تمور به أفكاره وخيالاته، ..
هل هذه هي الحياة التي كان يصبو إليها ويعيش بين رحابها في خياله على مدار سنوات طويلة
أم إنها صورة ممسوخة، باهتة مهلهلة يحيا فيها ذليل، خاضع لسلطان قلبه المفتت على قارعة الطريق
تحت وطأة عجلات طموحها
الأميرة التي أحبها تُخفى بين ثنايا نفسها طموح وحلم أكبر من كيانه أو قدرته على الاحتمال
وفي نفس الوقت لا يقوى على البعاد والافتراق عن حلمه الأثير
الذي تحول إلى كابوس .. جاثوم يقتات على نهش بقايا فؤاده المهشم إلى أشلاء متناثرة
لم ينتبه أثناء إبحاره في بحر آلامه إلى ذبذبات صوتها الرقيق المردد اسمه والذي كان يتوق من قبل لسماعه
مرات بعد مرات ليطمئن قلبه بقرب الحبيب
رفع مقلتيه بشرود صوبها حين وجد ساقيها توقفت أمامه،
يعود رويدا رويدا إلى أرض الواقع… يتأملها وهي تضع قرطا ذهبيا في شحمة أذنها الصغيرة
يتنقل بحدقتيه على ملامحها الرقيقة ليتوقف على حركة شفتيها لتعود حاسة السمع إليه من جديد
:- سرحان في إيه بالشكل ده يا جاد .. طبعا فيا
حرك رأسه ببطء يؤكد بنبرة استسلام
:- وعمر ما كان في غيرك
اتسعت ابتسامتها الجذابة واندست بجواره تستند فوق كتفه بذراعها وتطبع قبلة دافئة على خده مرددة بنبرة لطيفة ناعمة
:- وعشان كده أنا بحبك
حدق في عينيها القريبة منه يتمعن ويتفحص،
يبحث عن نفسه داخل أعماقها السحيقة .. كيف تراه وتشعر به، كم يرغب في سبر أغوار عقلها .. قلبها .. روحها التي تُعذب روحه الهائمة
أخيرًا خرج صوته حائر، متردد يرغب في إجابة حاسمة
:- بتحبينى بجد .. يعنى أنا موجود جوه قلبك
قربت بين حاجبيها المنمقين مندهشة، لا تستوعب أهمية سؤاله بالنسبة له، حركت كتفها ببساطة تؤكد بنفس نبرتها الهادئة
:- طبعا جوه قلبى .. أومال وقفت قصاد كل الناس واتجوزتك ليه
وكانت الإجابة سلاح ذو حدين
غُرس في عمق صدره يؤكد على ضآلة مكانته أمام عظم شأنها
ردد بصوت هارب، بائس يسأل نفسه قبل أن يسألها
:- صحيح .. اتجوزتينى ليه!!.
تفحصته بصمت للحظات لتتسائل بتعجب على حاله الغريب
:- إيه يا جاد إيه اللى جرالك .. من وقت ما وافقت على الشغل في مزرعة الدهشورى وأنت متغير وساكت
لوى جانب فمه ببسمة متهكمة
:- كويس إنك واخده بالك
جعدت جبينها مبتعدة بجذعها عنه قليلا تقارعه بحمية
:- ليه بقا وإيه اللى كان حصل .. أحنا متفقين أن مستقبلى ودراستى خط أحمر وليا حق التصرف براحتى
حرك رأسه عدة مرات في الهواء بلا معنى ثم قال بنبرة عتاب ولوم
:- ليكِ حق من غير ما ترجعى لجوزك ولو حتى بالمشورى .. تحصيل حاصل حتى يا ستى
اتسعت حدقتاها رفضا لهذا الأسلوب في الحديث ظنًا منها أن الأمر محسوم من قبل .. لذلك بررت قائلة
:- إيه الكلام ده يا جاد .. أنا مغلطش في حاجة .. واخترت إنى أنزل مزرعة الدهشورى في اليوم اللى بروح فيه لأهلى يعنى مش هاخد من وقت البيت ولا وقتك حاجة
نهض من مكانه يتخذ خطوتين للأمام، يتمسك بظهر كرسى المائدة بقوة يخرج به شحنات غضبه الدفين ويوضح ساخرًا
:- وقتى!!.. هو أنا ليا وقت أصلا .. ده أنا على الهامش يا دكتورة ..
باخد بواقى وقت فراغك
نهضت تتقدم نحوه وتقف بجواره تدافع عن اختياراتها من وجهة نظرها
:- أنا مش فاهمة أنت زعلان ليه .. أنا عارفة مصلحتى كويس
التفت لها بكامل جسده ونار الغيرة تتأجج بداخله من ذلك المحامى القاهرى المتأنق الوسيم
استدار إليها فجأة يستوضح بحدة
:- فهمينى بقى مصلحتك ديه إيه بالظبط .. عندك مزرعة المواشى بتاعه البدرى بتشرفى عليها .. هتستفادى إيه من مزرعة المحامى ده
وبمنتهى العملية والجدية البعيدة عن المشاعر أجابت دون تردد
:- هستفاد طبعا .. لما البحث بتاعى يكون فيه عينات مختلفة ومن أكتر من مزرعة أكيد قيمة
رسالة الماجستير هتكون أعلى
حدقت في وجهه بثبات مؤكدة بكل ثقة وإصرار
:- أنا عارفة مصلحتى كويس ومش هسمح بحاجة توقفنى عن مستقبلى وطموحى
رغم إدراكه أن كل تفكيرها منصب على عملها ودراستها فقط
إلا أن قلبه لم يهدأ متوجسًا من قربها من ذلك الرجل المثالي في نظره
تأمل جدية ملامحها وقال بقنوط من الحصول على أدنى قدر من المشاعر التي طالما تمناها منها
:- ما تقلقيش مفيش حاجة هتقدر توقفك يا دكتورة .. اطمنى
زفرت بعمق تتمسك بذراعه برقة، تقطع على نفسها وعدًا فشلت مرارا وتكرارا في الالتزام به
:- جاد .. أوعدك إنى هعمل كل جهدى عشان مقصرش في حقك أو في حق البيت ولا حتى حق مزرعتنا.. خلاص بقا يا جاد فك عقدة جبينك ديه
قاطعها بنبرة خرجت منه مرتفعة نسبيا دون إرادة منه مقارعًا
:- هي المشكلة في المزرعة ولا الوكل ولا غيره .. المشكلة في مراتي .. حقى إنها تكون جنبي
زفرت بحنق تجادله
:- وأنا هروح فين يعني… وهقولك تانى شغلي ودراستي خط أحمر ومش هتنازل عن أي منهم وده كان شرطي الوحيد قبل ما نتجوز
أرخى جفنيه لجزء من الثانية ليقرر بعصبية يحاول السيطرة عليها
:- وأنا مش رافض ولا ممانع كل الحكاية اني مش عاوز بعادك… أنت بتغرقي في الدراسة كل يوم عن اللى قبله لما نضيف لهم شغلك في مزرعة الدهشورى يبقي مش هشوفك خالص
تنهدت بإرهاق ورمت الكرة في ملعبه
:- جاد .. أنت كمان مشغول ووراك حاجات كتير… وأكيد هنظم مواعدنا مع بعض
لاذ بالصمت معين ومغيث للقلب الجريح، فلا جدوى من الحديث وهي راسخة على عقيدتها متناسية التزاماتها الزوجية
بل الأسوء .. متناسية قلبها ومشاعرها كأنثى
انقطع خيط الكلام ولم تنقطع النظرات الثائرة من الجانبين تنطق بحديث أبلغ من كل الكلمات
صوت رنات الهاتف المحمول قطع اتصالهم البصرى
لتتوجه ندى للرد على هاتفها المحمول وبعد لحظات عادت إلى جاد تخبره بهدوء
:- ده عم شفيق وصل تحت
أمال رأسه يتأملها من مكانه وهي توضح له برنامجها لليوم
:- أنا هروح مزرعة الدهشورى وبعدين هطلع على دار البدرى .. هتحصلنى على هناك طبعا
تقدمت نحوه تقترح بحماس في محاولة لتلطيف الأجواء
:- ولا إيه رأيك تيجى معايا مزرعة الدهشورى وبعدين نروح على دار البدرى مع بعض
:- أنا مش هروح دار البدرى
تصلبت ملامحها دهشة متسائلة عن السبب أما هو فابتعد متوجها إلى غرفة النوم وهو يجيب
تسائلها ببرود
:- أنا نازل القاهرة النهارده عندى شغل
سحب حقيبة ظهر وضعها فوق الفراش واستدار نحو خزانة الملابس يفتح ضلفتيه ولف رأسه صوبها وهي تقف على أعتاب الغرفة تراقبه بجمود وأردف مفسرًا مستعينًا بكلماتها وبلهجة محملة بالتهكم والعتاب
:- أنتِ عارفة الشغل ومستقبلى العملى خط أحمر .. ما أنا لازم اثبت حالى عشان أكون قد المقام
ثارت حفيظتها وتخطت العتبة إلى داخل الغرفة تهتف بحمائية
:- مقام إيه يا جاد .. أعتقد احنا تخطينا الكلام ده من زمان
ترك الملابس التي أخرجها من ضلفته فوق الفراش ووقف يقابلها متسائلا بجدية حازمة
:- بجد يا دكتورة .. يعنى تقدرى تعرفينى على أى حد من معارفك وزملائك وأنتِ فخورة بأنى جوزك.. تمشى معايا في أى مكان إيدى في إيدك مرفوعة الراس وأنتِ جنبى
رمشت جفونها لوهلة لتجيب بجدية رغم لمحة التردد في حروفها
:- طبعا .. وده اللى بيحصل فعلا .. ما كل الناس عارفين أننا متجوزين
أومأ ببسمة بائسة وزفر بعمق مرددا لينهى الحديث
:- على أى حال أنا هكلم المهندس جلال اعتذر عن حضورى
تقدمت ترفع ملابسه عن الفراش وتضعها داخل الحقيبة بعناية
وهي تسأل باهتمام
:- وهترجع أمتى؟.
:- مش عارفة حسب الشغل
رفع يدها عن حقيبته يوقف ما تفعله وصرفها بهدوء
:- اتفضلى أنتِ عشان متتأخريش على شغلك .. وأنا كمان متأخرش
رمقته بنظرة حائرة، تستغرب تصرفه وطريقة حديثه الجافة
:- طيب هستنى أوصلك لمحطة القطر .. العربية منتظره تحت
سحب نفس عميق، يشعر أن أنفاسه ضاقت به وقال باقتضاب
:- متشكر .. أنا هسافر بعربيتى المهكعة
طوت المسافة بينهما، ترفع ذراعيها تحاوط عنقه وتضمه إليها قبل أن تطبع قبلة على وجنته متعجبة من فتور مشاعره وهو يربت على ظهرها برفق وهمست له برقة
:- كلمنى أول ما توصل
أومأ بابتسامة طفيفة وودعها بنظراته حتى غادرت المنزل
أطلق أنفاسه الثائرة بقوة مشاعره يضغط على جانبى رأسه لعله يسيطر على قتامة أفكاره
فأكثر ما يؤرق عقله وقلبه الآن نظره التردد التي يلمحها داخل مقلتيها من حين للآخر
هل يستسلم راحلا أم يحافظ على ما وصل إليه في طريق حلمه
أم تراه فشل في الحصول على قلبها من البداية وما كان لم يكن سوى لمحة حلم لابد له أن ينتهي
******.
![](https://img.wattpad.com/cover/361166573-288-k10700.jpg)
YOU ARE READING
غيـوم البـعاد
Romanceالجزء الثاني من رواية التقينا فأشرق الفؤاد ♥️ بداية النشر فبراير 2024 قيد الكتابة