الفصـل السـابـع

239 17 7
                                    

ما أن وصلت السيارة بحمولتها أمام منزل جارحي حتى ظهر سليم
خلف صديقه على ظهر الدراجة النارية التي توقفت بجوار السيارة
الكبيرة وهبط سليم مودعًا صديقه
ثم اقترب من والده يميل عليه هامسًا يؤكد على طاعته التامة لوالده
:- اديني وصلت بدون تأخير كيف ما جولت.. أنا تحت أمرك يا سيد المعلمين
رماه جارحي بنظرة جانبية حانقة وقال بضجر
:- متشكرين يا سيدي.. كتر خيرك
زاد سليم في القرب من والده يحتويه بذراعه محتضنًا إياه يطلب وده ورضاه
:- عشان تعرف بس أن كلامك أوامر
وأنا في الخدمة دايمًا
نفض جارحي ذراع سليم عن كتفه
هاتفًا بملل
:- ما خُلصنا.. خُلصنا يا ولا .. بدك إيه منى دلوك!!.
لثم كتف والده وهو يربت على كتفه برفق وقال يسترضيه
:- رضاك يا سيد المعلمين.. غرضي رضاك وبس
زفر جارحي نافضًا طرف جلبابه وقال بإصرار
:- جولنا تچيب الشهادة وبعدها
أنت حر.. إن شاء الله تطوف
الشوارع تغني على الربابة
احنى سليم رأسه يقبل كتف والده
من جديد هاتفًا بثقة
:- هيحُصل وهنچح في الكلية وفي الغنا وهتشهر وتفرح بيا
رماه جارحي بنظرة جامدة منافية لما يدور داخل قلبه
الذي يدعو الله أن يحقق حلم ابنه ولا يرده خائبًا
ورغم ذلك تركه جارحى خلفه دون كلمة شافية وتقدم صوب رياض
وابنته التي نزلت بساقيها فوق الاكصطدام ثم قفزت منه
إلى الأرض وصوت جارحي يرحب بهم داخل منزله
اعتلوا الدرجات القليلة إلى الشرفة الخارجية للمنزل ثم تخطو البوابة الحديدية
إلى فسحة المنزل حيث يوجد شقتين متقابلتين
بمجرد دلوفهم إلى الشقة التي تقع يمين السلم مشرعة الباب استقبلتهم
صبحية بترحاب كبير جاذبة صدفة إلى أحضانها بدفء تطبع قبلاتها
على وجه الفتاة التي تعرفها منذ صغرها وسبق وتقابلتا أكثر من مرة
تصاعد صوت رئيسة من فوق أريكتها المفضلة ببهو المنزل ناهره
:- بت يا صبحية.. مين الواد اللي بتبوسيه ديه يا جليلة الرباية
التفتت صبحية نحو حماتها لتجيب وفي نفس اللحظة
دلف جارحي مسرعًا ليسيطر على لسان والدته الجامح
والتي واصلت حديثها بتعجب مضيقة عيونها لتحصل على رؤية أفضل
:- مش جولتوا رياض عنديه بت ..
مين الواد ديه!!.
كان الجميع قد دلفوا إلى البهو وجارحي يوضح لوالدته
:- يا أماه.. ديه رياض صاحب عمري وديه بته صدفة
مصمصت شفتاها مستنكرة
وأمعنت النظر أكثر متسائلة
:- صدفة.. هي فين البت ديه !!.
