الليلة

111 7 11
                                    

ثم انبلج القمر مثل مح في السماء ، كان هذا المح بدرا ، و كان يقترب كثيرا من رأسي، و ان لازلت احتفظ بشيء من حواسي بحيث ميزته فانني كنت في عالم آخر ليس أقرب من القمر ، و جررت قدماي طوال الطريق ،  كأنني اكمل رحلة بدأتها للتو ، رحلة اخرى صغيرة متداخلة بشكل ما مع هذه الحقيقة ، تتقاطع معها في النهاية- أنني هارب

و طوال هذا الجر الذي انهك عضامي كنت اتنقل من حي لآخر ، و كان باستطاعتي ان اتجاهل كل شيء و امضي بجسدي ارقع الحي تلو الاخر في خط مستقيمي على قدر الامكان ، فيالها من قدرة جديدة علي . و بجانب القدرة الخارقة فقد كنت مبتلى كثيرا بالمشي في خط مستقيمي و يال سعادتي الجديدة لان الظلام يلف المكان ،و ما كنت أرى خطواتي و لا هم يرونها ، فهو شعور متبادل بيني و المارين، ولعل هذا البدر و الوجه العابس للقمر ، اصوات المسكرين المزرية و الاضائة الباهتة الموجهة من السماء على وجهي و الامن الذي حضيت به طريقتي في المشي.
لعلها الظروف او الحالة المزرية التي ترافق امتلاء بطني ، فقد، ذكرتني هذه الليلة بما يحدث دائما كل ليلة ، الليلة التي يجتمع فيها الالم على قلبي كعصارة من البراكين البربرية في القرون المظلمة ، عندما يحدث ان يفتق جرحك و يصب خنازير الحرب الملح ، امامك عشرة رجال لتقتلهم ايها اللقيط - يقول الضابط الصليبي خنزير الحرب . و كان في يدي مسدس ، مشحون مسبقا ، يشبه ذلك الذي يستخدمونه في الروليت ووددت لو اريكم ،و قبل ان امضي للحرب كنت اسمع اصوات المسكرين و نطحاتهم و كنت اقول "يالهم من مبدعين" ، و عندما لم تكفهم تصفيقاتهم و صوت القيثارة المتشابه خلصوا يلوكونها و يصنعون بالسنتهم صوتا يشبه نهيق الحمار ، و كان هذا النهيق مسليا في اذني فما برحت قدمي تدق الارض توافقهم متعتهم المجيدة. و كما لو كنت هذه الليلة من الغباء بحيث حركوا مشاعري ، فهم في نظري ،هؤلاء هم فرسان الليل . و ظللت استمع نصف ساعة.
كان وجهي الى السماء و ظهري مسلما للارض ، قنينة الماء بجانبي حينما مرت  فتاة تعقد ظفيرة ، و كانت هذه الفتاة من الطول بما يشبه النادلة ، و بدا كما لو انها توقفت لتطلب سيارة الاسعاف لهذه الجثة الهامدة التي امامها، بل انها لم ترني، و لعلها كانت تحث ثأثير قوة قاهرة ، فأزالت السماعات لينبثق صوت موسيقى صاخبة ، من تلك الموسيقى المقولبة التي تسوقها اجندة خفية للضجيج ، فلم تكن هذه الموسيقى الصاخبة لذ بيتلز من ان تحرك في ساكنا بل فقدت اهتمامي بالمارة و كما لو انني حذفت رؤوسهم المدببة وملفاتهم من رأسي ، رحت ادعم هؤلاء السكارى في قلبي و اصلي بان يتوقف هذا الخليط الغربي من موسيقى البوب و الراب و موسيقى السود ،و الهارد روك الذي يبث على راسي من هاتفها : موسيقى رخيصة يختبأ اصحابها خلف المؤثراث الصوتية . و كم راعتني رؤية حدقيتن سوداوين من ذاك الوجه تنظران للارض كما لو ان السماء غير موجودة ،  فانشغلت عن السماء و حدقت بعينيها في الربع الاخير من حركة القمر المنتهية، و عندما رفعت رأسي غادر القمر مرمى بصري و بدا كما لو انه قد فاتني شيء. ثم وجهت الهاتف الى اذنها و هذه المرة لم تكن موسيقى بل رنة ، و بدا كما لو انها تتطلع الى الشاشة  لترى المتصل فسمح ضوئها برؤية اوضح لملامحها، عينان سوداوان، و عندما ترتفعان للسماء تبدو مجرد نظرة قلقة للوحة زيتية لن تفهمها المرأة مهما حاولت ، بل كانت تنظر اليها نظرات متقطعة لاجل النظر فقط ،نظرة تقول انها لم تمض كثيرا من حياتها في رؤية الكواكب و النجوم و انما هي العادة ان تترفع عن الارض ، و لاجل العادة ايضا خلقت و عاشت من عملها  في المطعم ، ثم تسائلت ان كانت هي النادلة ،و تذكرت متعة رجلي العجوز ، عندها امسكت رأسي و اطلقت بعض الاصوات بسبب امتعاضي ، و استشعرت مصباحا يوجه الي ، فكانت هذه الفتاة تنظر صوبي كشيء جديد مستدلة بمصباحها الاخضر ، و استجمعت طاقتي و كانت صبورة في انتظاري، و ترنحت و شعرت بانني اسقط على قفاي. فهربت الفتاة و في خضم تلك الدموع التي انهمرت من عيني دون ارادة حقيقية بالبكاء ، بل انها كانت تتساقط كشخص ممسوس ، لمحت ظهرا عاريا يركض و ايماءات خائفة تتجه نحو الميترو ، فما كان هذا الا فضولا -محاولتي الرؤية ،و لكنها لم تكن النادلة في مطعم  تاميا على الاقل. و كأنما حان الوقت لشيء ودون سابق انذار لمحت سماء تتلبد و هنا في الطرف الاخر المعاكس كانت الافكار تشرق في رأسي ،  و سمع ،و انا واثق ان جميع من في المحطة فعلوا -ان كان هناك احد- دوي محرك آلية ثقيلة و اناس يصرخون ، و سمعت شخصيا طنينا في أذني و رأيت شموعا شبحية ، و كان أحدهم يتمتم بشيء فرحت أسرح أذناي علهما تلتقطان ثمرة غير يانعة،و مع ان الاذن لا يعوقها الظلام، لكنني لم أفهم شيئا ، و اهتز صدري فأمسكته و أنا استميت، فلم تكن سكتة قلبية بل هزات طويلة الكترونية صادرة عن هاتفي المحمول، و كان يستمر بالاهتزاز على ذلك النحو (هزات طويلة الكترونية )،فكان هذا يمزقني اربا كل ممزق ، و أطبقت أسناني و رميته على الارض ، و حدث شيء خارق للعادة فقد انشق القمر و طعنت من الخلف.
-عينان سوداوان!
و في الغرفة دون ان اتذكر آخر شيء ، وجدتني مغطى بالعرق و ثيابي مبللة ، و كدت ان انسى العينين لكنهما كانا أكثر حقيقية من الحلم ، و اكثر منطقية من ان ادفنهما حتى القدمين بمجدف النسيان ،و في هذه الاثناء كنت افهم انني استيقضت . لقد عادت بي قدماي دون ان ادري و رأيت ظلام الغرفة ، و من اين عادتا بي حقا لا اعلم ، فأسرعت باشعال المصباح الصغير، و سمعت صوت أحذية تقرع. و كما لو انني أؤجل الاشياء(كما افعل دائما) فقد استعملت الحمام لاعاني امساكا و وضعت اصبعا في فاهي. و من اين عادت بي قدماي فانا مجددا لست لأاعلم اذ لم يكن حلما ، و بذلت جهدي فلم اتقيأ ، كنت اشعر بالتخمة و انحسار يشبه المحيط السقيم،  لكن كيلو اللحم الذي اتيت عليه في تاميا لم يكن كافيا ، و هنا اصبح ملمس اصبعي داخل الحنجرة اكثر شيء مزعج في الوجود و سارعت في سحبه هذا بعد ان غضضت طرفا عن رغبتي في قضمه ، فقد انتابني شعور انه يتوغل الى احشائي بنية شريرة ، بل لم يكن خاضعا لسيادتي. و تفلت دما من هذا الاصبع الشرير و وضعت يداي على رأسي و فتحت الصنبور فتدفق ماء ترابي! و لامس يداي و بلل قميصي ، و خيل الي ان يدا كانت تمسك بحنجرتي و انا نائم، لكنني لم ارها بل فقط عينين، سوداوين كأنهما ورثا سوادهما من الفص المظلم للقمر ، و كل ما فكرت فيه انني اموت ، بل شعرت انني قد فقدت في  الحين خمسة كيلوغرامات حينما تسلل الى عقلي فكرة الحادية، و شعرت بالوحدة ، الوحدة و البلل ، البلل بالعرق و الماء الغريب، و تبلل قميصي من المصدرين فشعرت برمال المحيط الاحمر مرفوقة بكل ذرتين من الهيدروجين و ذرة اوكسجين ، فكان هذا الكوكتيل يكشط الرطب بين اصابعي، و كان هذا المتسلل الى عقلي اكثر شيئ يشعرني ب"لا ادري" في العالم ، فقد كانت عينان سوداوان تحدقان بي. و هنا تذكرت أنني كنت اردد اسما وهو تاميا! و ان كان هذا الشيء اسم المطعم فمن بحق الجحيم كيليلينغ دي ..... !

الروليت الروسي : روايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن