ينادي على جنود من فوق جبل و ليس على طفل أخطأ .
ارتعشت اطرافها لا تعرف الحل ، صرف القريب الشاب الذي كان يبغي مرحا فقط ، و عاد هو بعد غياب سنتين بالخدمة العسكرية ، رجلا بشارب و عضلات ، و قامة زادت ضخامة ، ما فعله بها لم يفقدها عذريتها ، لكن افقدها طفولتها ، اغت…صب براءتها ، انتهك عفويتها ، لم تنسى يوما ممارساته الخسيسة عليها ، نظرات الاستمتاع ، و ملامح الشهوة بوجهه القبيح ، لم تكن آخر مرة بل إستمر الأمر في كل زيارة له للجدة على مدار سنوات تحت التهديد ، عبث بنفسيتها اكثر من جسدها ، مشاعر الفزع و الذعر تلازمها كظلها تترقب مجيئه ، بعد كل لقاء تشمئز من نفسها ،من جسدها البريئ الذي لا يثير اي رغبة بمقومات طفولية لم تعرف الأنوثة بعد ، تمنت لو يتفقدها احد خلال وجودها معه تلبي رغبته ، لو ينتبه احد لغيابها ، انعزلت عن العالم الخارجي و عاشت اهوال بعالم جحيمه ، لم تعد تحتمل فقررت كشف المستور ، عقاب والدها ، أرحم من خساسة الوغد قريبها ، تجرأت و حين صرحت ،أُنزِل بها اشد العقاب و كان اكبر عقاب لها عدم تصديقها ، و هي تراه جالسا يدًعي الدهشة من افتراءاتها و يطالب برحمتها يترجى الا يعاقبوها لانها صغيرة لا تعي ، صدقه الكل و كذبوها ، اتهمو عقلها الصغير بالجنون و خيالها بالهبل .
كانت فارقا مصيريا بحياتها لتتحول تلك الياسمين ذات الاحدى عشر ربيع و مئة خذلان و خمسين خيبة ، الى صبارة بالف شوكة ، صرخت ، تمردت ، تعنًتت ، نصبت حولها سياجا من اشواك الصبار ، اثارت المشاكل ، تحولت الى شخص آخر و اي عقاب تتلقاه لا يزيدها إلا عنادا ، أبعدت الكل عنها ، الا سهيلة ، التي استوعبت حاجتها الى الإحتواء دون ان تعي السبب ، تلجأ اليها ، تنام بأحضانها ، تلتصق باطراف ثوبها تخشى الابتعاد عنها ، ازدادت حالة ياسمين سوءا بعد ان تزوجت سهيلة بعد عدة اشهر ، لم تبكي ، لم تنهر ، بل انهار الضعف و تحررت من قيود الذعر و الخوف ، نهضت بكل قوتها رغم صغر سنها ترمم انكسارها ، تجمع حطامها ، و تبني شخصية، معالمها القوة ، مبدؤها عدم الاستسلام و الرضوخ ، غايتها كيان يهابه الكل لا يجرؤ عليه أحد ، لكن الطمأنينة التي فقدتها أبقت على داخلها هشًا ، و نفسيتها مهتزة تُظهر الصمود كرد فعل عكسي تداري به ضعفها .
________________


بالعادة كلما دخل الغرفة متأخرا توليه ظهرها تدًعي النوم , لكنها بقيت مستلقية على جنبها تنظر إلى سرير خال منه ، في الماضي كانت احزانها مترامية الحدود بين ذراعيه ، تعيش طقوسها بحضنه ، و على صدره معالمها تنجلي ، ستكتفي بعد ان داهمتها طفولتها المهدورة تنخر ذاكرتها بالرؤية لوجهه و عينيه الباردتين
غير ثيابه و استلقى مقابلا لها، بدل أن يوليها ظهره كالعادة ، هو ايضا بحاجة النظر اليها بعد ان هجر احضانها ، يحدق بعينيها تحاول حدقتيها اخفاء تلك المناظر التي لا زالت تبعث الخوف بجوارحها كأنها طفلة في الثامنة من عمرها .
نظراته غريبة يرى انعكاسها ببريق سواد عيونها ، نظراته تصرخ به : لماذا فعلت ذلك بنا ؟؟
و جوارحها تشكوه له : في حبي لك شيء أقوى من النسيان ، أقوى من الحب ذاته كلما اصطدمت نظراتي بعيونك اضطربت جوارحي ، و ثارت حواسي ، كأني اول مرة أراك ، منذ عناقنا الأخير الذي توقفت عن عدً الايام على مروره لازلت رائحة التبغ الممزوجة بعطرك متوغلة بذاكرة كياني ، بانسجة بشرتي ، اعجز عن التخلص منها و لو غيرت مثل الحيًة جلدي ، تحتل تفاصيلك دواخلي ، فتركتني حائرة بين الفرار بعيدا عنك و محاولة بائسة في استعادة قلبك
كلاهما ظن ان الحب الحب بينهما مات و هما يحدقان ببعض دون اي صوت ، ضجت الأفئدة صارخة : كلا لم يمت انه عليل،انه سقيم يحتضر ، انه كسيح يتخبط بمستقره ، ينتظر منكما انقاذه لازال هناك أمل لا تيأسا بفقدانه
ظلا يحدقان ببعض بدون رحمة احدهما للبؤبؤ المرتعش للآخر ، لا يدريان من استسلم أولا و اسبل جفنيه عن تلك الملحمة البصرية ، حين استفاقت صباحا على أذان الفجر شعرت بدفئ صدره ملتصقا بظهرها ، يحاوط جذعها تنسدل ذراعيه تحتضنها ، ظلت لعدة ليالي تتعمد رمي قدميها فوق جسده ، تستفز مشاعره ، تستجلب دفئه و في كل مرة يكسر قلبها بابعادها حتى لو كان يغط في نوم عميق ، اتراه واع بجسده ام انًه مغيب و سيقذفها بعيدا عنه اذا استفاق، لعل اطرافه خضعت لخلايا خطفت ومضة من الذكرى تحييها ،
اغراها الموقف و لهفة الاقتراب بعد طول الهجران ، فألح المنادي "الصلاة خير من النوم" ، استغفرت و قامت تصلي، صلاة بها يرتفع المؤمن درجات التقوى ، بها تشفى الأسقام ،و تنفس الكربات ، تُقسم الأرزاق ، و توهب الذريات ، ترفع الهموم ، و تنجلي الاحزان ، صلاة خالية من انفاس المنافقين ، يؤديها من خصًه الله و اصطفاه من بين عباده الصالحين ، وحده الوقوف بين يدي الله يشفي غليل قلبها العليل ، يبعث طمأنينة فقدتها عدة مرات بحياتها ، فتسكن على السجادة تركن الى الخالق ، حتى و إن اذنبت ، وقوفها بيد خالقها حقيقي الإنكسار و في التذلل الى رب العباد رِفعة بين الخلائق .


ياسمين الصبًارةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن