خاتمة
جلست قبالته على مقعدها بأحد النوادي الاجتماعية والفضول ينهشها بينما بعض من الحبور يشع من نظراتها، قالت بفضول: لم تدعني للخروج معك من قبل وحدنا، يا ترى ما سر هذا الرضا عني كي تفعلها الآن؟
تطلع لوجهها بمرح ثم أدار وجهه متظاهرًا بعدم الاكتراث بها عدة لحظات بينما يراقبها بجانب عينه، وعندما وجدها ما زالت تنظر له بانتظار إجابة شافية عاد ونظر لوجهها الفتي قبل أن يقول بمرح: لست راضيًا عنك أيضًا، مجبر أخاك لا بطل.
عبست بوجهه متظاهرة بالحنق ومتذمرة: وما الذي يجبرك على فعلها! ألا تتمتع ببعض اللياقة كي تتظاهر بالعكس بعض الوقت؟
ثم مالت نحوه هامسة بنبرة من يتواطأ مع أحدهم لفعل كارثة: أعرف السبب، لقد أحضرتني هنا كي تتملقني فأداري عن والدتي مصيبة ارتكبتها بالخارج، أليس كذلك؟
ثم هزت رأسها قائلة برفض: لا، ليست مصيبة، أظن أنك تنوي أمرًا وتخشى أن تطلبه من الوالدة فأحضرتني كي تتملقني فأكن بصفك حين تقلب الدنيا على رأسك، نعم هذا منطقي أكثر، ها أخبرني ما تريد طلبه من الوالدة كي أفكر فيه وأعرف إلى جانب من سأقف.
دفع يده نحوها كأنه ينوي خنقها بينما يقول معنفًا بمزاح: اصمتي، ما كل هذه الثرثرة! هل ابتلعت المذياع قبل أن تأتي هنا؟ بعض الهدوء وسأخبرك.
كتفت يديها قائلة بتبرم: ها قد صمتنا، هات ما عندك!
أدار رأسه حوله كأنه عاجز عن إمساك بدايات الكلام وإحضارها إلى الطاولة، ثم تنهد قبل أن يتحدث بهدوء:
أحدهم يريد خطبتك، وقبل أن تعطي رأيًا يود أن يقابلك بشكل شخصي بعد قليل .
هزت رأسها ضاحكة بسخرية ومستمتعة: وما الجديد؟ كل مرة يتقدم أحدهم ويتم رفضه لأسباب متنوعة، تعرف أن الزواج ليس ضمن اهتماماتي حاليًا، ثم ما هذه السرعة والتعجل! ألا يعرف أن في العجلة الندامة؟!
حرك يديه مستسلمًا قبل أن يقول: حسنًا سأرفضه دون الدخول بتفاصيل مملة.
ثم أخرج هاتفه وتظاهر بأنه يبحث عن رقم معين فقالت غاضبة: أعطني بعض التفاصيل أولًا؛ ربما أجد به ما يغير رأيي!
تظاهر باللامبالاة: لا يهم، سأخبر رائف أنك ترفضين الزواج بالوقت الحالي و...
قطع حديثه حين لمح ما ظهر على وجهها من صدمة، لم تنطق بالفعل لكن شحوب وجهها واتساع عينيها دفعاه للصمت، ناداها بقلق: ميسون! أنت بخير؟
ظلت صامتة تحدق به قبل أن تنهض مسرعة وضربات خافقها تقرع صدرها بعنف، قالت متلعثمة: اعذرني! الحمام.
ثم انطلقت بخطوات أشبه بالعدو نحو مكان الحمام، أما هو فظل يحدق حيث اختفت قبل أن يهز رأسه بوجل: يا إلهي! ارزقني حسن التصرف مع المجنونة التي ابتليت بها، كيف سأخبرها بأنه يريد التحدث معها قبلًا دون أن تسقط بغيبوبة فعليًا؟!
وقفت أمام المرآة كالمغيبة، تشعر أنها تعيش حلمًا غريبًا لا تصدقه؛ فبالأمس القريب كانت تتمنى نظرة منه تشعرها بأنه يهتم، أو يفهم، أو يشعر كما يشعر البشر الطبيعيون، لكنها قد فقدت الأمل وكل أمل لها بهذا كلما تعمقت مشاعرها نحوه بينما هو لا يظهر أي بادرة.
بطبيعة الحال تعرف أن مشاعرها نحوه خطئها هي وربما يشاركها محمد بعضًا من الخطأ؛ فلم يكن رائف يبدي لها شيئًا أو يظهر اهتمامًا أو حتى كانت متأكدة منه إن كان يعرف بوجودها أم لا، انجرفت خلف طوفان من مشاعرها الساذجة الدالة على عدم خبرتها بالحياة، رأت فيه صورة لرجلها الذي تتمنى الزواج منه بأدبه وأخلاقه وطباعه، ربما ما ذكى مشاعرها نحوه كلام محمد الدائم عنه، كان محمد يحبه ويقدره للغاية، يشكر أخلاقه وهدوء طباعه واختلافه عن باقي زملائه، وكثرة المدح تميل القلب وتلين المشاعر، وهذا كان سبب سقوطها وانسياقها خلف مشاعر كانت تظن أنها لا تملكها.
أما أن يخبرها محمد بأنه يريد خطبتها فهذا ما لم تتوقعه حتى بأفضل أمانيها وأحلامها؛ فقد كانت تظن أن مشاعرها ستبقى مكومة داخل جنبات قلبها حتى تضمحل ويغمرها غبار السنين، بل وربما تعشمت أن يأتي يوم فتتجاوز كل ما تشعر به لتعود كما كانت في سابق عهدها دون اندفاعة الحب ولوعة الاشتياق، الآن تحديدًا تشعر بالخوف، التخبط، التشتت والضياع.
مشاعر متعاقبة مرت على وجهها ولم يكن الفرح واحدًا منهم، ربما لأنها لم تجدوله بحساباتها أبدًا أو تخطط لحدوثه. ظلت تنظر لوجهها الشاحب بضياع، أينبغي عليها القبول، أم أن الأمر محسوم من قبل وعليها ألا تنساق خلف مشاعرها العمياء!
ارتفع رنين الهاتف لينتزعها من دوامة التخبط التي ابتلعتها، نظرت لشاشته بقلق، كان محمد أخوها هو المتصل، أجابت اتصاله بوجل وما زال قلبها ينبض رهبة وتوترًا، وصلها صوته القلق: ميسون، أنت بخير؟
أجابت بخفوت: بأفضل حال، ثوان وسوف أخرج، لا تقلق.
كانت تريد منه طمأنتها بأنه كان يمزح، أو أن ما سمعته كان أضغاث أحلام، لكنه أكد عليها بصوته الحنون: حسنًا بانتظارك، قلقت من ردة فعلك على ما قلته.
إذًا لم تكن تحلم، ما قاله لها كان صحيحًا وهو يعرف، ربما الجميع يعرف بحبها لرائف عداه هو.
أنهت المكالمة وعادت تناشد صورتها بالمرآة: أخبريني كيف أتصرف، سأكون مجنونة إن رفضت، لكني لا أعرف كيف أتصرف، ربما تؤذيني فورة مشاعري نحوه، ولماذا يريد لقائي أولًا قبل كل شيء؟
ثم قرصت وجنتيها مؤنبة بغضب: كم أنا غبية!
كانت تحدث نفسها بصوت مسموع دون أن تنتبه، لكنها انتفضت حين فتح الحمام وخرجت منه شابة بالثلاثين من العمر أخذت تنظر نحوها بفضول، اتجهت نحو المغسلة المجاورة لها وبينما تغسل يديها تحدثت بعفوية وعلى ثغرها ابتسامة تنم عن إحراجها: دعي الأمور تسير وتأخذك معها حيث ترسو، كثرة التفكير لن تصل بك إلى البر.
ثم غمزت ضاحكة وتركتها كما هي متصلبة في وقفتها، ما إن خرجت الشابة حتى تحركت ميسون خلفها تتمتم لنفسها: دعي الأمور تجرفك حيث تريد، حينها ستعرفين إن كنت مجنونة بما فيه الكفاية أم أن جنونك به بعض العقل والمنطق.
اتجهت نحو محمد الذي كان يتراسل مع أحدهم على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعية وما إن لمح قدومها حتى رفع رأسه ينظر إليها بقلق جم، وقبل أن يسأل عما إذا كانت بخير بادرته بسخرية خرجت باهتة: نعم بخير ولا ينقصني سؤالك مرة ثالثة.
مازحها ليكسر حدة سخريتها: وأنا من ظننتك قد سقطت بغيبوبة بالحمام، يا لقلبي المرهف ويا لقسوتك!
رمقته شذرًا وقد نجح بتشتيت انتباهها عن تخبط مشاعرها قبل أن تجابهه بسخريتها: وما السبب الذي سيسبب لي الإغماء؟
ابتسم قبل أن يميل نحوها متسائلًا وقد اختار عدم الرد عليها: ها، ما قولك فيما عرضته عليك منذ قليل؟ أما زلت ترفضين الزواج وترينه خطوة غير محبذة بهذا الوقت؟
اعتدلت في مجلسها قبل أن تتماسك لتجيب بهدوء: ربما لأنك تثق بصديقك هذا علي أن أمنح نفسي فرصة التفكير بالأمر، أليس كذلك؟
ابتسم من ردها الذكي، رفع هاتفه قائلًا بحبور: ولن تندمي على وثوقك بأخيك جلاب المصائب، سوف ينضم إلينا صديقه بعد نصف ساعة كي يتحدث معك بأمر يراه مهمًا قبل أن نعطي رأينا به، وهذا ما لن أحرمك منه، فكري جيدًا واتخذي قرارك، وصدقيني أنا لن أتأثر به أيًا كان ردك.
هزت رأسها مبتسمة وواثقة، كان أخوها درع أمانها، تثق به وبأنه سيهب للزود عنها إن احتاجته، ربما هذا ما يدفعها المضي قدمًا بالحياة، إحساس الأمان الذي يلفها ويغطيها بكاملها. وكانت شدة عضدها بأخيها نعمة لا يملكها الكثيرون.
***
تقدم بخطوات مترددة، كمن هو مقدم على شيء يهابه ولم يعطه الفرصة لهضمه في تفكيره، أخبرته السيدة لطيفة أن استقراره بالزواج خطوة سوف تعدل من حاله كثيرًا، وحين ذكرت هذا قفز برأسه صورة ميسون وتشتتها بحضوره، نجحت أن تزرع داخله صورة لها رغمًا عنه، وقد اختزنها عقله الباطن لحين عوز أو حاجة، والآن حاجته ملحة، طلبه للأمان في صحبة تهبه بعض الهدوء وكثير من التوازن كان جمًا، ومحمد أخبره أن زواجه من ميسون خطوة مرحب بها، لذا عليه فقط أن يخبر ميسون بحاجته، إن تفهمت فقد ربح وهنيئًا له، وإن رفضت الارتباط به فقد خسر، وربما سيرجئ الأمر كثيرًا حتى يعاود البحث من جديد، وربما يعزف عن اتخاذ هذه الخطوة مجددًا لافتقاره إلى الشجاعة الكافية لفعلها.
اقترب من الطاولة التي يجلس عليها صديقه مع أخته، كانا غافلان عن اقترابه بينما يتحدثان سويًا ويمزحان، وقف ثابتًا عدة ثواني، أيقطع عليهما حديثهما أم يقترب، لكن سؤال ميسون المازح دفعه للثبات محله، كانت تتأفف بضحك: ألن يأتي صديقك هذا؟ تعرف أنني صاحبة مسؤوليات ولست متفرغة.
خبطها محمد على كفها الموضوع على سطح الطاولة معترضًا بسخرية: مسؤوليات! نعم أعرف أن الشركة التي أسستها بخيالك تحتاج وجودك دائمًا، من يسمعك الآن لن يصدق ما حدث لك حين أخبرتك بقدومه لخطبتك.
عبست بغضب مصطنع بينما تقول معنفة: لم يكن هو السبب، كنت أشعر بالحاجة إلى دخول الحمام، ليس إلا!
اختلج قلب رائف حين سمع هذه الجملة المعترضة، إذًا ما يصيبه بالارتباك في حضورها حقيقي، ربما لأن ما يصله من مشاعرها لم يجربه قبلًا، أو أن توترها واندفاعها بردود فعلها الغير متوقعة أمامه يترك بصمات داخله لم ينتبه لها سابقًا! اكتفى من وقفته وخاف إن ظلا غافلين عن وجوده أن ينتهك أسرارهما ويسمع ما لا ترضى بسماعه إياه؛ لذا اقترب متظاهرًا بالقدوم في التو واللحظة، حياهما بأدب فجذب محمد مقعدًا مجاورًا له كي يجلس عليه، جلس رائف بوجل وحل الصمت رفيقًا على المائدة، لذا تولى الأخ دفة الحديث مبددًا سحب الصمت الكثيفة: أخبرتك يا ميسون بأن صديقي يود خطبتك، لكنه أراد إخبارك ببعض أموره قبل أن تعطي رأيك بالأمر، لذا اسمعي جيدًا ما سيقول وفكري جيدًا أيضًا، الآن سوف أذهب إلى الحمام وأعود بعد قليل.
انسحب في كياسة تاركًا صديقه يلوك طرف لسانه دون أن يعثر على كلمات مناسبة يبدأ بها حديثه، أما ميسون فظلت صامتة ثم حين رفعت رأسها تنظر نحوه أشفقت عليه، كان محمر الوجه متعرق الجبين زائغ النظرات، كمن سقط في مأزق ولم يستطع منه خروجًا، قررت أن تمزق أوصال الصمت المنعقد فوق الرؤوس، تحدثت بلباقة تحسد نفسها عليها: أخبرني محمد أنك تود الحديث عن أمور خاصة بماضيك، أخبرني ما تود قوله دون تردد، وأعدك سأكون متفهمة ولن أقاطعك.
كانت تعرف عنه كل ما يعرفه محمد وأخبرها به خلال النصف ساعة المنصرمة قبل حضور صاحب الشأن، والآن وهي تراه هكذا شكرت محمد بسرها أن أخبرها بأمر صديقه؛ إذ يبدو أن المسكين يعاني الأمرين مع ذكر ما يخص أعوام حياته الماضية، أما رائف فحين سمع حديثها المتأني الواثق هدأ قليلًا، نظر لها ثم أخذ شهيقًا عميقًا قبل أن يخرجه على دفعات مانحًا نفسه الفرصة ليستجمع شتات أمره، أجلى صوته قبل أن يتحدث ببعض الهدوء: حسنًا دعيني أبدأ وأوضح لك لمحة عما حدث، فما زال بعض الشعور بالذنب يقتات على سلام روحي ويسبب لها الألم.
ثم أمسك المجداف وفرد الأشرعة ليبحر معها في عباب الذكريات، وكم كانت ذكرياته أليمة!
انتهى رائف من طرح كل ما يود قوله وأمسك بعض الذكريات مقيدًا سراحها أن تنزلق مع بوحه، فلم يرد أن يكشف لها كل ماضيه، أخبرها بجزء التنمر الذي تعرض له من شلة الأولاد باختصار شديد حتى وصل إلى جريمة القتل، ثم بعدها حكاية موت رامي باختصار دون تفاصيل، لم يرد لها أن تعرف كل ماضيه دفعة واحدة، فكر أن معرفة الأساسيات ضرورة، فإن ارتضت به زوجًا عرفت كل شيء حينها، وهي لم تخذله ،استمعت له بانتباه، وأبدت بعض التعاطف لحكايته، حتى إذا وصل إلى الختام صمتت وداخلها مشاعر متضاربة، لم يخذلها قلبها بل اتسع محبة وعشقًا، ربما حكايته أكسبته بعض التعاطف أيضًا داخلها، فقلما يخبرنا أحد بأنه يحتاج لمن يسمعه، وإن فعل فهذا يعني اختصاصه للمستمع بكثير من الاهتمام، وربما رأى فيه ما يبحث عنه من أمان، وكانت ميسون على أهبة لخوض التحدي دون تردد، فمن أتى يخبرها بحاجته للبوح هو حبيبها السري منذ عام، لم تخبره هذا وإنما قالت بمودة:
ربما ليس من حقي معرفة كل ما مررت به بطفولتك، فما يهمني الآن هو من أنت وكيف صرت، ربما فيما بعد قد يهمني الأمر من باب التشارك ومحاولة فهم أبعاد شخصياتنا سويًا، لكن سأخبرك أمرًا، حتى وإن كان الأمر قد ساء عن هذا فأولًا أنت ضحية لهم، وثانيها ما مضى قد مضى لحاله ولا يهمنا بشيء، وثالثهما لن يؤثر ما سمعته منك الآن على تفكيري.
