بعد أيام.... كانت أمنية تقف أمام المرآة الضخمة في غرفتها تنظر لانعكاسها بصمت أشبه بصمت الأموات...
لم تلتفت لتلك التي تزاول عملها المعتاد بحركات روتينية سريعة... حيث كانت تعقد حول جسد أمنية عدة أربطة قماشية محشوة بأكياس صغيرة تحتوي على ذلك المسحوق الأبيض... و أخرى ملئت بشرائط الأقراص المخدرة.... استقامت الخادمة في وقفتها بعد أن لفت جسد أمنية بكمية ليست بالقليلة من ذلك السم...
ابتعدت قليلا تلتقط عباءة سوداء اللون كانت ملقاة على السرير بإهمال... و ساعدت تلك التي تتأمل جسدها بتقزز على ارتدائها و لف حجاب رأسها بشكل مرتب... تراجعت للخلف قليلا و أخذت تدور حولها متأملة هيئتها النهائية برضا... ثم غادرت الغرفة لتنادي سيدها...
______________
راقبت أمنية مغادرة الخادمة بصمت كما هي عادتها منذ أيام.... ثم عادت ببصرها ناحية جسدها الذي كان يبدو ممتلئا بسبب ما يلفه من أشياء ليست في نظرها سوى مجرد قاذورات تسببت في تدمير الشباب و تشتيت الأسر... انتفض داخلها بخوف و هي تسمع صرير الباب الذي فتح.. بينما حافظت ملامح وجهها على برودها الميت و هي تلتفت ناحية وليد الذي دلف إلى الغرفة و اقترب منها يتفحص مظهرها باستحسان... دنى منها بخطوات هادئة يربت بيده اليسرى على وجنتها الشاحبة و على شفتيه تراقصت ابتسامة متشفية...
مرر عينيه على قسمات وجهها المتشنجة بنفور... و هتف ببطء ساخر:"لقد وعدتك بأن حياتك ستحال إلى جحيم... هل ترين أني وفيت بوعدي لك يا أمنية؟"رمقته بازدراء قبل أن تنتفض بجسدها بعيدا عنه تنظر له بمقت... لتتعالى ضحكاته الصاخبة المقززة من وجهة نظرها... مرت لحظات قبل أن يتوقف صوت ضحكاته المزعج و يتقدم جهة الباب مشيرا لأمنية بأن تتبعه بصمت...
_______________
بعد ما يقارب نصف ساعة... أوقف وليد سيارته أمام الكمين الواقع على جانب الطريق يطالع رجل الأمن الذي يراقب حركة المرور بهدوء... اقترب الشرطي منه يقوم بعمله الروتيني المعتاد... لكنه لاحظ جمود ملامح السيدة التي تستقل المقعد المجاور للسائق بشكل مريب فأمال جسده قليلا يدقق النظر بفضول.... لكن شعر بيد توضع على كتفه و بجسد وليد يحجب عنه الرؤية قائلا-"إنها زوجتي..."تنحنح الشرطي بحرج يتراجع بضع خطوات للخلف متمتما بكلمات خافتة قبل أن يشير له بالمرور...
انطلق وليد بسرعة معتدلة حتى اطمأن لابتعاده عن مكان الخطر... أوقف السيارة و التفت لأمنية هاتفا براحة-"لقد نجونا... لن يتم اكتشاف ما نقوم به إذا تابعت عملك معنا..."شبه ابتسامة ساخرة ظهرت على جانب شفتيها و هي تلتزم الصمت... ليكمل وليد بنبرة محذرة-"عليك أن تتصرفي بشكل طبيعي... لو كان الشرطي على قدر من النباهة للاحظ غرابتك و لساوره الشك... لذلك ارسمي على ملامحك ابتسامة طبيعية..."
