-

326 33 46
                                    

_

عندما تنصّف نسيج القمر المنطفئ في كبِد السّماء، خلف كتل هائلة ومتراصّة من الغيوم، عند الليلة الباردة الثّلجيّة، لم يظهر ذلك القمر، ولم ينعم أحد بضوء الطبيعة السحريّ.

في الحدود وخلف سياج ذلك المبنى المجهول، كانت بداية سلسلة أشجار وافتتاح لغابة واسعة، هناك وقد غرقت بالثلج والعاصفة التي كادت تقتلع أشجارها بهمجيّة. لم يكن هناك سوى اللون الأبيض لساعات، ذلك الجوّ الكئيب الوحيد.

حتى ورغم شعوره بوجهه المتجمّد وضرب الرّياح له بلا رحمة كضيف غير مرغوب فيه وسط تلك الحِلكة، وكان -هو، يُعاندها بلا توقّف بأنفاس تكاد تنقطع، ببضع تعثّرات، بنبضٍ وصل كامل جسده.
لم يكن يستطيع التوقّف بينما وجهته الآمنة الوحيدة كانت تقطن هناك.

-أ.. أبـ ـي..!

قبضَت كفّه في ضياع بحثًا عن معطف أمامه، عن يدٍ ما يُفترض أنها هنا، تجبره العاصفة على إغلاق عينيه ويكافح هو لاختلاس النظر من بين جفنيه اللذان غرِقا بالدّموع العالقة. بينما يده الأخرى تمسّكت بقبّعة معطفه خشية اقتحامه البرد.

ارتفع بصره المضطرب إلى من تشبَّثَت يده به، إلى من طاله قامةً، إلى ملامحه المبهمة، كان كما لو غُطّي بصره وسمعه بغشاوة، لم يتوقّف أبدًا، كان يسير ويسير كما لو يهرب من شيء ما.
كان من يُفترض أنه سيحميه، من يُفترض أنه سينعم جسده بالدفء بعد البقاء لساعات تحت رحمة البرودة القاتلة له، وإلا فمن سيفعل غيره بضعفه هذا؟

أطبق جفنَاه توجّعًا لصدره الذي لم يكتنز سوى أنفاسه المتجمّدة، تخبّطت خصلاته الداكنة بعشوائية لتكشف وجهه البريء من خلف القبعة التي انزاحت عنه بفعل قوة الرياح، لتقتحم بصفيرها أذنيه في عنف.

هو تحامل على نفسه رغمًا عن كلّ شيء، ليشدّ بكلا يديه ذراع والده. كانت المرة الأولى التي يصرخ فيها بهذا الشكل.

-أبـي!!..

كان خائفًا وخائفًا ولا شيء آخر، ممّا حدث وممّا يحدث، كما لو انسابت كلّ قطرة أمان عنوةً من يده بينما لم يستطع فعل شيء ولا حتى مساعدة نفسه، كما العادة.
لم يكن سوى طفل بعشر أعوام، ضعيفًا، مثيرًا للشفقة، كما العادة.

لكنه تجاهل كلّ ذلك، على الأقلّ لليوم، ليس بينما يملك أملًا ضئيلًا لأمانه المتبقّي، لن يدعه يفلت منه، حتى لو خاطر بأيّ شيء، لن يندم لاحقًا..

كان بصوته شيء من الارتجاف والقوة معًا، تمامًا كـيَده التي لم تتوقف عن الارتعاش مع تشبّثها.

سكنت أقدام الأكبر عن السير للحظة، لحظة صمت خرج فيها من قوقعة كوابيسه، أدار رأسه للخلف ناحية ابنه الملتصق به، شرد بتحديقه بوجهه عِدّة لحظات، لاحمرار وجنتيه وأنفه بشكل ملحوظ بسبب الجوّ والبكاء معًا، نظرته تشعّ عمقًا وأملًا تِجاهه.

لم يتوقع الصبيّ أقلّ من أن يصغي إليه مع ابتسامته المعتادة أو يعتذر لتجاهله لفترة، كان يتوقع الكثير!

تقرفص أمامه دون أن يفلت يد الصغير الضئيلة الباردة. تجاهل العاصفة وأين هُم، أمسك بقبعة معطف ابنه ليعيدها لرأسه، ويسحبها مقربًا وجهه منه.
بكلّ حنوّ قبَّل وجنته المبلّلة بقطرات الدموع المنسابة التي ازدادت مع تصرّفه، ليحيطه الأكبر برفق في حضن طويل وقد أدرك خطأه، لم يكن يقصد حقًا.

-لماذا لم تتبع شقيقك..؟

لتصرفه كان وقعًا ملموسًا لطفله، إحساس بالأمان والدفء معًا انتشله بعد سيره بهذا الجو المتجمد طويلًا، كأنما احتواه داخله ليحميه، مع تربيته الرقيق على رأسه، يخبره أنه بخير، أنه لم ولن يفقد شيئًا بما أنه هُنا، معه، وأنّ مخاوفه ستُمحى ببطء مع كلّ لمسة حانيّة يحطّها عليه، وهو بدوره استقبل ذلك بكلّ راحة عبّر عليها بدموعٍ صامتة. لم يُرِد تركه، كان ضائعًا ولم يعرف إجابة مُثلى لسؤاله.

بعمق نظراته الشاردة تأمّل الأرض، ليشدّ على القبعة برأس ابنه. وقف ببطء يحمل جسد الصغير حين لاحظ تعبه. هو بالفعل مريض الآن بسبب إهماله، بسببه.

قلق للغاية، لا يعرف وجهته أو محطة أمان لكلاهما، كيف وصل الأمر إلى هُنا، أين كان الخطأ..

-والدك مغفّل، بُني..

Winter Hymnحيث تعيش القصص. اكتشف الآن