والتقينا (7)

833 38 9
                                    

7_السجن

لا تعودي .. أحرق الشكُّ وُجَودي .. لا تعودي
اذهبي ما شئتِ .. أنَّى شئتِ في دنيا الخلودِ
واتركي النار التي أوقدتها تقضم عودي
هي بردٌ وسلامٌ يتلظى في بَرودي
فاسعدي في شقوة الروح .. ولكن .. لا تعودي

محمود شاكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

يُفرق الفراق دائمًا بين القلوب، حتىٰ تحتار لماذا يجمع الأفئدة وتتلاقى الأرواح إذا كان مآلها الفراق؟!
غريبٌ كان الأمر في قلب بلال، مشاعر شتى متفاوتة، بعضها يريدها والآخر يتمنى رحيلها.
صدفة غريبة هي من جمعته بها، ويا ليت الصدف لا تأتي.. هذه الغريبة بات يخشى تواجدها لا لشيء إلا لأجل قلبه الذي أضحى يدقُّ كالطبول كلما رآها، وتشرقُ الشمس في سماء قلبه الذي دجا فيه الليل ولم يعقبه نهار إلا حينما وقعت عيناهُ عليها.
كان يتحاشى حضورها بكل جهده، فلا يأتي للمنزل إلا لماما، وقد ساعده في ذلك زفاف أخته الذي انغمر في تحضيره على قدمٍ وساق.
آن يوم زفافها، اليوم الذي ستغادر فيه المنزل، وستذهب لتمكث في منزلٍ آخر سيكون لها وطنٌ..
وسكينة..
ستغيب عنه ربما لأيامٍ وليالي..
فلا يدري كيف سيغلق أجفانه قبل النوم وهو لا يدري أهي بخير أم تعاني!
جائعة أم عطشة..
مؤلم رحيلها عنه، وإتخاذها لكتفٌ آخر غيره..
كان يلقي البسمات على كل المتواجدين وبداخله يتآكله حزن الغياب.. يعلم إنها ستؤوب إليه لكن ستجعل البيت خاوٍ من صوتها ومن وجودها سيصبح كئيبًا..
غادر القاعة البسيطة التي لا تبعد عن منزله، وتوجه ليطمئن على والدته، بعد رحيل أخته وأميرة إلى مخصصت التجميل لم يكن يدرِ إذ ذهبت معهن إسراء أم لا.
طرق الباب مخافة أن تكون بالداخل ولم تذهب، وسمع خطواتٍ تقترب مسرعة، وأحس بالباب يُفرج بالتدريج ليطالعه وجهها، فتلاقت عيناهما صدفة..
ولم يستطع أن يغضهما..
ولم يخف عليه الحجاب الذي أصبح ملازمٌ لرأسها منذ حلَّت في بيته.. بالتحديد بعد ذلك اليوم الذي خرجت يومًا تحادثه بشعرها فزمجر في وجهها، وأمرها بأن تغطي رأسها، فلم يبرح خصلاتها منذُ ذلك الوقت..
لقد تبوأت في قلبهِ مكانًا رحبًا..
خفقات قلبه العالية نبأته بالخطر، فأسدل جفنيه وأخفض رأسه وهو يبتعد خطوة عن الباب مغمغمًا:
_أنتِ هنا؟!
فأومأت برأسها وهي تتنحى جانبًا، وتقول بهمسٍ رقيق:
_إيوة، مكنش هينفع اروح، لإني لو روحت هيتعرف مكاني، وكمان عشان مامتك لوحدها.
رفع بصره إليها في حدة، لم يعرف هل هي صادقة أم كاذبة ولكن.. فتاة مثلها بارعةً قي التمثيل وتجيده كإسمها، ليس عسيرٌ عليها الكذب، فتنهد في ضيق وهو يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه يحكي قصة بلال لأخيه فإذا بها باكيةً في إنهيار.
فسألها مستدركًا، وخرج صوته يقطر حنانًا رغمًا عنه:
_كنتِ بتعيطي ليه لما كنت قاعد أنا وعمرو على العربية في الليل.
فتحاشت النظر إليه بدموعٍ امتلأت في مقلتيها..
بالله كيف تخبره إن قصة بلال التي كان يحكيها فعلت في قلبها فعل السحر..
كيف تقول له إنها لأول مرة تسمع عن صحابي من صحابة رسول الله.
إنها حتى لم تكن تدرِ اسمه ولا اسم صحابي آخر..
كيف تبثه شجون قلبها ذاك اليوم، وكيف بكت لإيمان بلال وتحمله العذاب!
هي لا تعرف ما سرُّ بكاءها حينئذ بالتحديد..
ولو يدرِ إنها منذ ذلك اليوم تبكي قلما تسللت ذكرآه وهو يصف تعذيب بلال فما سيقول!
لقد بكت شوقًا إلى ربها..
بكت لإنها تمنت إن يخبرها هو عن تلك القصص ويعلمها كيف تقترب من الله..
لم يحر بلال جوابًا، فرفع بصره إليها، وهاله الدمع في عينيها، فأسرع يسأل في لهفة:
_بتعيطي ليه تاني؟!
وصمت لهنيهة ثم قال متهكمًا:
_ولا دا تمثيل!
إلتقاء عيناهم في تلك اللحظة كان عجيبًا، مزيجًا من عتابها ومن ندمه مما قال.
وخرج صوتها تجيبه في صعوبة:
_لا مش تمثيل، مش عارفة إيه حكايتك مع التمثيل!
وهدرت بإنفعال:
_أنت ليه بتعاملني كده؟! عشان ممثلة يعني؟! وهي الممثلة مش إنسانة ليها مشاعر واحتياجات عادي؟ أنت شايفني مبحسش، على فكرة في فرق كبير جدًا بين إني قدام الكاميرات بمثل وبين حياتي هناك حاجة وهنا حاجة، دموعي حقيقية عادي مش بحط حاجة عشان ينزلوا.. ومتقلقش انا همشي بعد فرح أختك على طول وأمك في عيوني حاليًا، وأتمنى يجي اليوم اللي تتغير فيه نظرتك ليا ونتكلم بدون تجريح.
معها حق لا ينكر!
هو أساسًا متعجبًا من تصرفاته!
لكن قناع القسوة أحيانًا نرتديه ليواري عن حبًا قد يفضحنا..
والكلمات القاسية لتكتم عبارات الحب التي تود الخروج دون عالق..
تركها وغادر بعدم يأس من جلب أي كلمة قد يقولها، وصفقت هي الباب وراءه وانهارت في البكاء..
كان عسير عليها ان تغادر تلك العائلة التي آلفتها
محال لقلبها أن يعود كالسَّابق بعدما انتمى لجدران هذا المنزل..
الصقيع في الخارج سيمزق جسدها الضئيل ولن يكون لها دواء إلا دفء هذا المنزل وساكنيه.
لكن حذار يا قلب..
فإنك على حافة السقوط..
السقوط في حبٍ لن يكون لك..
ولن تكون له..
بلال بأخلاقه لن يتمنى مثلها زوجة..
هو بعيد المنال، كقمرٌ فوق السماء يضوي يحيط بهِ سياجٌ من النجوم كلا تطاله الأيدي..
لقد أخبرتها سهير إنه يود زوجة حافظة للقرآن وهي هاجرة للقرآن من يصدق إنها كانت حتى لا تعرف تقرأ ولا تكتب إنها لم تكمل دراستها فقد اخرجها والدها متعللًا بسوء الحال وعدم قدرته على الإنفاق عليها..
لكنها لم يهدأ لها بال وبعدما بدأت في توالِي شئون نفسها، حتى أخذت كورسات ودورات في ذلك ومع ذلك لم تقرب مصحفًا، ولم تلمسه يومًا..
كانت ترى نفسها إنها لا تستحق وإن لمسته سيتلوث بذنوبها..
لم تؤدي فرض يومًا وبالأخص عندما أضحت نجمة مشهورة..
بداية طريقها كانت عجيبة فذات يومًا رأها فيه صديق أبيها وقد استشف فيها موهبتها كم يقول، فإذا به يسرع إلى قريبه المخرج ويخبره عنها..
فلا تسل عن سرعة ذلك بعد إذ..
فلم يمر الكثير وجاء ذاك المخرج ليقيم بضاعته ويقبلها...
ثم دور صغير ثانوي في إحدى الأفلام تلاها دور بطولة لإحدى المسلسلات وتوالت شهرتها ونجميتها..

والتقيناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن