كفَّ عن عدِّ ما أهدرَه من أعوادِ ثِقابٍ في عمليةِ إشعالِ الحَطَبِ المعقّدةِ جدًا بالنسبةِ له، مُصدِّقًا على كلِّ سُخرياتِ سُفيان المتمحورةِ حولَ كونِه مدلَّلَ ليلىٰ المنعَّمَ عديمَ الجدوىٰ، ولا يستطيعُ حتى إشعالَ كومةِ حطبٍ مجموعةٍ في سطلٍ معدنيٍ قبلَ أن تنفخَ الريحُ الضارِيةُ ثِقابَه، وقرَّبَ أناملَه المُحمرّةَ من ألسنةِ اللَّهبِ متجاهلًا صياحَ الشيطانِ الأعورِ على يسارِه، ومحاولًا تركيز عينيه على الطفلِ الضئيلِ الذي موضَعَه للتوِّ إلىٰ جوارِه وقد سرقَه النعاس، ربما يأسًا، وربما بردًا.
الفكرةُ التي يحاولُ إقصاءَها عن رأسِه الآن تجاوزُ هذَيان سُفيان خطَرًا، على الأرجحِ قد تاهَ في شوارعِ العاصمةِ التي كانَ يحسبُها منقوشةً على كلِّ شبرٍ من جسدِه، بحلولِ الدقيقةِ السابعةِ والأربعين من الساعةِ القادمةِ سيكونُ قد أتمَّ خمسًا وسبعينَ ساعةً خارجَ بيتِه، أكثرُ من ثلاثةِ أيامٍ من الدورانِ اللامُجدي بين الركامِ والغبارِ والأنقاض تحتَ السماء المغلفةِ بالدخان، وشيئًا فشيئًا وجدَ ذاتَه يشكُّ في اتجاهِ البوصلةِ المعلَّقةِ خلفَ جبهتِه، كلُّ الشوارعِ متشابهةٌ حالَ الخراب، كلُّ الدِّيارِ رُكام، ما الذي يضمنُ له ألا يكونَ الركامُ المجاوِرُ له الآن ركامَ بيتِ ليلىٰ؟ وما الذي يضمنُ ألّا يكونَ ركامَ آخرِ بيتٍ على الجهةِ الأخرىٰ من العالم؟ ربما شكّلت الحربُ مع الوباءِ حلفًا ناجعًا وهوَ الآنَ الإنسانُ الأخيرُ على وجهِ الأرض، وستكونُ نهايتُه شبيهةً جدًا بتلكَ التي كانَ ليحظىٰ بها لو لم يخطُ خارجَ حدودِ سردابِ سُفيان، فقط كانَ الوضعُ ليكونَ أكثر دفئًا لو أطاعَه وخضعَ له منذُ البداية، ولكنه فضّلَ الاستماعَ إلى كلامِ المُهرطِقةِ ليلىٰ.
«اخرس تمامًا!»
شهقَ آرام فزِعًا من نومِه مع هتفةِ رادِن التي أُلحِقت بصوتِ تهشُّمِ كأسٍ زجاجي اصطدمَ ببقايا الجدارِ الذي يحتميانِ خلفَه، وجّه عينين جاحظتَين نحوَ الأكبرِ الذي انكمشَ مطبقًا كفَّيه على أذنَيه وقد تتالت أنفاسُه وشخصت عيناهُ نحوَ البقعةِ التي يعاركُها من الجدار، ثم اتجهتا ببطءٍ نحوَه.. آرام الذي يتماسكُ بمشقّةٍ عن الهربِ ذعرًا من الجنونِ الذي يحاوطُه.«الملعونُ سُفيان... لا يكفُّ عن الهذرِ بِـ...»
ثم صمتَ، أخفضَ يدَيه عن أُذنَيه قليلًا وقد سَهَتْ عيناهُ حينَ أعادَ عليه الجزءُ الواعي من عقلِه مشهدَ الرصاصةِ التي انطلقت من مسدِّسِه منذُ اثنَتي عشرةَ سنةً واستقرَّت بينَ حاجبَي والدِه فأودت به، ثم مشهدَ دفنِه لجثمانِه في قعرِ سبعةِ أمتارٍ تحتَ السرداب، غيرَ أن الجزءَ السقيمَ قد أبىٰ إلا والإصرارَ على أن سُفيان واقفٌ أمامَه اللحظةَ، وأن لا مفرَّ من شبحِه الذي سيطاردُه حيثُما حلَّ لأنه بالفعلِ قد ورَّثَه جنونَه وطغيانَه.«عُد إلىٰ النومِ.»
همسَ بصوتٍ مبحوحِ محتضنًا رُكبتَيه وقد تركزت عيناه على النيران، ما جعله يبدو أكثرَ إخافةً وقد انعكست ألسنةُ اللهبِ على مقلتَيه العسليتَين فأوذرت فيهما حريقَين ضئيلَين مَهيبَين، ثم غابَ الانعكاسُ حينَ أخفضَ أهدابَه قليلًا، قبلَ أن يغمغم: «أو انتظِر قليلًا، لم نتناول شيئًا منذُ الصباح.»
في ختامِ كلماتِه سحبَ إحدىٰ حقائبِه الضخمةِ مخرجًا منها صندوقًا يحوي حبّاتِ البطاطا، أخرجَ ثلاثًا مع قدرٍ معدني صغيرٍ صبَّ فيه من جارورِ الماء حتى ملأه، ثم وضعه بين النيرانِ كي يسلق البطاطا، وأخرجَ كذلك بضع أرغفةٍ مشوهةٍ من الخبز الذي خبزاهُ بأيديهما البارحةَ باستعمالِ كلِّ ما كانَا يملكان من طحينٍ مع هدرِ ما يقاربُ نصف الكمية حرقًا، وخلالَ بعضِ الوقت تناولا ذاتَ الوجبةِ التي لا تناسبُ معاييرَه الصحِّية الصارِمة بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ثم ردَّدَ الكلماتِ التي لا يجيدُ سِواها منذُ ثلاثةِ أيام: «عمّا قريبٍ سنخرجُ من العاصمة إلى برِّ الأمان، قد يكونُ خلال يومٍ أو يومَين.»
أنت تقرأ
رَجُلٌ يُحتَضرُ | Dying Man
Historical Fiction«والآن.. لا أنا كما أنا، ولا الوطنُ وطني.» يجدُ رادِن نفسَه مضطَّرًا إلى الخروجِ عن إطارِ القانونِ في خضمِّ الحرب التي تضربُ البلاد، متَّبِعًا إجراءاتٍ غيرَ شرعيةٍ لتبنّي طفلٍ كي يستخدمَه في تجربةٍ مشبوهة. عن طبيبٍ مجنونٍ يصارعُ نفسَه والحربَ والن...