في تلك الغرفة المظلمة، حيث يعم الصمت المخيف إلا من بضع شهقات خافتة صدرت من ذلك الجسد الضئيل لفتاة متكومة أرضا في وضع الجنين... تهتز بعنف و عيونها تذرف من الدموع أنهارا.... تصلبت فجأة تنظر برعب للباب الذي فتح لتستكين ملامحها حينما أبصرت تلك السيدة التي تدفع مقعدها المدولب بصعوبة... أغلقت الباب خلفها تقترب من مكان ابنتها الجاثية أرضا على البلاط الحجري، أوقفت كرسيها على بعد سنتيمترات منها ترمقها بأعين تبلورت إثر الدموع الحبيسة بداخلها، هتفت بصوت مختنق-"أأنت بخير يا صغيرتي؟"
تحاملت أمنية على نفسها لتعتدل جالسة رغم الكدمات التي انتشرت على جسدها العليل، ربتت على ركبة والدتها بحنو-"لا تقلقي يا أمي... أنا بخير، لقد اعتدت على هذا."
ثم امتدت يدها ناحية صدرها تخرج رزمة من النقود كانت مخبأة بين طيات ثيابها، لوحت بها أمام عيني والدتها هامسة ببسمة جاهدت لرسمها-"المهم أنني استطعت الاحتفاظ ببعض النقود من أجل علاجك، فلا تحملي هما يا أمي."
شهقت الأم بعنف و قد غزت وجنتيها دموع حارقة قائلة من بين شهقاتها-"أنا آسفة... آسفة لأنني لا أستطيع التصدي له يا أمنية... أنا عاجزة حتى عن الدفاع عنك، سامحيني حبيبتي."
انسابت قطرات الدمع على وجنتي أمنية مجددا، طوقت والدتها بذراعيها تهتف ببكاء-"لا داعي للاعتذار، وجودك معي هو أعظم ما قد تقدمينه لي."
اهتزت الاثنتان عندما تعالت صرخات غاضبة في أرجاء البيت المتهالك-"كفاكم لهوا و أحضروا الطعام، أنا جائع، أسرعي يا منى و إلا طالك ما أصاب ابنتك."
انتفضت أمنية بعيدا عن والدتها تهتف مغادرة الغرفة-"سأعد له الطعام سريعا و أعود يا أمي."
_____________
بعد مرور بعض الوقت، كانت أمنية تسير في الممر حاملة طبق الحساء بين يديها متجهة إلى غرفة ذلك المسمى خطأ والدها... طرقت الباب قبل أن تفتحه تلج من خلاله إلى تلك الغرفة الكئيبة، اتسعت عيناها عندما لمحته جالسا القرفصاء على الفراش الخشبي القديم يستنشق ذلك السم الأبيض الذي يشتريه بمالها بعد أن يأخذه منها قسرا... تقدمت نحوه بخطوات مرتعشة تضع الطبق على الطاولة البلاستيكية ذات الأرجل القصيرة، ثم استدارت لتغادر المكان سريعا لولا أن أوقفها صوته الموحي بعدم اتزانه-"تعالي يا صغيرة، ساعديني."و أشار بيده إلى حقنة ملقية جواره على السرير، كادت أن ترفض لكن نظرة عينيه المهددة جعلتها تقترب بصمت، شمر عن ذراعه بينما التقطت أمنية الحقنة تحقنه بتلك المادة المخدرة، تأملت باشمئزاز عروقه الزرقاء النافرة بسبب دمائه الملوثة بالسم الذي يتعاطاه، أنهت ما طلبه منها و همت بالاعتدال لكنها شعرت بخصلاتها الفحمية القصيرة تتمزق و هو يقبض على شعرها ليلقيها بعنف صارخا بنبرة مهددة-"ما هذه النظرة؟ اغربي عن وجهي يا حقيرة."
كتمت أمنية آهاتها المتألمة تهرع خارجا متجهة لغرفتها..
أوصدت الباب الخشبي القديم بالمفتاح ثم ارتمت على سريرها النحاسي الصغير الذي انتصب في أحد الأركان تكتم بكاءها في الوسادة البالية.
___________
أرسلت الشمس شعاعها الذهبي في الكون، فتسلل من النافذة الصغيرة يداعب ملامح تلك النائمة بهدوء و على وجنتيها آثار لدموع جفت دون أن تجد من يمسحها.. تململت أمنية بضيق تعتدل جالسة و هي تمسح وجهها بإرهاق. أنزلت ساقيها على حافة السرير المنخفض تتحسس الأرض باحثة عن خفها المنزلي... ارتدته ثم اتجهت إلى المرحاض الوحيد بالمنزل، غسلت وجهها و أطرافها و توضأت استعدادا لآداء صلاة الفجر... أدت فرضها ثم غيرت ثيابها المنزلية إلى فستان وردي أبهتته كثرة الغسيل و حجاب باللون الأبيض، ارتدت حذاءها الوحيد قبل أن تتجه إلى الغرفة المجاورة حيث تنام والدتها... جثت على ركبتيها جوار الفراش تهز كتفها برفق هامسة بخفوت-"أمي... أمي."
أنت تقرأ
ضحايا
Short Story"ضحايا" لقب يطلق على مجموعة من الأشخاص.... و مفرده "ضحية"... قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن موضوع قصتي التي اخترت لها هذا الاسم، قد يتلخص في القتل و الموتى... لكن عزيزي القارئ... ليس جميع الضحايا أمواتا... ليس كل من قتل ضحية.... قد يكون معظمنا ضحايا لك...