اختطفت أمنية نظرة مستهجنة ناحيته بطرف عينيها قبلوأن تعود ببصرها للنافذة المغلقة تراقب ما يحدث من خلف الزجاج المعتم... رفعت أصابعها تشد جانبي شفتيها راسمة على وجهها ابتسامة هادئة كما طلب منها.. لكن ملامحها بدت أكثر غرابة و تناقضا... فحتى و إن تحكمت ببسمتها لن تستطيع التحكم ببريق عينيها الذي انطفأ... و صارت أشبه بالأموات... زفر وليد بضجر يعاود تشغيل المحرك ينطلق بسيارته ناحية وجهته..
_______________
بعد وقت قصير... وقفت أمنية في شرفة إحدى الغرف بالشقة التي استأجرها سجانها لتمكث بها ريث ما ينهي هو أعماله بهذه المدينة.... راقبت حركة المرور التي بدأت بالتباطئ إثر غروب الشمس و حلول الظلام بعيون ميتة خالية من كل معاني الحياة... مدت كف يدها المرتعش تقبض على السياج الحديدي المحيط بالشرفة.. مالت برأسها للأسفل تلقي بنظرة خاطفة تقيم بها المسافة بين اللأرض الاسفلتية و الطابق الذي تقع به شقتها... كانت المسافة بينهما بعيدة إلى حد ما... كانت كافية لموت من يسقط من الأعلى... و في حركة متهورة منها، كانت أمنية ترفع جسدها لتقف على السياج... جاهدت لتتوازن فوقه... ثم نقلت بصرها بين باب الشرفة المفتوح... و الطريق تحتها... أغمضت عينيها و سحبت نفسا عميقا زفرته على مهل... و في لحظات كانت ترخي جسدها عمدا ليختل توازنها و تزل قدمها من على الحافة.... انتظرت أمنية أن تحس بارتطامها بالأرضية... لكن لا شيء... رفعت جفنيها ببطء لتتلاقى عيناها مع عينين مظلمتين ترمقانها بسخرية... ابتلعت ريقها تدير بصرها ناحية الأصابع الخشنة التي تكبل معصمها كالأصفاد.... و قد كانت بالفعل-بالنسبة لها- القيود التي حرمتها من الراحة الأبدية... شعرت فجأة بدوار حاد يصيبها إثر مشهد السيارات المارة أسفل جسدها المتدلي... و الذي حالت يد وليد دون سقوطه للأسفل.. أغلقت عينيها تسمح لعقلها بالانسحاب قليلا عن هذا الواقع الذي يعيشه....
و كان آخر ما سمعته قبل أن تستسلم لإغماءتها.. هو صوت زوجها العزيز... الذي هتف بتهكم متوعدا إياها-"لم يحن وقت الراحة بعد يا جميلتي... فأنت لم تري سوى القليل من جحيمي..."
__________________
رمشت أمنية بأهدابها ببطء قبل أن تكشف ستارة جفنيها.. و تظهر من أسفلهما حدقتان ميتتان... غادرتهما الحياة.. جالت ببصرها في أركان الغرفة التي تعرفها... فهي سجنها الذي أعد لها لتمكث به... تنهدت بخفوت تعتدل في جلستها على الفراش.. ترمق باب الشرفة الموصد بأسى... بعد أن ضاعت عليها فرصة النجاة... نهضت بتثاقل تضع يدها على رأسها من شدة الدوار... سارت ناحية المرحاض المخصص لها... دلفت داخله مغلقة الباب خلفها... لتخرج بعد فترة طويلة و قد غيرت فستانها... لثياب أخرى أكثر راحة... سمعت طرقا على باب غرفتها لتنظر نحوه سريعا بتوجس.... فوليد لا يستأذن قبل دخوله... أتراه تأدب فجأة و قرر احترام خصوصيتها... أم أن الطارق شخص آخر... لكنها لا تعرف أحدا غيره هنا...
زفرت بخفوت و اقتربت من الباب هاتفة بترقب-"من الطارق؟"أتاها صوت أنثوي ودود يقول بنبرة هادئة-"لقد أحضرت لك طعام العشاء سيدتي..."
فتحت أمنية الباب باستغراب تنظر بتقييم للسيدة الواقفة أمامها... قسمات وجهها هادئة ناعمة رغم ما ظهر عليها من آثار العمر... فهي تبدو في منتصف عقدها الرابع.. ابتسمت أمنية لا إراديا تفسح الطريق لها... في إشارة منها لتدخل.... خطت السيدة متجاوزة المدخل باتجاه المنضدة الدائرية التي تحتل أحد أركان الغرفة..
أسندت صينية الطعام التي كانت تحملها على سطحها الزجاجي... ثم استقامت بوقفتها توجه كلامها لأمنية-"أنا فريدة... أحضرني السيد لخدمتك ريث ما ينتهي من عمله... "هزت أمنية رأسها تجاهد لرسم شبح ابتسامة على شفتيها.. ثم همست و هي تشيح بنظرها-"يمكنك المغادرة الآن..."
كست عيني فريدة نظرة شفقة... قبل أن تخطو ببطء ناحية باب الغرفة... همت بالخروج لكنها تذكرت شيئا... فالتفتت بهدوء تنظر لأمنية هاتفة بحذر-"سيدتي... لقد حظر الطبيب لفحصك عندما كنت غائبة عن الوعي... و قد أظهرت الفحوصات بأنك حامل... "
انتفض جسد أمنية و جحضت عيناها بصدمة... ارتفعت يداها بشكل لا إرادي تحيط بطنها... حيث علمت للتو بأن جنينها يقبع هناك بين أحشائها... شعرت بالغثيان و الدوار... و لم تعد تقوى على الوقوف... و كأنما استحالت قدماها لهلام... انهارت مفترشة بساط الأرضية تحدق في الفراغ بخواء سكن عينيها...
أحست الخادمة بالشفقة تجاهها فاقتربت منها و جثت جوارها... وضعت يدها على كتفها بمواساة تهتف بتعاطف-"سيدتي... أأنت بخير؟!"و دون أن تكلف أمنية نفسها عناء النظر لوجه محدثتها... همست بصوت غائر... كأنه قادم من قاع بئر-"أريد البقاء وحدي..."
لبت فريدة طلبها بصمت... و غارت الغرفة موصدة الباب خلفها... تاركة أمنية تنظر للفراغ أمامها بتوهان... و قد أدركت الآن حجم المصيبة التي حلت بها... فهي حامل... تحمل بين جدران رحمها جنين الشيطان... و دون إرادة منها... كانت هناك بسمة صافية تتراقص على شفتيها... و هي تحس أن وليدها سيكون نقطة النور الوحيدة في مستقبلها المظلم... أطلقت من أعماقها تنهيدة حارة... و مالت بجسدها إلى خلف مسندة جذعها إلى الجدار.. و رفعت بصرها للأعلى تقول بهمس لم يتجاوز جوفها-"تعبت... لقد تعبت يا أمي... "
_____________
♡أسئلة بخصوص الفصل♡
-هل سيتقبل وليد حمل أمنية؟
-كيف ستتصرف أمنية؟
-هل سيكون المولود المنتظر بصيص الأمل لأمه؟
-أم أنه سيزيد تعبها؟
-ما هي توقعاتكم للفصل القادم؟
______________
♡أسئلة عامة♡
-مارأيكم في فكرة الرواية بشكل عام؟
-تقييمكم للفصل من 10؟
-تقييمكم للرواية من ناحية السرد و الوصف؟
______________
ألقاكم قريبا..... دمتم في رعاية الله ❤❤❤
أنت تقرأ
ضحايا
Short Story"ضحايا" لقب يطلق على مجموعة من الأشخاص.... و مفرده "ضحية"... قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن موضوع قصتي التي اخترت لها هذا الاسم، قد يتلخص في القتل و الموتى... لكن عزيزي القارئ... ليس جميع الضحايا أمواتا... ليس كل من قتل ضحية.... قد يكون معظمنا ضحايا لك...