كلامها أصاب توتره في مقتل، ألبسه هدوءًا قلما شعر به، واستكانة لم يشعر بطعمها أبدًا، تشعب الحديث بينهما فترة من الوقت قبل أن يعود محمد فينضم إليهما، ثم انفض مجلسهم على وعد بلقاء آخر، وكان الوعد غير منطوق، لكن القلوب شعرت به وأحسته وارتضته سبيلًا.
***
وقف أمام المرآة متأنقًا، عدل ربطة عنقه ذات اللون الأزرق الداكن والمتناسقة مع سترته الكحلية اللون وقميصه الأبيض، راقب وجهه كما يفعل كل صباح حين يريد الاطمئنان أنه صار بخير، أحيانًا يشعر بالغرابة لملامحه التي تطل عليه تحمل حيوية لم يعتدها، عدل خصلة نافرة من شعره الناعم وراقب شفتيه التي تهمس بكلمات بطيئة أمام المرآة كأنه يرددها بصوت مسموع له ليستشعرها حقيقة (أنت بخير، ابتسم، تقبل التغيير نحو الأفضل حتى يصبح واقعك أفضل بحق)
وكان هذا التحدي الذي يخوضه الآن، إقناع نفسه كلما خطفته ذكرياته إلى الماضي أن يعود بحال جيد، وقد نجح دائمًا بفعلها، ربما لم يكن لينجح لولا تبسم الحظ له بوجود ميسون معه، طافت على ثغره ابتسامة حين وصل إلى هذه الحقيقة، شعلة متفجرة من الطاقة والمرح واللطافة، دائمًا تدفعه للركوض خلفها، ردود أفعالها، تفكيرها، حماسها، كلها أشياء لم يعتد عليها بطبيعته الهادئة حد التجمد، وكانت هي مفرقعات العيد المبهجة التي تضفي مرحًا وحبورًا إلى الصورة التي وضع نفسه داخل إطارها.
رن هاتفه يخبره باتصالها، نبض قلبه حين قرأ اسمها، مرر أصبعه على الشاشة يجيب اتصالها فاندفعت تسأله: أين أنت، أما زلت بالمنزل؟ سنتأخر يا رائف!
أغمض عينيه لحظات يستلذ طعم مشاعره التي بات يحملها بقلبه نحوها، همس بخفوت: هل وصلت؟
همسه دفعها للهمس مثله: أوشكنا! أنت بخير؟
- الآن أنا بخير.
كانت تريد مشاكسته، لكن جملته هذه تعرفها، حبيبها يعاني، لا يقول جملته تلك إلا إن كان يرزح تحت وطأة ذكرياته، لذا خفضت صوتها كي لا يسمع محمد الذي يقود السيارة بتركيز ما تقول: أنت قلق؟ هل حفل الليلة يؤثر عليك؟
أجابها بصوت حاول التظاهر فيه أن كل شيء على ما يرام: لا تقلقي، أنا بخير، سأنتظرك أسفل البناية، هل وصلت؟
كانت سيارة محمد قد وصلت أمام البناية حيث يسكن رائف، لذا ما إن وصلت حتى اندفعت من السيارة بلهفة نحو الواقف أمام المدخل، وقفت أمامه وعيناها تتجولان على ملامحه تتلقف أي إشارة تخبرها بصدق حدسها، ابتسم لها مطمئنًا قبل أن يمد لها ذراعه فتتشبث به بحركة تملكية اعتادها منها، سألت بقلق: أنت متوتر، هل تود أن نلغي ذهابنا؟
هز رأسه نافيًا قبل أن يؤكد مرة أخرى: أنا بخير يا حبيبتي، صدقيني، وجودك يمنحني الثقة دائمًا، ثم أنني لن أستطيع التخلي عن مهند بوقت كهذا، يحتاج وجودنا أكثر من أي وقت مضى في هذه الليلة تحديدًا، أليس كذلك؟
أومأت برأسها ايجابًا، منذ أن عرفت حكاية رائف وهي تحاول بكل طاقتها تصحيح مساره، ولم يكذب عليها قط، أخبرت محمد بقبولها خطبته فأصبحت الخطبة عقد قرآن، وهذا كان اختيار أخيها، وكان هذا من دواعي فرحها وسعادتها، فلقد سمحت لها هذه الخطوة بفعل ما لم تكن لتفعله إن كان الأمر مجرد خطبة عادية، سمح لها بالتجول داخل ذكريات رائف، زعزعة الصورة السوداء التي اختزنها بذاكرته ومحاولة إضفاء بعض الألوان عليها مبددة قتامتها، حتى حكاية مهند ساعدته كي ينتشله مما يمر به، واليوم هو نتاج آخر لنجاحها مع حبيبها، اليوم كان حفل افتتاح أول معرض للرسم يقيمه صديقه تعيس الحظ سابقًا، والمحظوظ بوجودهما جانبه حاليًا.
