والتقينا

450 13 2
                                    


حلقة خاصة
والتقينا

زقزقةُ العصافير وهي تحطُ فوق نافذة حجرة المطبخ تؤنسها وهي تختلس النظر إليها ببسمة متسعة كأنما تودُ لو إنها تصبح عصفورة فتحلق معهن في السماء الواسعة، صوتُ المذياع يصدر منه القرآن الكريم وهي تقف تعدُ الطعام الذي ملئت رائحته البيت.
يدين أحاطتا خصرها من الخلف، جعلتاها تترك ما بيدها، وهي تبتسم قائلة بحنو:
_استيقظت؟! صباحُ الخير.
فتبسم بلال وهو يلثم وجنتها، مغمغمًا:
_صباح النور.
وسأل مستدركًا وهو يتلفت حوله باهتمام:
_أين إستبرق؟
أبتعدت إسراء عنه، وأجابته بنبرة هادئة:
_مع عمرو..
وأطرقت لهنيهة، ثم قالت وهي تتنهد بضيق:
_إستبرق لست على ما يرام يا بلال، الفتاة بها شيء، منذُ إن عادت من مدرستها البارحة وهي يإما باكية أما واجمة.
قطب بلال حاجبيه مستغربًا، ثم قال لها بلطف وهو يغمز لها بمرح:
_حسنٌ لا تقلقي سأعرف ما بها.
وأردف يقول وهو يخرج من المطبخ:
_سأرى والدتي واطمئن عليها.
اومات إسراء برأسها، وهي تشيعُه بنظرات تضوي بالحب، وأستدارت ناظرة إلى السماء، ومن عينيها أطلت نظرة دامعة، ولهج لسانها بالحمد عمَّا أبدلها الله من خير كانت تخشى ألا تناله.
تناهى لها صوت الباب الخارجي يغلق، ورأت عمرو يدلف، فأبتدرته قائلة بلهفة:
_عمرو، أين إستبرق؟
وقف عمرو شقيق زوجها بلال وهو يضعُ كتبه جانبًا، ويقول مندهشًا:
_إستبرق! ألست هُنا؟ فهي ليست معي!
ضيقت إسراء عينيها في ذهول، ووجمت مليًا بشرر، ثم زفرت غضبها بهدوء، ولم تلبث إن كانت إستبرق تسيرُ نحوها وهي واجمة الوجه، دامعة العينين، ورمقتها بنظرة غريبة، آثارت ريبة إسراء، فسحبتها من ذراعها وذهبت بها إلى حجرة نومها وهي تقول:
_تعالي فلتخبريني أين كنتِ؟
فقالت الصغيرة بلطف لا يخلو من الضيق:
_ولماذا في حجرة نومي يا أمي كنت سأخبرك بالخارج، لقد كنتُ لدى زنجبيل أبنت عمتي سهير.
أشتعل الغضب في عينين إسراء، وهي تسألها في غضبٍ:
_ولماذا إذن كذبتي عليّ وقولتِ ليّ إنك ستذهبين حيثُ يجلس عمك عمرو.
أجابت الصغيرة ببساطة، وهي تهز كتفيها بإستهانة:
_ربما لإني لو كنت أخبرتك لكنتِ رفضتي لذلك أضطررت للكذب.
صاحت إسراء هائجة:
_إضطررتِ لماذا؟ وبتِ تكذبين يا إستبرق أيضًا!
هتفت الصغيرة ودمعها ينساب في غزارة:
_ولماذا لا أكذب يا أمي؟ ألم تكذبين طويلًا؟ ألم تكوني ممثلة مشهورة تخرج على التلفاز وهي تتصنع الحب، لقد خُدعت بكِ يا أمي، صديقاتي يعيرونني بكِ ويستهزئون بيّ قائلين: ما رأيك لو تخبري والدتك لكي تجعلنا نمثل مثلها!
واخرى قالت ليّ وهي تريني مشهد وأنتِ تحتضنين فيه رجلٌ غير أبي: إن والدتك تسلب الرجال عقلولهن كانت علاقة أمك بهذا الرجل جيدة حتى تمنيت قصة مثلها.
وشحب وجه إسراء وهي تتقهقر للوراء، متسعت العينين وقد أرتعدت فرائصها، وأنتفضت جوارحها، وأحست كأنها عارية أمام ابنتها وتفجر الدمع من بين أهدابها الطويلة، ثم جثت على ركبتيها إزاء ابنتها، وضمت وجهها بين كفيها، ونظرت إلى عينيها الباكيتين التي تشبهان عينا والدها، وهمست بغصة:
_لا أنكر يا ابنتي.. أنا بالفعل كنت ممثلة.
أمتقع وجه الصغيرة وهي تحدق فيها كأنها تفيق من صدمتها، بينما أسترسلت إسراء بهدوء:
_في حياة كُلاٍ منا نقطة سوداء يخجل منها، وهذه هي نقطتي السوداء، أنا لن أبرر لكِ شيء لكن إعلمي إن والدتك التي أمامك ليست كما كانت سابقًا، منذُ إن إلتقت بوالدك وهي أحدٌ آخر وُلد من جديد.
وسكتت وهي تمسح دموع ابنتها بإبهاميها، وتابعت:
_وأعاتبك على شيءٍ واحد يا صغيرتي.
أطل التساؤل من عينا إستبرق، فهمست إسراء:
_ألم يعلمك أبيكِ ألا تستمعي لأحد ما دامك لا تعلمي عن الموضوع شيء! ألم يخبرك عن حسن الظن؟ ألم نعلمكِ إن الكذب حرام؟
أطرقت الصغيرة خجلة، وأسبلت إسراء جفنيها في خوف على ابنتها التي كذبت عليها توًا!
فهل عندما تكبر قد تكذب!
قد تخرج من وراءهما دون أن يعلموا؟
أن تخبرهم إنها في مكانٍ وهي في آخر؟
تنهيدة عميقة ندت عن إسراء، وهي تتنهد قائلة بحنو:
_يا بُنية إن الكذب هو رأس كل خطيئة، وهو طريق لا يؤدي إلا إلى نارِ جهنم وإتقي يومًا تقفين فيه أمام الله ويحاسبك، ولا يجتمعان الكذب والإيمان في قلب المؤمن، والكاذب مطرود من رحمة الله فخافي الله قبلي وقبل أبيكِ والرسول يقول: " إنّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإِنّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النّارِ وَمَا يزَالُ العبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرّى الكَذِبَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذّابا".[رواه البخاري ومسلم].
فلا تجعلي في صحيفتك (كاذبة) فإنكِ والله ستبعثين أمام الخلائق جميعًا الأولين والأخرين والأنبياء.
شهقت إستبرق باكية، وأخذت تهتف بالأستغفار الذي علمها إياه أبيها، وحضنت امها وهي تتأسف بصدق.
            
                          ***********

والتقيناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن