تراقب ابنها الوحيد بنظرات مشفقة وقلب يرتجف حزنا وكمدا عليه
وهو يجلس واجما، ساهمًا أمام شاشة التلفاز مكتوم الصوت
غير منتبه لما تعرضه من الأساس
منذ وصل البلدة مع غروب الشمس لاحظت تغير حالة وانغلاق ملامحه
ولم تكن قد علمت بعد بتطورات الأحداث معه
أفضى إليها بكل ما حدث خلال اليومين الماضيين
لتتفاجأ بأمر الطلاق والأعجب مطالبات طليقته واستغلالها للموقف بأسوأ ما يكون
حتى أنها قد حرمت نصير من رؤية ابنته بحجة واهية ومن جانبه
هو لم يرغب في الانسياق خلفها وافتعال المشاكل بدوره
حفاظا على سلامة ابنته النفسية
ابنته هي ورقة الضغط الرابحة في يد طليقته والتي من المؤكد ستعمل على استغلالها أفضل استغلال لما فيه مصلحتها الشخصية
تقدمت ناعسة نحوه بكوب من الشاي تضعه أمامه فوق المنضدة
تتصنع البساطة في حديثها لتخفي ألم قلبها تعاطفا معه
:- عملتلك كوباية شاي تروج راسك
انتبه من شروده على صوت والدته فتصنع بسمة خفيفة بدوره شاكرا بلطف
:- تسلم إيدك يا ست الكل
ربتت على ظهره بحنو تسانده و تؤازره وهي تتخذ مكانها بجواره،
التزمت الصمت للحظات مفكرة ولم تطق بعدها الصبر فأطلقت لسانها تتساءل باهتمام مشفقة
على حال ولدها الوحيد
:- بتفكر في إيه يا ولدى .. فضفض أمعاى .. أوعاك تكتم چواك
أرخى جفناه خزيا وإرهاقا وشغل نفسه في التقاط كوب الشاي
يرتشف منه رشفة صغيرة مطرق الرأس لبرهة
قبل أن يتمتم بشرود وكأنه يحادث نفسه
:- هقول إيه يا أمى .. الطلاق كان لابد منه .. أنا اتأخرت فيه كتير كمان عشان خاطر بنتى
ضغط على الكوب بين أصابعه بقوة غيظًا ونبرته تخرج بلوعة على ابنته
:- كان نفسى أشوف كارما النهارده .. بقالى أربع أيام مشفتهاش ..
تخيلى يا أمى أربع أيام.. عمرها ما غابت عن عينى يوم واحد من يوم ما أتولدت
قطبت والدته جبينها تعاطفا ومواساة مع شعور ابنها المتألم على فراق ابنته
وهو يردف شارحا ما حدث
:- كنت عامل حسابى أشوفها النهارده وأنا بوصل شيك بمستحقات بشرى لغاية عندها في البيت .. لولا ظهور المحامى اللى وكلته
ورفضى لطلبتها الجشعة .. خلاها في المقابل ترفض بكل تعنت
لما المحامى بتاعها طلب منها إنى أشوف البنت
لوى فمه متهكم يعيد كلماتها
:- بتقول البنت مريضة وحالتها لا تسمح بأى زيارة
شهقت ناعسة تضرب فوق صدرها توجسا وتُسرع بالسؤال جزعا
:- يا حبيبتى يا بتى .. لا تكون تعبانة صُح يا نصير
حرك رأسه نافيا يطمئن والدته
:- اطمنى يا أمى البنت بخير .. أنا كلمتها في التليفون عن طريق جدتها
واطمنت عليها بنفسى
تفكرت ناعسة في مصير الفتاة الصغيرة،
المتضررة الأولى والأخيرة في حالة الطلاق لذلك قالت باهتمام
:- وكيف هنهمل بتنا تتربى على يد بشرى وتشرب من طبعها العفش ديه
زفر بعمق وهو يضع الكوب فوق الصينية بشئ من العنف الغير
مقصود وقال بحزم
:- أنا مش هسيب بنتى تتربى بعيد عن عينى ولا على إيد واحدة زى بشرى.. المسألة مسألة وقت بس
قبض أصابعه فوق مسند المقعد بغل مكبوت يردد كلمات يصبر بها نفسه
على فراق فلذة كبده
:- المهم أننا لازم نربط على قلوبنا شوية وأنا متأكد إن بنتى هترجع لحضنى
أكمل حديثه داخل رأسه ساهم النظرات مفكرا
"بشرى كل اللى يهمها الفلوس والموضوع محتاج مساومة معها"
تنهدت والدته بلوعة تتحسر على حظ ولدها في الزواج مرددة بندم
:- مكنش ليك تتزوچ الحرمة ديه خالص .. جلبى ما رتحش لها من
أول يوم .. لكن مجدرتش اتكلم وأنت أول مرة تختار حرمة وتفكر تتچوزها
فسكت وجولت ربنا يخلف الظنون
مال بجذعه يستند بمرفقيه فوق ركبتيه ويسند ذقنه فوق أصابعه المتشابكة يؤنب نفسه بخفوت على خطئه الفادح في حق نفسه وحق ابنته فكان لزاما عليه أن يتخير الأم الأفضل لأولاده في المستقبل
:- كنت صغير وماليش تجارب مع الستات وكانت لابسة توب البراءة وقناع الطاعة
لوى زاوية فمه بشبه ابتسامة يسخر من سذاجته
:- وقلعت التوب ده بمجرد الجواز وظهرت على حقيقتها .. لولا الحمل وبعدها البنت كانت صغيرة ومحتاجة أمها مهما كانت الأم مهملة ولا يعتمد عليها .. مكنتش احتفظت بها على ذمتى كل الوقت ده
عدل وضع جذعه يلتفت نحو والدته مقررًا
:- الطلاق كان جاى في كل الأحوال .. مفيش منه مهرب
مسحت ناعسة على طول ظهره بحنو تدعو له من قلب أم مكلوم
:- لعله خير .. ربنا يعوضك بالأحسن منيها اللى تستاهلك وتحافظ عليك وعلى بتك ..