ضيقت عينيها أكثر لتزداد التجاعيد حولهما وأشارت نحو صدفة تستدعيها
:- تعالي يا واد.. يوه جصدي يا بت
التفتت صدفة نحو والدها وجارحي بقلق وصبحية تربت على ظهرها تشجعها للتقدم بابتسامة لطيفة
حركت صدفة ساقيها نحو رئيسة وزاد من توترها مظهر سليمان
العاقد ذراعيه أمام صدره يرمقها بشماتة واضحة
كأنه يعلم ما هي مقبلة عليه
ولحسن حظها لم تستمع لكلمات سليم الساخرة الذي همسها في أذن شقيقه
:- رئيسة هتعملها كشف هيئة
شدت صدفة قامتها بثقة كاذبة أمام رئيسة التي مدت كفها المتغضن
وجذبت معصم  صدفة لتقترب منها أكثر وتأمرها
بخلع الكاب الذي يخفي وجهها بتبرم
:- اخلعي السخام اللي على راسك ديه
خلعت صدفة الكاب ببطء لتنسدل غرتها الناعمة فوق جبينها رغم قصر
شعرها الذي يشبه في قصته شعر الرجال
دققت رئيسة في ملامح الفتاة الرقيقة وقالت بشئ من الرضا
:- أيوه إكده ظهرلك منظر.. جربي يا صَدفة
انطلقت ضحكات الشباب بصخب وجارحي يرفع عقيرته
يحمم بخشونة ليسكت أولاده ويصحح نطق الأسم لوالدته
:- صُدفة يا أماه.. مش صَدفة
رددت رئيسة بعفوية
:- والله صَدفة حلو ..
بيهفهف إكده كيف نسيم البحر
أصوات الضحك المكتوم أثارت
الحنق في نفس صدفة وعبست ملامحها بغضب مكتوم
أشارت لها رئيسة من جديد آمرة
:- جربي يا بت .. مالك مخشبة إكده كيف لوح العچين
جذبتها رئيسة إلى حضنها تضمها إلى صدرها بقوة وكفيها تتفحصان
كل إنش في ظهر الفتاة حتى نزلت إلى أردافها المكتنزة وحين تركتها قالت بتلاعب
:- ما خراط البنات خرطك أهوه .. عامله فيها واد إكده ليه بجا
استرقت صدفة نظرة قلة حيلة نحو والدها تطلب الغوث لكن حدقتيها
اصطدمت بمقلتي سليمان المصوبة إليها بنظرة غامضة
قابلتها بنظرات ضيقة غيظًا وبرمت شفتها العليا باشمئزاز
ثم التفتت إلى رئيسة تبرر بسخط
:- اللبس ده مش للرجالة بس..
رجالي وحريمي كمان .. كل الناس بتلبس بناطيل
تدخل رياض أخيرًا موضحًا
:- معلش يا حاجة.. صدفة طول
عمرها عايشة معايا ومفيش ستات حواليها.. أمها اتوفت الله يرحمها
وهي يا دوب عشر سنين
استمرت رئيسة في جذب معصم الفتاة التي لم تطلق سراحه حتى الآن
لتجلس بجوارها ثم ربتت على ساقها بحنو هاتفه بترحيب مهادنة
:- أهوه بجا حواليها حريمات ومبجاش حداها حچه تاني
رفعت كفها المتغضن تملس على خصلات الفتاة القصيرة للغاية
  تنصحها بمهادنة
:- شعرك الچميل ديه همليه يطول ويهفهف إكده على ضهرك..
ولو احتچتى لأى شى إحنا إهنا وياكي أنا وخالتك صبحية
أخيراً ظهرت البسمة على ثغر صدفة تومئ برأسها بخفة وهدوء
وقد استشعرت حنان هذه العجوز المشاغبة، أما صبحية
فتهتف مرحبة تؤكد على كلام حماتها
:- ديه هتنور الدار كلاتها يا أماه رئيسة
رفع جارحي صوته يصرف أولاده
حين لاحظ استرخاؤهم في الجلسة
:- جاعدين تعملوا إيه..
يلا يا رچالة نزلوا عفش عمكم رياض وانصبوه في الشجة
تحركوا ببطء لتنفيذ الأمر وجارحي مازال يلقي أوامره على زوجته
:- وأنتِ يا صبحية فين الغدا.. عصافير بطنى بتنهج (بتنهق)
:- عينيا يا سيد المعلمين
ضحك هو ورياض يمزحان سويًا يستعيدان الذكريات وصبحية تقطع البهو
لتجذب صدفة معها لتساعدها في تحضير الطعام، تأبطت ذراعها
تميل عليها هامسة
:- أوعاكِ تزعلي من أماه رئيسة هي طيبة جوي بس لسانها ما يتوصاش
ابتسمت صدفة متفهمة تحاول الاستيعاب والاندماج في هذه الحياة الجديدة
التي تفتح ذراعيها لها بترحاب بعد طول عناء وترحال
*********
بعد الانتهاء من الغداء الذي احتوي على كل ما لذ وطاب من صنع صبحية
انتقل جارحي بضيوفه إلى الشقة المقابلة بنفس الدور الأرضى
حيث سبقهم إلى هناك أبناء جارحي لاستكمال ترتيب الأثاث
دلف جارحي أولاً يشير بذراعيه مُرحبًا
:- اتفضل يا رياض.. إيه رأيك بجا أنا جولت تجعد في الشُجة
اللي جصادى.. أصلك مش هتتحمل السلالم يا راچل يا عچوز
مال على صديقه ممازحًا يتأبط ذراعه ليواصلا تقدمهما داخل
صالة الشقة الصغيرة وخلفهما صدفة
استطرد جارحي بمرح وكأنه يستعيد شبابه بلقاء هذا الصديق القديم
:-  ونبجا نتوس سوا ونلعب طاولة على راحتنا
صدح صوت صدفة تسأل بتعجب
من على أعتاب غرفة جانبية تطل
على الشارع الرئيسي
:- الله ده مش عفشنا
التفت نحوها جارحي موضحًا
:- ديه شويه عفش كان الولاد بيباتوا عليه لما يجعدوا في الشجة إهنا
قال رياض معاتبًا
:- وديه كلام يا جارحي ناخد مكان ولادك… لالا مايصحش إحنا نرجع المولد
لغاية ما نلاقي شقة نأجرها.. همي يا صُدفة
كاد يغادر ويد جارحي تمنعه
بعد أن قبض على ذراعه يوقفه
:- على فين يا راچل أنت.. ما تهبط وتعجل.. العيال هيجعدوا في الشُجة اللي فوج
.. وأصلا سليمان في الچيش وبياچي زيارات ..
وسليم طول اليوم طايح بره على كيفه
تأبطت صُدفة ذراع والدها وقالت بحرج
:-بس يا عمي مش عاوزين نتعبك
ونغير نظام حياتكم
فرد ذراعه على كتف صدفة التي
اقتربت منه وقال بعفوية صادقة
:- مفيش تغير يا ست البنات…
العفش ديه زيادة ومش محتاچينه
يعني هنيم ولادي على الأرض ولا إيه إياك..
ولا بدك تحرمنى من صحبتك يا راچل أنت..
طب ده أنا ما صدجت لجيتك.. تعالي ارتاح يا رياض
جذب رياض ليجلسا سويًا في الصالة التي تتوسط غرفتين
أما صدفة فبدأت تتجول في أرجاء الشقة
تركت الصالة واتجهت إلى الغرفة الأخرى ودلفت ببطء
تدس كفاها في جيوب بنطالها الضيق تتابع ما يقوم به سليمان المنحني
فوق عوارض الفراش يقوم بربطها وسليم يثبتها من الجهة الأخرى
رفع سليمان هامته يسأل شقيقه
:- شوف إكده اتثبت زين ولا أجرط عليه زيادة
حرك سليم الفراش بقوة كأن زلازل قد ضربه ثم مدح شقيقه
:- الله ينور يا هندسة
وقفت صدفة باسترخاء تتمعن في ملامح سليمان المنهمك في عمله
وسألت بفضول مشاغب وهي تتقدم داخل الغرفة أكثر
:- وأنت بيقولولك هندسة ليه بقي.. بتشتغل كهربائي ولا ميكانيكي
أمال رأسه يتأمل وقفتها المرتخية بخبث مدركا رغبتها في مشاكسته
وقال وهو يضرب بمفك كبير كان
في يده داخل راحته
:- لاه.. بشتغل نچار تحبي أربط لك صواميل عجلك المفكوك ديه
وضعت قبضة يدها فوق خصرها تطالعه بحاجب مرفوع مشاحنة
:- أنا لا زي عقلي ولا زي رسمي آه… فوق لنفسك يا حليوه
تدخل سليم يقف بينهما يفض النزاع الموشك على الاندلاع
بعد أن رأى انقلاب ملامح شقيقه
:- روقوا يا جماعة ده سوء تفاهم..
يا صدفة سليمان مهندس تصنيع وصيانة آلات
زمت شفتيها تتمعن في ملامح سليمان الخشنة الجامدة المحدقة بها
وقالت متهكمة
:- مهندس بشهادة يعني
رفعت كفها تضرب تعظيم سلام
بتعوج بطريقة ساخرة
:- حصلنا الشرف يا هندسة..
اللي ما يعرفك يجهلك ماغلطناش
في البخاري
كان لا يزال يضرب بطرف المفك الكبير داخل راحته العريضة بعصبية
ثم وجه طرفه نحوها يخبط على
كتفها بشئ من القوة
:- طب وسعي من وشي خليني أهچ
من إهنا بدل ما أصور جتيلة
رفعت كفها تدلك أثر خبطة المفك الخفيفة على ذراعها هاتفة بلوم
:- طب ليه العنف ده طيب
تعالي صوت سليم يستوقف شقيقه
:- على فين يا سليمان.. طب استنى  نحط المرتبة فوق السرير
أشار نحو صدفة باستخفاف بطرف المفك قائلًا بسخرية
:- خلي شچيعة السيما تساعدك ثم ترك المفك فوق منضدة جانبية بعنف وصوتها يتبعه بتلاعب
:- آه أساعده ما ساعدوش ليه..
كنت ناقصة أيد ولا رجل
استدارت تشكو لسليم بنبرة متعجبة
:- ماله ده
زفر سليم يزم شفتيه وقال موضحًا
:- سليمان معتز بنفسه جدًا وما يحبش حد يقلل منه
وخصوصا إنه تعب لغاية ما أخد الشهادة وكان بيشتغل على
عربية النقل بتاعه أبويا أثناء الدراسة
لوت شفتها مستهجنة
:- وأنا كنت اتكلمت
فتحت عيناها بشقاوة تناظره برفعه حاجب وتسأل بفضول
:- وأنت بقي مهندس زيه يا عسل
قهقه ضاحكا وإجابها بانشراح
:- لا يا ستي أنا في كلية الشعب…
تجارة وادعيلي اتخرج السنة دي عشان أنول رضا المعلم جارحى
قالها ثم أشار لها لتتقدم معه وتساعده في حمل مرتبة الفراش
تمسكت بجانب المرتبة وهو من الأخر يواصل حديثهم الودي
:- وأنتِ بقي بتدرسي إيه ؟.
أطلقت ضحكة ساخرة وأجابت بعفوية
:- أنا فاشلة يا عمنا مش زيكم.. يا دوب أخدت الثانوية على سنتين
:- سنتين!!.
قالها متحيراً ففسرت له
:- أيوه عدت السنة مرتين وطلعت بملاحق كمان
ضحكت تتهكم على نفسها مردفه
:- وأنا كنت يعنى هتوظف في الحكومة.. كده كويس أوى ..
بصراحة مبحبش العلام ولولا أبويا كان مصر مكنتش كملت ثانوي..