كان رائف قد عرض على مهند الالتجاء لمعالج نفسي يثق به، أخبره أن الموضوع لا علاقة له بإدمانه المخدرات ولكنه سيساعده على إعادة اكتشاف ذاته والبحث داخلها عما ينقصه، وافق مهند مترددًا لكنه مع الوقت استعاد شغفه بالرسم، ولأن الرسم كان هواية ميسون أيضًا فساعدته على الالتحاق بأكاديمية تعليم فنون تعرفها وتثق بمدربها، ونجح مهند في اقتناص الفرصة التي عرضت عليه، بل ولأن الماديات لا تعوزه فلم يوقفه شيء، حتى قرر افتتاح أول معرض له، وأسماه «جولة في عقل مدمن» وكانت ميسون مدفوعة بالشغف لترى رسوماته التي وصفها رائف بأنها سوداوية كئيبة، لكنها تعرف أن رائف لا يفهم الرسم وما يرمز إليه، وها هي الآن بطريقها لترى نجاح صديق زوجها والذي بطريقة ما انعكس على زوجها إيجابًا.
اقتربا من السيارة فأفلتت ذراعه حياء من أخيها، وتحركت السيارة إلى وجهتها تحمل ثلاثة أشخاص كل منهما يحمل داخله أفكار متباينة، فمحمد كان يفكر بأنه ربما يحتاج أن يأخذ خطوة فيتقدم لخطبة زميلته طبيبة القلب، بينما رائف عاد ليسقط بذكريات لقائه بمهند ويقارنها بحاله الآن، أما ميسون فقد كانت سعيدة ومجهدة، سعيدة لأن حياتها استقرت بتحقيق أمنية قلبها، ومجهدة لأنها مجبرة على المحاربة مع رائف وحوش ذكرياته السوداء، ورغم ذلك كانت على أهبة الاستعداد للمضي معه إلى آخر المطاف، فأمام إجهادها ومحاولاتها المضنية لمساعدته وجدت منه الحب والتقدير، وكان هذا ما تطمح إليه، أن يقابل حبها له حبًا يسكن قلبه وتقديرًا لها ولشخصها، ورائف لم يقصر أبدًا بإشعارها بهذا، وقد كان يستحق ليالي الشوق المضنية التي دفعتها لأجله سابقًا؛ فبعض قصص الحب تسفر عن نهايات تقارب الخيال.
***
أمام لوحة جدارية تحمل ضربات فرشاة سوداء ترسم شكلًا سرياليًا لجسد متكوم على نفسه أرضًا وقفت تحدق بانبهار، كانت تقرأ خطوط اللوحة بكل سهولة، لا تعرف السبب بعد، هل لأنها تعرف أبعاد نفسية مهند بحكم معرفتها لسابق الحكاية التي جمعته برائف، أم لأنها بارعة بالرسم أيضًا؟!
انتبهت للذي وقف جانبها بصمت، نظرت إليه فوجدت عينيه قد تعلقتا بصفحة اللوحة في وجوم، تحدثت بمرح مفككة عقد الصمت التي بدأت تنعقد على وجه رائف: صديقك موهوب، كيف لم ينتبه إليه أحدهم يومًا؟!