اتعشم في وچه الله الكريم يا ولدى
أومأ موافقًا ببطء يحمد الله في سره ويتمتم
:- ونعم بالله
أراح ظهره باسترخاء مكتفا ذراعيه أمام صدره يفضفض مع والدته
:- أنا لما لقيت نفسى مش هشوف كارما النهارده جيت على هنا على طول بدل ما كنت هاجى الصبح .. وأهو قلبى يطمن ويهدى
بوجودك جنبى يا ست الكل
فك ذراعيه ليلتقط كفها يلثمه بحب ويحتفظ به بين راحتيه ووالدته تطبطب بكفها الأخر فوق راحته
:- ربنا يباركلى فيك ويسعد جلبك يا ابن عمرى
لثم ظاهر كفها من جديد ثم أطلق سراحها ليغير مجرى الحديث
:- قوليلى .. مفيش أخبار عن المزرعة
حركت كفيها أمامها بمعنى لا أعرف
:- ماخبرش يا ولدى .. كل اللى أعرفه أن فراچ بيشرف عليها كيف ما جولتلى وأنا لا بروح ولا باچى لا چل ماعرف أخبارها
مسح على ذقنه مفكرًا يحاول تشتيت عقله قليلا عن ألم فراق ابنته
:- لازم أنظم الحكاية ديه أكتر من كده .. أنا مالحقتش المرة اللى فاتت وسبت كل حاجة في أيد فراج وسافرت
زفر بحنق يرفع كفيه يمرر أنامله خلال خصلات شعره القصيرة
يردف بانفعال وضيق
:- حاجات كتير لازم تتظبط في حياتى
تعلم والدته أن نصير يبذل قصارى جهده ولا ترغب أن تثقل عليه
خاصة في هذا التوقيت الحساس ومشاكله مع طليقته إلا أنها وجب
عليها التنبيه بما يقلقها
فقالت ببطء وبلهجة ناصحة
:- نصير .. أنا خابرة إن شغلك وحياتك في مصر لكن كمان المزرعة ديه
ماچتش تحت يدك بالساهل وفراچ مهما كان ولدهم وتربى على يد عمك وكلام أعمامك نافد عليه
ضيق عينيه ينتبه إلى حديثها واتهامها المبطن لفراج يتسائل بتوجس
:- أنتِ شاكة في حاجة يا أمى!!.
حركت رأسها نافية لا تملك تأكيدا لكن بخبرتها مع أعمامه لن يستسلموا ببساطة خاصة وإنه اقتنص حقه اقتناصا من بين مخالبهم وقلبها يخشى عليه من بطشهم لذلك قالت بتعقل
:- لاه كل جصدى يا ولدى .. حرص ولا تخون
أومأ يستوعب كلمات والدته ونصائح والده الراحل تدور في مخيلته وقال يؤكد عليها بعزم
:- عندك حق يا أمى .. لازم كل حاجة تبقى تحت نظرى .. ما حك جلدك مثل ظفرك.. على أى حال من الصبح هكون
هناك وهنظم الأمور مع فراج وأشوف إيه اللى لازم أعمله
تنهد بعمق يراقب نقطة بعيدة في الفراغ، يحدث نفسه بجدية
"يجب عليك أن تنظم كل أمور حياتك التي انقلبت رأسًا على عقب يا نصير"
********.
![](https://img.wattpad.com/cover/361166573-288-k10700.jpg)
YOU ARE READING
غيـوم البـعاد
Romanceالجزء الثاني من رواية التقينا فأشرق الفؤاد ♥️ بداية النشر فبراير 2024 قيد الكتابة