بس هو اللى كان بيذقني عشان أكمل وكل ما أقوله كفاية ما أنا بفك الخط
وخلاص يقولي لأ ما أنا بفك الخط ومعيش شهادة
انتهوا من وضع المرتبة فوق الفراش وعدل سليم من وضعها حتى انتهى
ثم استقام واقفا بينما جلست هي فوق فراشها القديم تتأمل محتويات الغرفة
التي تحوى قليل من أثاثهم الشخصى
قال سليم بنبرة متعقلة وروية يفسر حال آبائهم
:- هم نفسهم نبقي أحسن منهم
في كل حاجة عشان كدا مصرين أننا ناخد شهادات
ابتسم بخفة يتعجب من نفسه
وهو يحيد بنظره نحوها
:- تصدقي أنا مش مصدق إنى بقول الكلام ده.. أنا نفسي عاوز أخد الشهادة عشان أرضي أبويا وبس.. أول مرة أحس فعلا بالكلام ده
خرجوا سويًا بعد دقائق حيث يجلس أبويهم فاستأذن سليم بتأدب
:- كله تمام يا معلم چارحي هتحتاچني في حاچة تانية
رفعت صدفة مقلتيها تناظر سليم بدهشة بعد أن عاد إلى لهجته الأم
أمام والده بينما جاوب رياض شاكراً
:- تعبناك يا سليم ربنا يبارك في شبابك
شكره سليم وكاد ينصرف إلا أن جارحي استوقفه
:- استني يا سليم أنا چاي أمعاك
نهض من مكانه والتفت نحو رياض يستأذن بالانصراف
:- أهملك أنا بجا يا رياض ترتاحوا شويه لو احتچت أى شى .. أنا جصادك طوالي
ألقى السلام ودلفوا للخارج مع كلمات شكر وامتنان من رياض وابنته التي أسرعت بعد أن أغلقت الباب ترتمي
في حضن والدها الذي ربت على كتفها متسائلا باهتمام
:- عجبتك الشقة؟.
جاوبت بسعادة جلية نابعة من إحساسها بالأمان داخل أربعة جدران مغلقة عليهم
:- أوي يا أبا ديه حلوه أوي وواسعة.. زي شقتنا القديمة لما أمي كانت عايشة
ترحم على زوجته وقلبه يتحسر على حياة ابنته التي قضتها معه في التجوال بين
الموالد دون منزل يجمعهم بين جدرانه إنما كانت الخيام مستقر لهم
وفي أحسن الحالات غرفة صغيرة بحمام مشترك تجمعهما سويًا
رياض بنبرة حزينة آسفة
:- سامحيني يا بنتي أتبهدلتي معايا في بلاد الله.. على عيني والله بس أعمل إيه اللى بيتولد فقير بيفضل طول عمره فقير مهما تعب وشقي..
كان نفسي ماتشوفيش اللي شفته بس الحوجة وقلة الحيلة..
غصبا عني والله
اهتز صوته بأسي باكي أثناء حديثه فهرعت صدفة لاحتواء جسده بين ذراعيها
تقبل جبينه بإكبار واحتقان مقلتيها ينذر بهطول قريب
:- ما تقولش كده يا أبا .. أنت أحسن
أب في الدنيا كلها .. بس الدنيا هي اللي وحشة أوي وحشة أوي
وقاسية علينا يا أبا
***********
تتحرك بعصبية جيئة وذهابا في بهو المنزل القديم، تنفخ بنفاد صبر
وتضرب بقبضتها في باطن كفها الآخر متجاهلة ابنتها كارما التي تلعب
بركن البهو بأحد الألعاب الإلكترونية
ظهرت حماتها في الممر المؤدي للمطبخ حاملة أحد الأوعية الكبيرة
البلاستيكية وتقدمت منها وهي تراقب حركتها العصبية بتعجب
حتى سألتها حين أصبحت أمامها مباشرة
:- خير يا بشري جلجانة ليه إكده  .. كفي الله الشر 
توقفت بشري عن التحرك وسألت بتحفز
:- نصير فين من الصبح..
أنا صحيت لقيته خرج
مطت ناعسة شفتيها ضجرًا من تصرفات زوجة ابنها المتأففة
منذ وصولهم بالأمس إلى البلدة
واصلت تقدمها وجلست براحة فوق أريكة في منتصف البهو واضعة
الوعاء البلاستيكي فوق ساقيها ثم أجابت بشرى ببساطة
:-  نصير خرچ من الصبحية يزور جبر أبوه الله يرحمه وهيجضي شويه مشاوير جبل ما يعاود
تخصرت بشري تهز ساقها بعصبية مرددة بامتعاض
:- ماقليش يعني إنه خارج من بدري
إجابتها بتهكم وهي ترميها بنظره ساخرة
:- وهو لازمن ياخد الاذن منيك عاد.. ولا كان يوجف حالة وينتظر چنابك تصحى من نومك .. ده أنتِ بتصحى
على الضهرية نومسيتك كحلي
اتسعت مقلتا بشري بغضب واستدارت حول نفسها ترمى بجسدها على أبعد مقعد عن حماتها واضعة ساق فوق الأخرى هاتفه بحنق
:-  المهم ينهى اللي وراه هنا ونسافر بسرعة…
أنا منمتش طول الليل من الناموس اللي عندكو ده
تناولت ناعسه سكين مطبخ كبير من داخل الوعاء البلاستيكي
وشرعت في تقطيع الخضروات داخلة
تجيبها بنبرة تحمل من السخرية الكثير على تصرفات هذه الفتاة المدللة
:-  بكره تتعودي عليه أو الناموس يعرفك ويبعد هو من نفسه
عضت بشري شفتها السفلى بغل ووجهت نظرها نحو شاشة التلفاز بلامبالاة
تحرك ساقها بعصبية في الهواء متجاهلة وجود حماتها
مر بعض الوقت قبل أن يعود نصير إلى المنزل ليجد بُشري مشتعلة الأعصاب
وبمجرد رؤيته يدلف من الباب هرعت إليه تتمسك بياقة قميصه مرددة بلهفة
:- قول أنك أخدت ميراثك وهنمشي
من هنا النهارده
رفع كفه فوق قبضتيها المتمسكة بفتحه قميصه
يتأمل ملامحها بدهشة وقال مستغربا
:- ميراث إيه!.. أنا لسه مكلمتش
أعمامي في الحكاية ديه من أساسه
فك قبضتيها عن ملابسه لتطلق سراحه وتقدم إلى الداخل ينادي على ابنته التي انتبهت أخيراً وفصلت نظرها عن شاشة اللوح الإلكتروني
نهضت كارما تفرك عينيها بكفيها  متجهة نحو والدها الذي رفعها بين ذراعيه يقبل وجنتيها بحب ومن خلف ظهره كانت بُشري تغلي غيظا وسألت بحدة
:- ليه ما اتكلمتش معاهم يا نصير..
أنت قلت أنك هتخلص الحكاية ديه المرة دي وأنك قادر تاخد حقك…
فين كلامك ده بقي
التفت نحوها يرمقها بتبرم وتقدم نحوها ببطء وابنته لازالت
فوق ذراعه يردد بهدوء شديد
:-  أنت عصبية كده ليه مش فاهم.. الموضوع ده مش هيخلص في يوم
وليلة .. وفهمتك الكلام ده قبل كده بدل المرة مرات
تأففت بضجر تشيح بذراعها في
الهواء تجادله بتحفز
:- على الأقل ابتدي فيه .. خد أى خطوة خلينا نخلص ونمشى من هنا
جلس جانبا ووضع ابنته فوق ساقه يعطيها قطعة من الشيكولاتة
أخرجها من جيب قميصه ثم انتبه إلى زوجته المتذمرة يجيب بروية أغاظها
:- أربعين أبويا كان إمبارح ..
في أصول وعادات لازم نلتزم بها
زفرت بملل ودبت قدمها في الأرض بعصبية هاتفه بنفاد صبر
:- يوووه.. هتقولي عادات
وعاهات وكلام فاضي
خرجت والدته من المطبخ تتقدم نحوهم بخطوات مسرعة وقالت محذرة من بين أسنانها، تنبههم لوجود عاملة تساعدها داخل المطبخ
:-  وطي صوتكم الست في المطبخ تسمع الفضايح ديه
رمقتها بُشري بحقد تطحن أسنانها غيظًا ثم أسرعت تدب الأرض بأقدامها صاعدة إلى الشقة العلوية
بينما ربت نصير على ظهر ابنته المتشبثة بعنقه برفق يهدأ من
روعها بعد أن أجفلت من صوت والدتها المرتفع
حدقتيه القاتمة تتابع صعود زوجته الحانقة وقد أوشك صبره على النفاذ
والحكمة تقول "اتق شر الحليم إذا غضب"

غيـوم البـعادWhere stories live. Discover now