انتزع عينيه من على اللوحة انتزاعًا ليعلقها بوجه ميسون، أجاب بتأن: كثير من الناس يعيشون ويموتون دون أن ينتبه إليهم أحد، والأغلب لا يدرك الغاية من وجوده بالحياة، حتى إذا انقضى عمره ورحل، وأزفت النهاية يسطع الإدراك بما فوته من حياة أمام عينيه، بل ويندم لأنه لم يكن من الذكاء لإدراك كم النعم التي عاش بها ولم يكترث، أو لم يراها كما يجب.
أطلقت ضحكة صافية قبل أن تقول: أراك تحولت فيلسوفًا!
جاراها بمزاحها: بل أنا فيلسوف طوال عمري، لكني لم أجد من يستطيع استحضار فلسفتي كما تفعلين.
ابتسمت وتوهجت نظراتها بمحبة، لكنه أكمل حديثه: حين نظرت للوحة هذه رأيت فيها أشياء أبعد مما رسمت للعامة؛ فهذا الجسد المتكوم أرضًا يمثل رامي، وهاك الظل الداكن الملتصق بالجدار يمثل مهند، هالة الضوء التي تحيط بسقف المكان هي لحظة الخلاص، وتلك الخطوط السوداء الكثيفة لو نظرتِ إليها ستشعرين أنها تتجه نحو الهالة، في رأيي أرى أنها تعبير عن كل المشاعر السوداء والمخاوف التي تملكت ظل مهند المجاور للحائط.
كانت ميسون تتابع حركات يد رائف على اللوحة تتأمل تحليله للجدارية الضخمة بشغف، ربما لم تفسر الخطوط كما رأها هو لكنها تميل للأخذ بنظرته، راقها شرحه فابتسمت ثم صفقت بمرح قبل أن تقول: وتخبرني بأنك لا تجيد الرسم ولا تحبه، إذًا كيف لو أحببته!
تعلقت عيناه بوجهها المبتسم قبل أن يجيب بهدوء: وكيف أحبه وأنا إنسان متوحد لا يجيد فعل الأشياء سويًا، إن أحببت فسوف أنتقي شيئًا واحدًا، وعليه فسيكون هذا الشيء شخص غالي على القلب، ولا أجد أغلى منك لأحب.
اتسعت ابتسامتها لتلتهم وجهها كله لكنها لم تتخل عن طبعها المشاكس المحب للمزاح لتقول: يا ويلي من رومنسيتك المفرطة! الآن أصبحت أنا شيئًا وكأنني قطة تعطفت عليها بنهاية المطاف، هل يعقل أن تضع جملة شرطية تبدأ بإن أحببت حين تتحدث عن زوجتك؟
عقد حاجبيه مفكرًا في اعتراضها على ما قال ومحاولًا إمساك موضع الخطأ في جملته لكنها لم تعفيه وأكملت: إن أحببت تعني أنك لم تفعل بعد، يبدو أنك راسب في اختبار اللغة العربية وتحتاج دروس تقوية بها.
ظل محدقًا بوجهها لحظات ثم انطلقت ضحكة صافية من قلبه لتضيء ملامح وجهه كلها، أمسك كفيها بين كفيه ليقول باستسلام محبب: وأنا رهن أمرك، أنتظر منك دروس اللغة العربية وانتظري مني أن أصبح امرؤ القيس لأجلك.
شدت على كفيه بمحبة وقد عرفت أن حبه بقلبها لن تنقصه السنوات، وأن قلبها أجاد الاختيار حين سقط بحبه رغمًا عن إرادتها، تنهدت بمحبة قبل أن تغمغم: رائف.. كن دائمًا هكذا..
كن كما أحببتك.
- بل كوني دائمًا حبيبتي، فأنا دون حبك ضائع لا محالة.
***
تمت بحمد الله
أنت تقرأ
لا تعبث مع خائف
Mister / Thrillerتدور الرواية في الحاضر مع طبيب يصارع ماضٍ يطارده ويصر على تنغيص حياته، هل كان هو القاتل أم أن هناك من ورطه في جريمة حدثت في مدرسته، هل الخوف دافع قوي لإنهاء حياة شخص آخر؟ كلها تساؤلات تجيب عنها أحداث الرواية.