قبلَ اثنتَي عشرةَ عامًا، على مقربةٍ من أنقاضِ الحربِ السابقةِ شمالَ العاصمة|
نواحُ امرأةٍ تغنّي أغنيةً فرنسيةً قديمةً تصدرُ عن مِذياعِ أبيهِ ينخرُ رأسَه مُبيدًا أشلاءَ انتباهِه الواهِن، الرياحُ الباردةُ تضربُ جسدَه بلا هوادةٍ وتتخللُ قميصَه الخفيفَ فيستشعرُ برودتَها اللاذعةَ في كلِّ جزءٍ من جذعِه، ولا يُبالي، يحاولُ التركيزَ على الأصوتِ العديدةِ حولَه وتخيُّلَ الوضعِ الرَّاهنِ خلفَ العُصبةِ التي تحرمُ عينيه الرؤيةَ، ثمّةَ جُدجُدٌ لا يكفُ عن الصَّرِّ في مكانٍ ما على يمينِه، بعضُ الحجارةِ والرُّكامِ يتساقطُ من مكانٍ ما بين الأنقاضِ التي يقفُ على مقربةٍ منها، وحفيفُ خطواتٍ خفيفةٍ تدورُ حولَه بشكلٍ يستجلبُ السَّأم، فيجعلُه يهتفُ وقد نالَ صداعُه من بقايا صبرِه القليل: «عجِّل يا سُفيان؛ لن تُمرِّرَها أُمِّي إن عُدنا بعدَ الغروب.»
جلجلَ الصُّداعُ في دماغِه أكثرَ حينَ ارتفعَ نواحُ المرأةِ مع نعيقِ غرابٍ رفرفَ مبتعدًا، واشتدَّت قبضتُه على السلاحِ الأسودِ الصغيرِ في يمينِه حينَ انطلقَ صوتٌ خشنٌ لرجلٍ لم يتخلل الوهنُ بعدُ جسدَه الذي يكادُ يكسرُ منتصفَ عقدِه السابع: «يا للرجلِ الذي ربَّيتُ! يخشىٰ نواحَ امرأةٍ وتشكِّيها.»
تزامَن مع خروجِ حرفِ سُفيانَ الأخيرِ صوتُ هديلٍ خافتٌ تتلوه رفرفةٌ سريعة، لحظيًا ما استدارَ رادِنُ معصوبُ العينينِ مطلِقًا من مسدسِه عيارًا نارِيًا أسقطَ الطائرَ الأبيضَ بصدرٍ مُخضَّب، بينما يسخرُ: «أتحسبُ بعدما عشتَ مع ليلىٰ مُريد ثمانيةَ عشرَ عامًا أنّ كلَّ النساءِ يغنّينَ الأغاني الفرنسيةَ حينَ يزعجهنّ رجالهُنَّ؟»
ازدادَ تَحفُّزُه حينَ تأخَّرَ ردُّ والدِه، فتلفَّتَ حولَه أكثرَ من مرةٍ باضطرابٍ مع التقاطِه هديلًا ورفرفةً آخرَين، ولم ينطق سُفيان حتىٰ سقطَ الطائرُ الثاني مخضَّبَ الصَّدر، قال: «ليلىٰ تدّعي الصلادة، تمسكُ الأسلحةَ وتُلوِّحُ بها كي تجاريَ الأحداثَ لا أكثر، ولكنها لم تكن يومًا أكثرَ من قطةٍ معصوبةِ العينين، تتلفتُ مرتعدةً كلما صدَرَ من حولِها صوتٌ لا تألفُه.»
سقطَ طائرانِ آخران برصاصتَين مُتتاليتَين، وفكَّ رادِن العُصبةَ عن عينيه بعدَئذٍ ليتبادلَ مع سُفيان -الواقفِ أمامَه ممسكًا قفصَ طيرٍ فارغًا- نظرةً مُقتٍ حادّة، ويغمغم: «هل انتهيتَ من هذيانِك؟»
ليكادُ يجزمُ أن تلكَ الفترةَ من عُمرِه كانت الأقلَّ توترًا في علاقتِه مع والدِه، على الأرجحِ كانت خلافاتُهما لا تتجاوزُ الخمسَ يوميًا ولا يصلُ الأمرُ إلى التهديدِ بالسلاحِ إلا قليلًا، لم يكن يرتعبُ منه كما كانَ قبلَ بلوغِه السابعة، ولا يكرهه كرهًا صبيانيًا صاخبًا ومليئًا بقذائع الألفاظ والتهديدات كما كانَ قبلَ الخامسةَ عشرة، باتَ مُقتُه عميقًا ومتجذِّرًا داخلَه للحدِّ الذي يجعلُه يُمضي النهارَ في مجاراةِ كلِّ أوامرِه وتحكماتِه وجنونِه كي يتفرَّغ ليلًا للتخطيطِ لكيفيةِ قتلِه وموقعِ دفنِه وما سيلفِّقُه من ادعاءاتٍ أمامَ الشرطةِ حينَ يُبلِغُ عن اختفائه من البيتِ بكلِّ ذعرِه كشابٍ محترمٍ اختفىٰ والدُه الخرِفُ من البيتِ بين ليلةٍ وضُحاها ولم يعُد قطُّ.
أنت تقرأ
رَجُلٌ يُحتَضرُ | Dying Man
Historische Romane«والآن.. لا أنا كما أنا، ولا الوطنُ وطني.» يجدُ رادِن نفسَه مضطَّرًا إلى الخروجِ عن إطارِ القانونِ في خضمِّ الحرب التي تضربُ البلاد، متَّبِعًا إجراءاتٍ غيرَ شرعيةٍ لتبنّي طفلٍ كي يستخدمَه في تجربةٍ مشبوهة. عن طبيبٍ مجنونٍ يصارعُ نفسَه والحربَ والن...