لما استيقظت من غفوتي القصيرة تلك التي تمنيت لو كانت أطول قليلا، كان ايقاع صوت رفيقي قد تغير، لقد كان يصرخ بشدة قائلا:
"لا، لا، دعوا زوجتي و شأنها."
أما أنا فكنت في حالة تشبه الغيبوبة، كنت أسمع الأصوات لكني عجزت عن الكلام أو التحرك، لقد نال مني الارهاق إلى درجة خطيرة، فأنا الضعيف البنية لم أتعود على المعاملة القاسية، لم أكن سوى فتى هزيل يمضي معظم وقته في قراءة التفاهات، و لم أتعود على النوم في زنزانة تشبه تابوتا حجريا.أنهى الرجل صراخه و نحيبه، و كان عليّ أن أسأله بعض الأسئلة، و قلت موجها الحديث له:
"ما الذي حدث؟ و ما الذي تفعله زوجتك هنا؟"
كان علي أن أعيد سؤالي ثلاث مرات، لأتلقى أخيرا الجواب منه، كان صوته هذه المرة ينمّ عن يأس شديد، و قال:
"لقد خُطفتُ أنا و زوجتي، و هي كانت بالقرب مني، لكنهم أخذوها البارحة قبل وصولك. سمعتُ صوت صراخها قبل قليل."كان عليّ مواساته لكنني لستُ متعوّدا على التصرف بلباقة، ثم قلت له:
"لقد أُختطف والداي منذ بضعة أيام..."
و قبل أن أنهي ما كنت أرغب في قوله، دقّ قلبي بشدة، و قلت في قرارة نفسي:
"رجل اختطفت زوجته، و هو نادم على معاملته السيئة لابنه، و صوته مألوف... هل من المعقول أن يكون هذا الرجل هو أبي؟!"و في اللحظة التي كنت فيها على وشك أن أكشف عن هويتي، سمعت صوت بوابة زنزانتي تفتح و شعرت بدخول أحدهم، و قام بتغطية عيناي، و لم أقاوم أبدا، فقد كنت قد تقبلت فكرة موتي بعدما قام ماريو بخيانتي و تجدد لقائي بمصاصة الدماء تلك.
أخيرا تسنت لي الفرصة لرؤية النور مجددا، في قاعة ضخمة منيرة، جلسنا إلى طاولة ضخمة، و خلف كل واحد من الحاضرين يقف رجل ملثّم لباسه أسود غريب. رأيت وجوهاً مألوفة، أبي و أمي و إيميلي و عجوز شمطاء مرعوبة، و الكل كان خائفا، لم أستغرب عند رؤيتي لهم، فقد توقعت تواجدهم هناك، و أما هم فقد كانوا مشغولين في القلق حيال حيواتهم.
بدا لي و كأن أبي ينتظر قدوم ضيف آخر، يلتفت إلى الوراء طوال الوقت، لكنني فهمته، لقد كان يظن أن الشخص الذي كان في الزنزانة بجواره شخص آخر، قلت في قرارة نفسي:
"لقد كان ذلك الفتى ابنك يا أبي، أنت نادم الآن لكن لن ينفعك الندم أبدا."
و شعرت و كأن أبي فهم بدوره ما يحدث، فمن المرجح أنه شعر بما شعرت به أنا، صوتي مألوف بالنسبة له، كيف لا و هو الذي تشارك معي كل تلك السنوات الطويلة؟! رمقني والدي بنظرة خاطفة و أومأت له برأسي و أحسست أنه فهم أخيرا.انتظرنا قليلا من الوقت تبادلنا فيه الكثير من النظرات، أمي تذرف الدموع من هنا، و أبي يتحسر من هناك، و إيميلي تتجاهلني و العجوز الشمطاء التي بدت و كأنها استسلمت لمصيرها، و لما لمحتها هادئة البال قلت في نفسي:
"لو كنت مكانك لما قلقت على حياتي. ألم تنالي كفايتك من العيش؟ أما تزالين ترغبين في المزيد من المعاناة؟"أتذكر ما دار في خلدي من أفكار، و كنت أستمدها من رؤيتي لجدة إيميلي، و رحت أتساءل محدثا نفسي مجددا:
"ان كانت هذه العجوز التي عاشت ثمانون عاما أو أكثر خائفة من الموت فماذا عنا نحن الشباب الذي أتينا للحياة البارحة فقط؟!"