الفصل الخامس

273 19 5
                                    

الفصل الخامس
( قاسم عبد العزيز )
لكل منا أسرار يمكن أن تذاع ، وأسرار أخرى دفينة يكره صاحبها أن تُنشر ، أمّا عن أسراري الدفينة التي أكره أن يعرفها أحد ، فهي ستظل معي حتى موتي ، ولن يعرفها أحد سوى حسين الأعرج ، لماذا ؟
لأنه شهد معي تلك الأيام ، أيام الطفولة والشباب ، وفى خلال الصفحات القليلة القادمة سأقصُ عليكم بعض أسراري التي لن انزعج إنْ نُشرت ، لماذا تركتُ زوجتي ليلى وابنتى نورا ؟
يا له من سؤال !
ولنْ أجيب عنه طبعا ، المهم أنى تركتهم ، ذهبتُ إلى القاهرة ، عملتُ سائقا لدى إحدى الشركات ، وكان الأجر زهيدا ، وكنتُ أقيم في الشركة ، وتعرفتُ على سعاد ، واستطعتُ ادّخار بعض الأموال التي شجعتني أن أحصل على شقة بالإيجار ، دلّني أهل الحِلّ على شقة أسكنها ، حارة الميكانيكي ، مكان عشوائي فقير لكن يفي بالغرض ، فلمْ أكنْ أحلم بأن أعيش في قصر على أي حال ، وما أثار انتباهي أن الحاج سعيد صاحب البيت لم يطلب مبلغا فادحا ، بل تركني أنا من أحدد الإيجار ، كنا نجلس على مقهى قريب وتم كل شيء بسرعة :
ـ تدفع كام يابنى ؟
قلتُ :
ـ أنتَ عايز كام إيجار وكام تأمين يا حج سعيد ؟
قال الرجل وهو يكركر النرجيلة :
ـ اللى تشوفه انت .
قلتُ بينما أرشف الشاى :
ـ بصراحة أنا مش معايا فلوس كتير .. يعنى قرشين كده على قد ظروفي .
قال الحاج سعيد :
ـ بلاش تأمين خالص .
معقولة ! هذا الرجل إمّا أن يكون زاهدا أو مغفلا ، قلتُ :
ـ طيب والإيجار ...عايز كام فى الشهر ؟
قال :
ـ قلتلك مش هنختلف ... انت تقدر تدفع كام ؟
قلتُ من فورى :
ـ 200 جنيه حلو ؟
قلتُها متوقعا أن يعترض ، لكن الرجل فاجئني بقوله :
ـ اتفقنا .
قالها بعد أن قبّل يديه وأخرج من جيب جلبابه الواسع أوراقا لأوقع باسمي على عقد الإيجار .

اشتريتُ سريراً وأريكة وبعض الأثاث المستعمل القليل ، وبعد يومين بينما أصعد درجات السلم قابلني رجل في الستين من عمره ، عرّفني بنفسه أنه يسكن الطابق الثاني ، ثم قال :
ـ أها ...أنت الساكن الجديد ... ساكن شقة الطابق الثالث ...صح ؟
تعجبتُ من تدخله في الأمر ، لكنّي أومأتُ برأسي موافقا ، فقال في شفقة :
ـ مسكين ... وكم دفعت للحاج سعيد ؟
هممتُ أن أقول أن هذا ليس من شأنك لكنني شككتُ أن ثمة لغز في الموضوع  فأجبت :
ـ 200 جنيه إيجار .
قال الرجل :
ـ وطبعا بدون تأمين ؟
أجبتُ فى تعجب :
ـ نعم .
قال ساخرا :
ـ مغفل ... شقتك مسكونة يا ولدى .
بدا الرعب على وجهي ، وقلتُ مسرعا :
ـ مسكونة ؟! إزاي ؟
قال :
ـ مسألتش نفسك فيه شقة بـ 200 جنيه ومن غير تأمين كمان في زمنا ده .
قلتُ :
ـ قولي أرجوك ... مسكونة إزاي ... وانت عرفت إزاي ؟
قال وهو يهبط درجات السلم :
ـ هتعرف بنفسك .

بعد يومين وفى ليلة لا أنساها ، كنتُ غارقا في نوم عميق كجثة أمنمحات ، وسمعتُ جلبة وحركة في المطبخ ، نظرتُ في ساعتي بعين مغمضة فوجدتها الثانية بعد منتصف الليل ، نهضتُ من سريري وتوجهتُ للمطبخ وكان ما رأيته مرعباً ، رأيتُ المقلاة موضوعة على موقد البوتاجاز وبداخلها ثلاثة أسماك تبقبق في الزيت ، تجمد الدم في عروقي وشعرتُ بأن بقعة سوداء تتسع أمام عينيّ  ، فعرفتُ أنني على وشك الدخول في إغماء أو سكتة قلبية ، قرأتُ المعوذتين ورحتُ أبحث بيدي المرتعشة على زر المصباح ، وما إن أضاء المصباح اختفتْ المقلاة بما فيها من زيتٍ وأسماك ، أضأتُ جميع مصابيح الشقة ، وعزمتُ أن أقضى ما تبقى من ساعات الليل متيقظا ، جلستُ في الصالة وبدأت أفكر ، أنا لم أحضر أسماكا ، هل ما رأيته كان حقيقيا ؟ هل أنا مرهق وقلة نومي هي من صورتْ لي هذا ؟
إذن الرجل الذي أخبرني بأن الشقة مسكونة كان على صواب .
يا للكارثة !
أنا سأتزوج سعاد بعد شهر ، كيفَ لو عرفتْ ؟
لولا سعاد ما كنتُ انتقلتُ إلي عملي الجديد ، فقد أوصتْ أحد أقاربها الأغنياء ليجد لي عملا في شركته ، وقد حدث ، ولولا هذا العمل ما كنتُ استطعتُ أن أجد شقة طوال حياتي ، وبينما أنا غارق في تفكيري سمعتُ أذان الفجر، فخرجتُ من فوري لأداء الصلاة في المسجد ، وبعد الصلاة جلستُ على أحد المقاهي أبدد الوقت حتى شرقتْ الشمس ودبّتْ الحياة في الحارة ، وذهبتُ إلى العمل .

نصف ملتزمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن