7

219 28 16
                                    


يدري عن ذاتِه أنّه شخصٌ صامتٌ جدًّا، خافتٌ جدًّا، ليكادُ يندمجُ مع الخلفيةِ فلا ينتبه لهُ من مَرَّ إلى جوارِه، بالكادِ يتحدثُ حينَ يتوجبُ عليه الأمرُ، ولا يكادُ يستفيقُ من إحدىٰ نوباتِ شرودِه الطويلةِ حتى يسقطَ في سِوَاها، في أواخرِ أعوامِه الابتدائيةِ بدا لفرطِ هدوئِه وعُزلتِه صَيدًا سهلًا لمَن يبتغي إبرازَ عضلاتِه لرِفاقِه، إلا أنه على سكونِه عادةً فقد كانَ ردُّ فعلِه على محاولةِ الاعتداءِ اللفظيِّ المبدئيِّ عليه مدوِّيًا ومبالغًا فيه جدًا، ربما لأنه كانَ قد حظىٰ بليلةٍ سوداءَ رفقةَ سُفيان قبلها، لهذا ألفىٰ عنقَ الفتىٰ -المتنمر- خلالَ لحظةٍ تحتَ حذائه يدهسُها بكلِّ جبروتِه قبلَ أن يقبضَ خصلاتِه ويصفقَ رأسَه بالجدارِ، ويستلَّ مسطرتَه المعدنيةَ الثقيلةَ ويهويَ بها فوقَ رأسِ الفتىٰ بضعَ مرَّاتٍ حتى شُجَّت، انفضَّ رفاقُه خلالَ لحظةٍ ليستحضروا كلَّ معلمي المدرسة، تَحصَّلَ يومئذٍ على استدعاءٍ وجاهدت ليلىٰ أمامَ كلِّ إداريٍ هنالكَ وقدّمت مبلغًا تعويضيًّا كبيرًا لأسرةِ المُتَضَرِّرِ كي لا يُفصَلَ منها، ومنذُ ذلكَ الحينِ لم يعُد هنالكَ مَن يجترئُ على التفكيرِ في الاقترابِ منه، الطلبةُ والمعلمون على حَدٍ سواء.

مع ذلكَ فإنَّ أمَّه لم تكلَّ بعدُ من فكرةِ حصولِه على بعضِ الأصدقاء، ها هيَ ذي علبةٌ معدنية مزركشةٌ تحوي بسكويتًا حلوًا قابعةٌ بينَ يدَيه أثناءَ عودتِه من المدرسة الثانوية، لم تزل أمُّه تعطيه هذه العلبةَ مع بدايةِ كلِّ أسبوعٍ وتطلبُ منه أن يشاركَ ما فيها مع أحدِ زملائِه ظَنًّا منها أنها بذلكَ تساعدُه على اكتسابِ بعضِ الأصدقاء، ولم يزل هو يأكلُها وحيدًا أثناءَ عودتِه لأنه لم يستطع يومًا أن يبدأَ محادثةً لا معنىٰ لها بالنسبةِ له، ويكذبُ على ليلىٰ قائلًا أنه قد فعلَ ما أمرَتْه.

في النهايةِ فرُغت العلبة، وبلغَ ناصيةَ الشارعِ الذي يقطنُه، تضرّعَ صامتًا أن يكونَ أثرُ المهدِّئِ الذي دسَّه في غداء سُفيان أمسًا لم يزُل بعدُ، وخطا ببطءٍ لا يليقُ بمراهقٍ يافعٍ نحوَ منزلِه، مستلًّا مفتاحَ البوابةِ من الحقيبةِ المتدلِّيةِ على كتفه، ثم قاطعًا الحديقة حتى بلغَ نافذةَ المطبخِ المفتوحة، وكانَ هذا أكثرَ من كافٍ ليراهما يتقاتلانِ في الردهة، سفيان يحملُ سكينًا، وليلىٰ أمامَه وحيدةٌ عزلاءٌ مبعثرةُ الشعرِ مكدومةُ الوجه، لا تكفُّ عن الفرارِ ومبادلتِه الجدالَ وكبحِ صرخاتِها كي لا يستشعرَ المستشيطُ خوفَها.

«اخرسي تمامًا! قلتُ لكِ أنّ هراءَ المدرسةِ لن يفيدَه شيئًا أيتُها الزنديقة! هل سيدافعُ عن نفسِه بأقلامِ الرصاصِ حينَ تداهمُ المدينةَ المدفعيات؟!»
«وأنا قلتُ لكَ أن ابني سيكملُ دراستَه يا سفيان! لن يصيرَ رجلًا مجنونًا يخافُ حربًا انتهت بالفعل، ابني سيكونُ طبيبًا! لا أنتَ ولا شياطينُكَ أجمعونَ قادرونَ على الوقوفِ أمَامَه ما دُمتُ أنا خلفَه!»
«إذًا سأقتلُكِ يا ليلىٰ! إن كانت حياتُه تساوي موتَكِ فنِعمَ الثمنُ الزهيد! هل ستكونين أغلىٰ من أخي الذي دفنتُه بيديَّ حينَ...»

رَجُلٌ يُحتَضرُ | Dying Manحيث تعيش القصص. اكتشف الآن